د. الياس ميشال الشويري
يعد لبنان، بتراثه الثقافي العريق وتنوعه الحضاري، من أكثر الدول تميزًا في المنطقة العربية. ورغم ما يملكه هذا البلد الصغير من إمكانات ثقافية وطبيعية تؤهله ليكون مركز إشعاع حضاري في الشرق الأوسط، يعاني من أزمات مستعصية ومتراكمة أدّت إلى شلل مؤسساته وتدهور اقتصاده. منذ نهاية الحرب الأهلية اللبنانية في عام 1990، توالت الأزمات السياسية والاجتماعية والاقتصادية، حتى بات لبنان مرتهنًا لسياسات تخدم مصالح ضيقة بعيدة عن تطلعات شعبه. للأسف، يسيطر على المشهد اللبناني اليوم مجموعة من السياسيين الفاسدين بامتياز الذين تفتقر ممارساتهم للكفاءة، وتطغى عليها الولاءات الطائفية والمصالح الشخصية، ممّا جعل لبنان مسرحًا متكررًا للصراعات والانقسامات الطائفية.
يهدف هذا المقال إلى تسليط الضوء على واقع الأزمة اللبنانية من خلال استعراض دور السياسيين الفاسدين ومسؤولياتهم، وكيفية تسخير السلطة لأهداف شخصية وطائفية، وأثر هذا النهج على مختلف القطاعات الحيوية في البلاد. كما يتناول المقال مسألة الفساد والمحسوبية وتأثيرها العميق على مؤسسات الدولة والتنمية الاقتصادية، وصولًا إلى استشراف رؤية لمستقبل لبنان، إذا ما توفرت إرادة حقيقية للإصلاح.
1- الأقزام السياسيون: تعريف وتداعيات.
- تعريف الأقزام السياسيين: يُقصد بأقزام السياسة تلك الفئة من الزعماء (اذا جاز التعبير، كونهم زعماء على ذوي عماء) والمسؤولين الذين يفتقرون للكفاءة، والرؤية الاستراتيجية، والالتزام بخدمة الشعب، وتوجيه البلاد نحو تنمية مستدامة. هؤلاء السياسيون الحقيرون لا يمتلكون الإرادة الحقيقية للإصلاح ولا يسعون لتحقيق تطلعات المواطنين، بل يركزون على أهدافهم الضيقة الخاصة التي تضمن بقائهم في السلطة. تعتمد هذه الفئة الفاقدة للضمير على تكتيكات تقسيمية، مثل استغلال الولاءات الطائفية والشخصية لتحقيق السيطرة، ممّا يرسّخ الانقسام ويؤدي إلى ضياع مفهوم الوحدة الوطنية.
- تداعيات هيمنة الأقزام السياسيين: يؤدي وجود هؤلاء إلى تفاقم الأزمات وعدم استقرار البلاد، من تسرّب الفساد من رأس الهرم إلى كافة مستويات الإدارة، الى ضعف المؤسسات التي تصبح عرضة للاستغلال، وتتعزّز الشعور بانعدام الثقة بين المواطنين ومؤسسات الدولة. كما ينتج عن ذلك استياء شعبي واسع، ويزداد الوضع سوءًا بانتشار الفقر والبطالة، وتفاقم الأزمات الاقتصادية والمعيشية التي يعاني منها المواطنون يومياً.
- أثر الأقزام السياسيين على التنمية: يعوق هؤلاء السفلة التنمية الاقتصادية والاجتماعية، حيث يعطلون الجهود الإصلاحية الحقيقية، ويعرقلون محاولات بناء دولة قوية تعتمد على الكفاءات والمؤهلات بدلاً من الولاءات. نتيجة لذلك، تصبح الخطط الاقتصادية والتنموية مجرّد شعارات سياسية ولا تُترجم إلى أفعال ملموسة، ممّا يعوق التقدّم ويؤدي إلى هجرة الأدمغة وتراجع الإنتاجية في المجتمع.
2- الحروب والصراعات: نتائج السياسات الفاشلة.
- تاريخ لبنان مع الحروب والصراعات: منذ الاستقلال، كان لبنان مسرحًا لصراعات عديدة محلية وإقليمية. الحرب الأهلية (1975-1990) كانت نقطة تحوّل مؤلمة في تاريخ البلاد، حيث مزقت المجتمع وأضعفت المؤسسات. خلفت تلك الحرب دمارًا اقتصاديًا واجتماعيًا ونفسيًا هائلاً، وعمقت الانقسامات الطائفية والاجتماعية، واستمرت هذه الانقسامات وتفاقمت مع استمرار التوترات والنزاعات التي تلتها، من توترات داخلية وتدخلات خارجية.
- عجز الأقزام السياسيين أمام الصراعات: أظهرت السياسة اللبنانية ضعفًا كبيرًا أمام هذه الصراعات، حيث افتقرت القيادة السياسية لرؤية بعيدة المدى تنقذ البلاد من التحوّل إلى ساحة تصفية حسابات إقليمية ودولية. استخدم بعض القادة السياسيين الفاسدين بامتياز ورقة الصراع لتحقيق مكاسب شخصية، ما أدّى إلى تضخيم الخلافات بدلًا من حلها، وجعل لبنان رهينة للمصالح الخارجية. فبدلاً من التوجّه نحو الدبلوماسية والتسوية، اتجهت هذه القيادات نحو أساليب العنف التي عمقت الشرخ في النسيج الاجتماعي اللبناني.
- آثار الصراعات على المجتمع: أدّت هذه النزاعات إلى استنزاف موارد البلاد وإضعاف بنيتها التحتية، وزيادة نسبة الفقر والبطالة. كما تركت أثارًا نفسية عميقة على المجتمع، خاصة بين الأطفال والشباب، حيث باتت هناك أجيال تعيش تحت وطأة الخوف، وتفتقر إلى الاستقرار، وتتحمّل نتائج تلك السياسات الفاشلة. أصبح المجتمع اللبناني مشحوناً بالخوف والشك، وازداد انعدام الثقة بين الطوائف المختلفة، ما يعيق إمكانية التعايش السلمي وبناء دولة قوية.
3- الفساد والمحسوبية: أزمة الدولة.
- واقع الفساد في لبنان: يُعتبر لبنان من الدول التي تعاني من مستويات عالية من الفساد، حيث أصبحت الرشوة والمحسوبية جزءًا من ثقافة العمل في مؤسسات الدولة، وتغلغلت المصالح الشخصية في الشؤون العامة التي عرقلت القرارات والإجراءات التي تهدف لخدمة المواطن. حيث تسيطر مجموعات نافذة على القرارات الحكومية وتستغل الموارد لتحقيق مكاسب شخصية، جعلت حقوق المواطنين ورفاههم مسألة هامشية.
- أسباب الفساد: يعزى الفساد إلى عدة عوامل، من أهمها ضعف المؤسسات الرقابية وغياب المساءلة القانونية، حيث لا تتم معاقبة المسؤولين الفاسدين، ممّا يشجّع على استمرار الفساد. كذلك، يُعزّز النظام الطائفي المحسوبية حيث يضعف من مفهوم الكفاءة والجدارة في التعيينات، ويشجّع على تعيين أشخاص بناءً على الولاء الطائفي بدلًا من الكفاءة.
- الآثار الاقتصادية والاجتماعية للفساد: أدى الفساد إلى تراجع مستوى الخدمات العامة مثل التعليم، والصحة، والبنية التحتية، وزيادة البطالة والفقر. إضافة إلى ذلك، عجزت الدولة عن توفير أبسط الاحتياجات الأساسية لمواطنيها، كالكهرباء والماء، ممّا أدّى إلى حالة من الغضب والإحباط لدى الشعب اللبناني. الفساد يُعد عائقاً كبيراً أمام التنمية الاقتصادية، حيث يعوق تدفق الاستثمارات الخارجية ويُفقد الثقة بمناخ الأعمال في لبنان، ممّا يؤدي إلى تدهور الاقتصاد وزيادة الدين العام.
4- رؤية للمستقبل: نحو لبنان جديد.
- الحاجة إلى إصلاحات جذرية: للنهوض بلبنان، لا بد من إجراء إصلاحات سياسية تضمن الشفافية والمساءلة، ووضع نظام جديد يعزّز من قيمة المواطنة والانتماء الوطني على حساب الطائفية. يجب أن تشمل الإصلاحات إعادة هيكلة النظام السياسي ليضمن فصل الدين عن الدولة ويضع مصلحة الشعب فوق المصالح الشخصية والطائفية. إضافةً إلى ذلك، يجب أن تُدعم الحوكمة الرشيدة بتعزيز دور المؤسسات الرقابية والقضاء المستقل النزيه لردع الفساد.
- أهمية الثقافة والتربية في بناء وعي جماعي: يساهم التعليم والتثقيف في بناء وعي جماعي لدى المواطنين حول قضايا الفساد والطائفية والعدالة الاجتماعية. الاستثمار في التعليم سيساعد في إنتاج جيل جديد يحمل رؤية تتجاوز الانقسامات الطائفية ويطمح إلى بناء مجتمع متماسك. كذلك، يلعب المجتمع المدني دورًا محوريًا في نشر الوعي والمطالبة بإصلاحات حقيقية.
- التعاون مع المجتمع الدولي: يمكن للمجتمع الدولي أن يلعب دورًا إيجابيًا في دعم لبنان على المستويين السياسي والاقتصادي. من خلال التعاون مع المجتمع الدولي ومؤسساته، يمكن للبنان أن يحصل على الدعم الفنّي والمالي لتحقيق التنمية المستدامة. يُشترط في هذا التعاون أن يتّم على أساس احترام السيادة اللبنانية وعدم التدخّل في شؤونه الداخلية، بل أن يُوجّه لخدمة المواطنين ودعم المؤسسات.
- التطلّع نحو التنمية المستدامة: يجب أن تسعى الدولة إلى تنويع اقتصادها وتنمية القطاعات المختلفة كالسياحة، والزراعة، والصناعة، لتقليل الاعتماد على المساعدات الخارجية. هذه الاستراتيجية ستسهم في خلق فرص عمل جديدة وتحقيق نمو اقتصادي مستدام، ممّا يعزّز من استقرار البلاد ويُحسّن مستوى معيشة المواطنين.
5- الخاتمة.
- لبنان بين الاستمرارية أو الانهيار: لبنان اليوم يقف على مفترق طرق، حيث يؤدي استمرار الأوضاع الحالية إلى انحدار البلاد إلى الفوضى والانهيار التام. إلا أن الفرصة لا تزال موجودة للتغيير إذا توفرت الإرادة الجماعية للعمل المشترك لتحقيق الإصلاح. يتطلّب بناء لبنان جديد جهدًا جماعيًا وتعاوناً بين جميع الأطياف السياسية والاجتماعية، بعيدًا عن الأجندات الخاصة.
- أهمية الوعي والتضامن: للوصول إلى رؤية مستقبلية للبنان، من الضروري تعزيز الوعي السياسي والاجتماعي لدى الشعب اللبناني، ليتجاوز الخطابات الطائفية وينبذ كل أشكال الفساد والمحسوبية. التضامن بين اللبنانيين، والوقوف صفًا واحدًا، هو الطريق الوحيد نحو التغيير الحقيقي، وإعادة بناء لبنان كدولة تسعى لتحقيق الكرامة والعدالة لجميع أبنائها.
- الأمل في المستقبل: رغم التحديات، لا يزال الأمل قائمًا في بناء وطن يفتخر به الجميع. يتطلّب ذلك جهودًا مخلصة من كافة الأطراف، واستعدادًا لمواجهة الفساد والتحديات بروح التغيير. لبنان الذي يتوق إليه أبناؤه هو لبنان يحترم حقوقهم ويوفّر لهم فرص العيش الكريم، ويحتضن تنوعهم بعيدًا عن الانقسامات الضيقة.