ما نفع القسم اذا لم نلتزم به ؟
د. الياس ميشال الشويري
في إنجيل القدّيس متى ٥:34، يقدّم الرب يسوع تعليماً ثورياً ضمن العظة على الجبل بقوله: “أَمَّا أَنا فأَقولُ لكم: لا تَحلِفوا أَبداً”. هذا الإعلان، الذي يبدو بسيطاً ظاهرياً، يحمل في طياته بُعداً روحياً وأخلاقياً عميقاً، ويدعونا إلى مراجعة علاقتنا بالحقيقة، والصدق، والثقة في الكلمة. وفي سياق المجتمع اللبناني، الذي يعاني من أزمات ثقة مزمنة، وفساد في مختلف المؤسسات، وتضخم في الأقوال غير الموثوقة، تكتسب هذه الوصية بُعداً عملياً غير مسبوق. من هنا، يهدف هذا المقال إلى دراسة هذا النص الإنجيلي في ضوء أبعاده اللاهوتية والأخلاقية، مع إسقاطات مباشرة على الواقع اللبناني، ضمن ثلاثة محاور رئيسية: الخلفية النصية وتعاليم المسيح، المفهوم اللاهوتي للحلف، والتطبيق العملي في السياق اللبناني.
- تعاليم المسيح في ضوء الخلفية اليهودية وربطها بالممارسات الاجتماعية في لبنان
كان المجتمع اليهودي في زمن المسيح يستخدم الحلفان بكثرة، سواء في المعاملات أو أمام المجامع، وكان يُميَّز بين الحلف باسم الله، الذي يُعدّ ملزماً، وبين الحلف بأشياء أخرى، كالسّماء أو الأرض، الذي اعتُبر أقل قدسية. هذه التفرقة قادت إلى خداع وتلاعب، حيث يُستخدم الحلف كأداة للتهرب من الالتزام الحقيقي. في مقابل ذلك، جاء يسوع ليؤكد أن المؤمن يجب أن يكون صادقاً بطبعه، دون الحاجة إلى القسم، إذ يكفي أن يكون كلامه “نعم نعم، لا لا“.
هذه الصورة القديمة تعكس واقعاً مشابهاً في لبنان (وغير لبنان)، حيث يكثر الناس من الحلف في حياتهم اليومية، في السوق، وفي السياسة، وحتى في الإعلام، كأن الحلف صار بديلاً من الصدق المفقود. تسمع عبارات مثل “وحياة ولادي” أو “وحياة الله” بشكل يومي، لا لتأكيد الحق، بل لإخفاء الكذب. هذه الثقافة المنتشرة تُظهر الحاجة الماسّة إلى استعادة قيمة الكلمة، وإلى تعليم يربّي الضمير على الصدق دون الحاجة إلى مظاهر شكلية.
يسوع، من خلال تعليمه، يعيد بناء العلاقة بين الإنسان والكلمة، ليجعلها علاقة مبنية على الأمانة الداخلية لا على المظاهر الخارجية. في لبنان، حيث انعدام الثقة يطال مختلف فئات المجتمع، من السلطة السياسية إلى العلاقات الشخصية، تبرز الحاجة إلى تعاليم المسيح كمنهج لإعادة بناء الثقة المجتمعية. فالدعوة إلى عدم الحلف هي في جوهرها دعوة إلى الثقة بالنفس، وبالآخر، وبالله، بعيداً عن التلاعب اللفظي.
- الحلف في المفهوم الكتابي واللاهوتي وتأثيره على الثقافة اللبنانية
يظهر الحلف في الكتاب المقدس كممارسة شرعية أحياناً، خصوصاً في العهد القديم، لكن دائماً ضمن شروط مقدسة ومحاطة بالخشية الإلهية. فقد حذّر الرب من استخدام اسمه باطلاً، مشدداً على قدسية العهد والكلمة. غير أن العهد الجديد، وبخاصة تعاليم يسوع، جاء ليعطي تفسيراً أعمق، حيث يُستبدل الحلف بحياة صادقة لا تحتاج إلى إثباتات. متى الإنجيلي أيضاً يعيد التأكيد: “فلْيَكُنْ كلامُكم: نعم نعم، ولا لا. فما زادَ على ذلك كانَ مِنَ الشِّرِّير“، متى ٥:37.
في لبنان، حيث اللغة المحكية مشبعة بالحلفان، صار استخدام القسم أسلوباً للتمويه أكثر من كونه تعبيراً عن قدسية الحق. يواجه اللبنانيون تحدياً مضاعفاً: من جهة ثقافة تُبرّر الكذب بالحلف، ومن جهة أخرى انعدام الثقة في الدولة، في القضاء، وفي الإعلام. هذا الواقع يجعل من تعليم المسيح صوتاً نبوياً يُعلن أن الصدق لا يحتاج إلى تبرير، وأن الكلمة الصادقة أقوى من ألف قَسم.
لاهوتياً، القسم غير الضروري يُعبّر عن ضعف في الإيمان، وكأن الكلمة وحدها لا تكفي، في حين أن من يعيش في حضرة الله يدرك أن كل كلمة ينطق بها هي شهادة أمامه. بالتالي، يعلّمنا المسيح أن نعيش بشفافية تُغني عن الحلف. في السياق اللبناني، حيث الكذب مبرّر بحجج الطائفية والمصلحة الشخصية، تصبح هذه الدعوة إعلاناً ثورياً يُعيد ترتيب أولويات الحياة الاجتماعية.

- تطبيق تعاليم المسيح في مواجهة الأزمات اللبنانية
يواجه لبنان اليوم أزمة أخلاقية تُجسدها ممارسات متعددة: فساد إداري، تضليل إعلامي، انعدام الشفافية في السياسة، وخراب في الثقة بين المواطن والدولة. في هذا المشهد، يبدو تعليم يسوع حول الامتناع عن الحلف دعوة ملحة لإصلاح أخلاقي شامل يبدأ من الكلمة. حين يكون الصدق هو القاعدة، لا الحاجة إلى القسم. وعندما يلتزم القادة بكلماتهم دون وعود فارغة، تُبنى الثقة تدريجياً في مؤسسات الدولة.
على المستوى الفردي، يحتاج المواطن اللبناني إلى أن يكون “نوراً وملحاً” في مجتمعه، يعيش بمصداقية وأمانة، فلا يُجبر على الحلف لإثبات صدقه، ولا يستخدم الحلف لتغطية كذبه. كذلك، على الكنيسة أن تلعب دوراً تربوياً حاسماً، بتنشئة أجيال جديدة تتربى على “نعم نعم، لا لا“، وتدرك أن الكلمة الموثوقة أغلى من كل تعهد. الكنيسة مدعوة لتعليم الشباب والبالغين معنى المسؤولية في الحديث، لأن كل كلمة لها وزنها الأخلاقي أمام الله والناس.
حتى في القضاء اللبناني، حيث يُطلب الحلف أمام المحكمة، يمكن إعادة النظر في فلسفة القسم القانوني، بحيث يُربط بالمبدأ الروحي لا بمجرد الأداء الشكلي. وإذا نجحنا في بناء ثقافة مسيحية ملتزمة بالحق، فلا يعود هناك فرق بين القسم والكلمة، لأن الإنسان يصبح هو نفسه “شهادة حية”. وهكذا، تتحول دعوة يسوع إلى إصلاح شامل يبدأ بالكلمة الصادقة وينتهي بمجتمع متصالح مع الحقيقة.

- الخاتمة
تعليم المسيح “لا تحلفوا أبداً” ليس فقط توجيهاً روحياً، بل مشروعاً أخلاقياً لبناء ثقافة الثقة. وفي لبنان، حيث تغلب على الحياة العامة مظاهر الكذب والخداع، يبرز هذا التعليم كصوت نقيّ يدعو إلى الصدق والشفافية والاتساق بين القول والفعل. إنها دعوة لبناء مجتمع لا يحتاج إلى الحلفان، لأن فيه يعيش الناس بالحق. فحين نتمثل بتعاليم يسوع، ونتبناها في سلوكنا الشخصي والعام، نصبح نحن أنفسنا القسم الصادق، والشهادة الحقيقية التي لا تتزعزع.