اهالي الشهداء
د. الياس ميشال الشويري
حين تمرّ الأمم في نكبات كبرى، تختبر ليس فقط قدرتها على الصمود، بل أيضًا صدق إيمانها، وعمق وعيها، ونوعية حكّامها. أما في لبنان، فقد اجتمعت في لحظة الرابع من آب 2020 كلّ علامات الانهيار، لا في الحجر فقط، بل في القيم. انفجار المرفأ لم يكن مجرد مأساة، بل فضيحة شاملة للدولة، والقضاء، والمجتمع، والضمير. وبينما تهاوت الأبنية، تهاوت معها أوهام العدالة والمؤسسات، وبقيت الحقيقة الوحيدة واضحة وضوح الدم المسفوك: أن السفلة يحكمون هذا البلد، وأن الحثالة تسكن قصور السلطة، وأن شرفاء الأرض يُدفنون على مرأى ومسمع من السماء.
لكن ما هو دور الإيمان في كل ذلك؟ وأين هي العدالة الإلهية حين يُدفن شبابٌ في ريعان العمر تحت الردم، وتنجو زمرة من اللصوص والسماسرة والسفلة، فيتفاخرون بنجاحهم في تمييع التحقيق، وفي استثمار الدماء في بورصة السياسة؟
هل العدالة الإلهية مغيبة؟ أم أنها تعمل وفق منطق لا يراه المقهور؟ وهل المطلوب من الإنسان أن يصمت باسم الإيمان؟ أم أن الإيمان الحقيقي يقتضي مقاومة الظلم، لا التواطؤ معه باسم الصبر والقضاء والقدر؟ هذه الأسئلة ليست ترفًا فكريًا، بل صرخات شعب جُرِّد من الحياة والكرامة، وحُكم عليه بأن يُراقب قاتليه على الشاشات وهم يتبادلون الاتهامات، ويتقاسمون الغنائم، ويضحكون أمام عدسات الكاميرا.
في هذا المقال، نحاول أن نقرأ فاجعة ٤ آب لا فقط كحدث، بل كمرآة تعكس خللًا أعمق في فهمنا للعدالة، وتفتح باب التفكير الصادق في معنى الإيمان، ودور الألم، ومصير الوطن الذي خُطف على يد الأوغاد، وبات ينتظر خلاصه من صمت السماء وعدالة الأرض معًا.
- العدالة الإلهية بين صمت السماء وتجبر السفلة
في بلد كلبنان، تبدو المفارقة قاسية حدّ الهذيان: شباب في عزّ أحلامهم يُسحقون تحت الركام، بينما سماسرة الطوائف ومجرمو الحرب وقُطّاع الطرق يعتلون المنابر، يُنظّرون بالوطنية، يقتلون ثم يخطبون، يسرقون ثم يُطالبون بالإصلاح. هنا يصرخ الضمير: هل يعقل أن تترك السماء زمام الأمور في يد الحثالة؟ من جعل هذا السقوط الأخلاقي ممكنًا؟ أليس في مشهد مثل ٤ آب، حيث مات الأبرياء بصمت، وتجول المجرمون بحرية، ما يستفز فكرة العدل الإلهي؟ لكن الإجابة لا تأتي من صرخة الاستسلام، بل من عمق الإيمان بأن عدالة الله لا تُقاس بسُرعة العقوبة، بل بفضيحة المجرم وهو حيّ، وبالعار الذي يلاحقه، وإن أُغلق عليه باب السجن.
عدالة الله ليست غائبة، بل تتقدّم حين تتعفّن عدالة الأرض. هل يُعقل أن تمرّ سنوات على مذبحة بيروت بلا محاسبة؟ نعم، في بلد يحكمه الكذبة، ويحمي بعضهم بعضًا بأغطية طائفية، يصبح الظالم مرتاح الضمير، لأنه لا يرى من يردعه. لكن التأجيل السماوي في مثل هذه الفواجع ليس ضعفًا، بل هو نزع للأقنعة، وفضح ممنهج. فكلما تأخر الحساب، كلما تكشّف لنا حجم السقوط: كيف يُبرَّأ من دسّ السمّ في قلب العاصمة، وكيف يُمنح منصبٌ لمن غطّى الجريمة. وكلما طال الصمت، كلما صرخ وجه المجرم دون أن يتكلم. هذه العدالة لا تُشبِع الرغبة بالثأر، بل تنزع الشرعية عن كل سلطة يحتمي بها السفلة، حتى لو بدا أن الأرض كلها تبتلع الحق.
أخطر ما في مشهد ٤ آب، ليس الدمار فقط، بل تلك النرجسية السافلة التي ظهرت في تصرّفات الطغمة الحاكمة. لم يعتذر أحد، لم يستقِل أحد، بل خرج بعضهم يتكلّم عن مؤامرات، وآخرون اتهموا الضحايا بـ”التهويل“. هؤلاء الحثالة، الذين اغتصبوا كل ما في الدولة من معانٍ، ظنوا أن الإفلات من العقاب هو تفويض إلهي. لكن من يدرك جوهر الإيمان يعرف: أن السفالة حين تتمدد، لا تكون انتصارًا، بل إنذارًا نهائيًا قبل سقوط حتمي. الله لا ينسى. والدم الذي يُسفك بلا محاكمة، يُدوَّن في ميزان لا يخطئ، حيث تُقلب الموازين، ويُعلَن سقوط كل من صعد فوق الجماجم.

- الألم كأداة إلهية لفضح الانحطاط وصنع اليقظة
الألم الذي ولّده انفجار ٤ آب لم يكن فقط نتيجة انفجار مادي، بل انفجار أخلاقي، حيث شعر اللبناني أنّ حياته لا تساوي شيئًا في ميزان من يتحكمون بالبلد. الفقراء ماتوا، والمتطوعون تمزقوا، والممرضات تحولت أجسادهن إلى تراب، فيما القتلة يُحضّرون المؤتمرات الانتخابية، ويطلبون أصوات الناخبين. لكن هذا الألم بالذات هو الذي أعاد تعريف العلاقة بالله وبالوطن. ليس ألمًا للضعف، بل ألمًا نبيلًا، يُفضح من خلاله المنحطون. لقد صار الجرح هو الدليل، والصمت المجرم هو البرهان، وما بقي من وجدان، صار هو صوت الله في أرض لم تعد تنصت للسماء.
حين ينفجر المرفأ، تنفجر معه الكذبة. قبل ٤ آب، كان البعض لا يزال يراهن على أن الحُكم في لبنان يحتوي على “بعض الشرفاء“، أو أن “المنظومة فاسدة لكن ليست قاتلة“. بعد ٤ آب، انتهت الأوهام. الكارثة صنعت صحوة: هؤلاء لا يهتمون بأحد. من يحكمنا هم حفنة من عديمي الضمير، لا يرون في الناس سوى أرقامًا انتخابية أو حطبًا لصفقاتهم. والمفارقة أن الله استخدم الألم ليفتح العيون، وليفضح حتى من ظنّ أنه بعيد عن التهمة. فالحثالة تفضحهم الكارثة أكثر مما تفضحهم المحاكم.
في وسط الموت، هناك من اكتشف ذاته من جديد. هناك من قرّر ألا يصمت بعد اليوم، من قرر أن يعيش لا بانتظار العدل السماوي فقط، بل بالمشاركة في تحقيقه. لقد حوّل بعض أهالي الضحايا مأساتهم إلى صرخة، لا فقط للمحاسبة، بل ضد الصمت الاجتماعي. لقد خلق ٤ آب وعيًا دينيًا جديدًا: أننا لا ننتظر السماء لأننا عاجزون، بل نؤمن بها لكي ننهض، ولكي لا نُصاب بعدوى السفالة السياسية المنتشرة. الألم هنا صار تمييزًا بين من ما زال قلبه حيًا، وبين من فقد كل حسّ إنساني. وهؤلاء الحثالة، مهما طال بقاؤهم، هم علامات فشل العدالة الأرضية، لا انتصار لها.

- من العدالة المؤجلة إلى العدالة المُمَثّلة في فعل الناس
من ينتظر عدالة من السماء تهبط فجأة ليُعاقب الفاسدين، ينتظر المستحيل. الله لا يعمل بالمعجزات في الأنظمة الفاسدة، بل بالضمائر التي لم تفسد. العدالة الإلهية لا تسقط على الحثالة كصاعقة، بل تنهكهم من الداخل، وتجعلهم يعيشون في خوف دائم. لكن الأهم أن الله يطلب من الشرفاء أن يتحركوا: أن يفضحوا، أن يوثقوا، أن ينظّموا الألم. هذا هو الثأر النبيل. أمّا من يرضى أن يكون تحت حكم المجرم ولا يتحرك، فقد اختار لنفسه أن يكون خادمًا في قصر السفلة.
الإيمان الذي يرضى بالذل هو إيمان مزيف. من يصمت أمام القاتل بحجة “أن الله سيحاسبه“، يشارك في الجريمة. العدالة الإلهية ليست حجة للتقاعس، بل حافز للحركة. الفارق بين المؤمن والعبد، هو أن الأول يرى في الله شريكًا في العدالة، والثاني يرى فيه شماعة لتعليق العجز. لا يجوز أن ندفن جثثنا، ثم ندفن كرامتنا معها. الله لم يخلقنا لنُداس، بل لننهض، ولنكشف القتلة، مهما لبسوا من أزياء رسمية. ومن لم يُسقط من في يده دم الضحايا، سيكون معهم يوم الدين، لا خصمًا له بل جزءًا منه.
في كل ذكرى لـ٤ آب، يُرفع الصليب، تُقرأ الفاتحة، تُضاء الشموع. جميل هذا الحزن، لكنه لا يكفي. لبنان لا يحتاج فقط دموعًا، بل ضمائر لا تخاف. الذين يتحكمون بالبلد ليسوا أقوياء لأنهم أذكياء، بل لأننا سمحنا لهم أن ينجوا. إن مقاومة السفلة واجب ديني، كما هو وطني. كل من يصمت اليوم سيُدان غدًا، لا فقط أمام القضاء، بل أمام الله نفسه. العدالة الإلهية ليست وعدًا فارغًا، بل مشروعًا نشارك فيه، أو نخون ضحاياه إذا تركناه للمنابر وحدها.

- الخاتمة
ليست العدالة الإلهية وعدًا شعريًا يُقال للمقهور كي لا يثور، بل هي ميزان دقيق، لا يعمل بصوتٍ عالٍ، لكنه لا يخطئ أبدًا. فأن يُقتل الأبرياء في وطنٍ فاسد لا يُدين الله، بل يُدين من صمتوا، ومن تستروا، ومن استخدموا اسم الله لتبرير الخنوع. الله لا يُقيم ممالك على جثث الضحايا، ولا يبارك زعماء حقيرين وفاسدين يرتقون على أنين الأمهات. وفي بلد مثل لبنان، حيث يقود السفلة الدولة نحو الهاوية، وتتحول الكارثة إلى فرصة لتوزيع الحصص، لا يمكن أن ننتظر العدل الإلهي كمن ينتظر معجزة تهبط من السماء. بل علينا أن نتحرك، أن نصرخ، أن نوثق، أن نُربّي أبناءنا على أن الصمت جريمة، وعلى أن الدين ليس طقوسًا، بل موقف من الظلم.
٤ آب لم يكن نهاية، بل بداية لعصر جديد من الانكشاف الأخلاقي. من بعده لم يعد أحد يجهل من هم القتلة، ولا من يغطيهم، ولا من يساوم على الدماء. ولعلّ أعظم ما يُنتظر منّا بعد هذه المجزرة، ليس فقط إدانة السفلة، بل كسر دورتهم الجهنمية، ومحاسبتهم، لا فقط بالقانون، بل بذاكرة وطن لا ينسى. فالعدالة الإلهية، حين تجد من يؤمن بها حقًا، تتحول إلى قوة تغيير. لكنها لا تنصر الكسالى، ولا تصنع المعجزات لمن يُسلّم أمره للخوف. إن من يموت شهيدًا في انفجار الغدر لا يحتاج إلى عزاء بقدر ما يحتاج إلى نهضة شعب تحفظ دمه. ومن يعيش فوق ركام الجريمة صامتًا، يكون قد فقد جزءًا من إنسانيته.
ولذلك، تبقى العدالة الإلهية وعدًا مشروطًا: مشروطًا بأن نرتفع إلى مستواها، لا أن نُسقطها إلى مستوى من يحكموننا من الحثالة؛ مشروطًا بأن نؤمن أن الإله لا يسكن القصور، بل وجوه الأمهات اللواتي يرفضن النسيان، وعيون الناجين الذين يرفضون الصمت، وقلوب المؤمنين بعدالة لا تموت، ولو ماتت الدول التي خانتها.