أهالي الضحايا و رسميّون يحييون الذكرى الرابعة
د. الياس ميشال الشويري
الزمن وحده لا يُداوي الجراح. فبعض الأحداث تتجاوز حدود الكارثة لتتحول إلى اختبار أخلاقي دائم، تعجز عن محوه السنوات، وتتجدد في كل ذكرى، لا لتذكّرنا بما جرى فقط، بل لتكشف لنا ما لم نفعله تجاه ما جرى. إن ذكرى الرابع من آب ٢٠٢٠ هي لحظة تتجاوز المأساة، لتكون مرآة لوطن يعيش في دوامة من التراخي والإنكار، حيث تتراكم الجرائم من دون عقاب، وتُقابَل دماء الأبرياء بالصمت واللامبالاة. لم تكن هذه الفاجعة مجرد خطأ تقني، بل تتويجًا لمسار طويل من الانهيار الأخلاقي والسياسي. ولذلك، فإن العبرة من ٤ آب لا تكمن فقط في حجم الانفجار، بل في عمق ما كشفه من علل بنيوية في النظام السياسي، وفي سلوك المواطن، وفي آليات إدارة الدولة. هذا المقال ليس تأريخًا لما جرى، بل تأملٌ فيما يجب أن نفعله كي لا يتكرر ما جرى، عبر ثلاثة محاور: أخلاق السلطة، مسؤولية المجتمع، وسبل إعادة بناء الدولة.
– ٤ آب وعِبرة سقوط السلطة في امتحان الأخلاق والمسؤولية
لقد ظهرت الدولة اللبنانية في كارثة ٤ آب على حقيقتها العارية: سلطة عاجزة عن اتخاذ قرار، صمّاء أمام التحذيرات، وخرساء أمام الكارثة. المسؤولون الذين عرفوا بوجود المواد المتفجرة لم يتصرفوا، وكأن أرواح الناس بلا قيمة. والمرعب أن هذا “السكوت الإداري” لم يكن ناتجًا عن الجهل، بل عن ثقافة مزمنة من اللامبالاة والانفصال عن هموم الناس. عندما يُصبح الحاكم غير معني بما يحدث في بلده، تتحول الدولة إلى كيان بيروقراطي بلا روح. العبرة هنا أن الأخلاق السياسية ليست ترفًا، بل شرط لبقاء الدولة.
ما كشفه ٤ آب أن لا أحد في الدولة يتحمل مسؤولية مباشرة أو غير مباشرة، لأن النظام بُني أساسًا على تقاسم الحصانات لا تقاسم المسؤوليات. كل قطاع في لبنان خاضع لسلطة حزبية وطائفية تُعفيه من المحاسبة. القضاء خاضع، الأمن مخترق، المؤسسات مشلولة. والنتيجة أن المواطن يدفع الثمن وحده. العبرة هنا أن غياب المساءلة لا يصنع استقرارًا، بل يراكم الغضب، ويهيئ لانفجارات أكبر.
بعد الفاجعة، لم يتسابق السياسيون إلى تحمل المسؤولية، بل إلى الاستثمار في دماء الشهداء. رأينا من حاول رمي التهمة على خصمه، وآخر يستعمل الذكرى لتبييض صورته. هذه الانتهازية الوقحة تدل على انحدار أخلاقي عميق. بدلاً من احترام وجع الناس، جُعلت الكارثة ورقة تفاوض في بازار السياسة اللبنانية. العبرة القاسية هنا أن السلطة التي تبيع جثة الضحية لا يمكن أن تحمي حيًا، ولا تستحق ثقة أحد.
– ٤ آب وعِبرة دور الشعب بين الخوف والصمت والمقاومة
في أي بلد طبيعي، مثل هذه الكارثة كفيلة بإسقاط حكومات وفتح باب المحاكمات. لكن في لبنان، مرّت الصدمة سريعًا، ليعود الناس إلى حياة شبه طبيعية، وكأن الانفجار لم يحدث. هذا الصمت ليس طبيعيًا، بل هو نتاج عقود من التطبيع مع الفساد، ومن سحق الكرامة الوطنية. لقد تم ترويض اللبنانيين على تقبّل الجريمة والاعتداء، وتم تقييدهم بالخوف، أو باليأس، أو بالجهل. العبرة أن الكارثة تكبر حين يصمت الضحية، لأن الجريمة حينها تُصبح عادة.
من أخطر ما كشفه ٤ آب هو أن اللبنانيين لا يشتركون حتى في الحزن. ففي حين اعتبر البعض الضحايا شهداء للوطن، حاول آخرون تفسير الجريمة على أساس “من فعلها بمن؟”، مما أدى إلى تقزيم الكارثة وتحويلها إلى سجال طائفي. غابت وحدة الذاكرة، وحلّ محلّها الاستقطاب. هذا التشظي يُضعف أي محاولة لبناء ضغط شعبي موحد. العبرة هنا أن المجتمعات التي لا تنجح في توحيد أوجاعها، لن تنجح في بناء مستقبلها.
العزاء الحقيقي ليس في البكاء، بل في الفعل. المطلوب اليوم أن يتحول هذا الألم إلى مشروع مقاومة مدنية طويلة النفس: محاكمات رمزية، اعتصامات دائمة، تعبئة إعلامية، مسيرات منظمة، مقاطعة المعرقلين، فضح القضاء المتواطئ. لا شيء أقوى من وعي الناس إذا تحوّل إلى أداة ضغط. العبرة أن الشعوب تُربى على المقاومة كما تُربى على الخنوع، وإن لم نُربِّ الأجيال الجديدة على كسر الصمت، سيعتادون العيش تحت الركام.

– ٤ آب وعِبرة إعادة تعريف الدولة والمواطنة
٤ آب لم يكن فقط لحظة انفجار، بل لحظة انهيار للثقة بالقضاء. لم يُحاسب أحد، ولم تُفتح ملفات، وتم تجميد التحقيق أكثر من مرة بفعل تدخلات سياسية فاضحة. في بلد لا يُسائل فيه القضاء السلطة، بل تخضع فيه السلطة القضائية لزعماء الطوائف، لا يمكن الحديث عن دولة. العبرة هنا أن الإصلاح يبدأ من تحرير العدالة. يجب بناء قضاء مستقل فعليًا، محصّن من التدخلات، ومسنود بدستور صارم، وإرادة شعبية ترفض المساومة على الحق.
٤ آب هو النتيجة المباشرة لنظام المحاصصة الذي وزّع المرفأ بين القوى السياسية بدل أن يديره وفق القانون. هذا النموذج يتكرر في كل قطاع: الكهرباء، الماء، الصحة، الأمن. نظام المحاصصة أنتج دولة فاشلة، تخدم الزعماء لا الناس. العبرة الحاسمة هنا أن لا نهضة للبنان دون إنهاء هذا النظام، واستبداله بدولة مدنية تُدار بالكفاءة لا بالولاء الطائفي.
الأمم الحية لا تنسى كوارثها، بل تُحوّلها إلى علامات مضيئة في مشروعها الوطني. يجب أن يُدرّس ٤ آب في المدارس، ويُوثّق في المتاحف، ويُحيا في كل سنة كرمز للمطالبة بالعدالة. لا يكفي أن نتذكّر الضحايا، بل يجب أن نُربّي الأجيال الجديدة على ألا يتكرر ما حصل. العبرة الأخيرة أن الذاكرة ليست للبكاء، بل للبناء، وإذا أُحسن استخدامها، تكون أقوى من أي نظام فاسد.

– الخاتمة
٤ آب ليس صفحة سوداء في كتاب لبنان، بل هو اختبار أخلاقي مفتوح لكل لبناني: هل نرضى أن نعيش في بلد يُقتل فيه المواطن ولا يُحاسب القاتل؟ أم نحوّل المأساة إلى فرصة لإعادة كتابة العقد الاجتماعي من جديد؟ إن دماء الضحايا أمانة في أعناقنا، ومحاسبة المجرمين لم تعد خيارًا، بل واجبًا. ومن لا يُحاسب الجريمة، يُشارك في تكرارها. إن العبرة من ٤ آب لا تقف عند حدود الحزن، بل تفرض علينا ثورة هادئة، مستمرة، عميقة، تُعيد للبنان معناه، وللدولة هيبتها، وللمواطن كرامته.