نور الأيمان و الحق
د. الياس ميشال الشويري
في السادس من آب، تحتفل الكنيسة بعيد تجلّي الربّ يسوع، وهو أحد أبرز الأعياد المسيحيّة في التقليد الكنسيّ، لما يتضمّنه من كشف إلهيّ عظيم عن شخص المسيح كابن الله المتجسّد. في ذلك اليوم، وقف التلاميذ الثلاثة (بطرس ويعقوب بن زبدي ويوحنا أخا يعقوب) على جبلٍ عالٍ، فرأوا وجه الربّ يسوع يتلألأ كالشمس، وسمعوا صوت الآب يؤكّد بنوّته. هذا الحدث ليس فقط لحظة روحية ماضية، بل هو واقع دائم يعيد تشكيل رؤية الإنسان لله ولنفسه وللعالم.
غير أن المفارقة المؤلمة أنّ هذا العيد في لبنان يتزامن مع ذكرى أكبر فاجعة في تاريخه المعاصر: انفجار ٤ آب ٢٠٢٠، الذي عرّى النظام، وفضح الإهمال، وكشف موت الضمير. وبين الجبل المتجلّي، والعاصمة المتفجّرة، تنشأ ضرورة المقارنة والقراءة والتأمل: هل ما زال الله يتجلّى في وسطنا؟ هل نمتلك القدرة على رؤية نوره وسط دخان الفساد؟ هل يمكن للبنان، ذلك الجسد المصلوب، أن يختبر هو أيضًا تجلّيه الخاص؟
هذا المقال يحاول استنطاق عيد التجليّ من زاويتين: الأولى لاهوتيّة في ضوء الكتاب المقدّس والآباء، والثانية وطنية من قلب المأساة اللبنانية، ليكون العيد ليس فقط مناسبة دينية، بل صوتًا صارخًا في برية الانهيار.
- التجليّ في الإنجيل – بهاء إلهي في قلب الألم البشري
يصعد الربّ يسوع إلى “جبل عال” مع ثلاثة من أحبّ تلاميذه، فيبتعد عن الزمان والمكان، ليُظهر في العُلى ما لا يُفهم في السُفلى. هذه العزلة المؤقتة عن العالم ليست هروبًا بل تحضيرًا. ففي الهدوء، يُسمع صوت الله؛ وفي الارتفاع، يُشاهد بهاء المسيح. هذه الصورة تُشبه دعوة المؤمن إلى التأمّل وسط ضجيج العالم. لبنان، المأسور بصخب السياسة والانهيار، بحاجة اليوم إلى أن “يصعد” قليلًا، أن ينسحب من مستنقعات الزيف، ليبحث عن حقيقة أسمى من معادلات الطوائف والمحاصصات. فكما انفصل الربّ يسوع عن الجمع ليكشف المجد، كذلك نحن مدعوون لنخرج من زحمة الهلاك لنتلمّس وجه الله.
في حدث التجلي، تتجلّى الطبيعتان: وجه الربّ يسوع يلمع كالشمس وثيابه تصير بيضاء كالنور، بينما يتحدّث مع موسى وإيليا. هذا الحضور الرمزيّ – موسى الشريعة، وإيليا النبوّة – يكشف الربّ يسوع كملء العهدين وكحامل التاريخ الإلهيّ. لكن المفارقة أنّ هذا المشهد المجيد يأتي بين نبأ الألم وقرار الصليب، ما يربط بين المجد والوجع.
“هذا هَو ابنيَ الحَبيبُ الَّذي عَنهُ رَضيت، فلَهُ اسمَعوا!” (متّى 5:17)، هو صوت الله الآب الذي يحسم النقاش حول هوية الربّ يسوع. إنّه إعلان مطلق عن الطبيعة الإلهية لابن الإنسان، كما هو توجيه روحي للتلاميذ: أن يسمعوا له، لا فقط حين يصنع العجائب، بل حين يتألّم أيضًا. كم نحتاج لهذا الصوت في وطنٍ امتلأ بالأصوات الكاذبة! كم يحتاج اللبناني إلى أن يميّز صوت الله من بين ضجيج السياسيين والدجّالين، إلى أن يفتح أذنه لا لمصالح الزعماء، بل لصوت الحقّ! فكما طلب الآب من التلاميذ الطاعة، فإنّ خلاص لبنان لا يأتي من الديمقراطية الشكلية، بل من “السمع” لصوت الضمير، ولنداء المسيح الحيّ.
- البُعد اللاهوتي للتجلّي – المجد الذي يمرّ عبر الألم
اللاهوت المسيحي يرى في التجلّي استباقًا للقيامة. فالمسيح، قبل أن ينزل إلى جلجلة الصليب، أراد أن يمنح تلاميذه ومضة من بهائه، كي لا يتشككوا حين يرونه يُجلد ويُهان. هذه الومضة لم تكن لحظة مجد بلا ثمن، بل كانت دفعة رجاء وسط ظلمة آتية. في لبنان، أيضًا، يختبر الناس الجلجلة يوميًا: في فقدان أبسط الحقوق، في الذلّ اليومي، وفي جريمة 4 آب التي بقيت بلا محاسبة. ومع هذا، يحتاج الشعب إلى “تجلّي داخلي” لا يغيّر الواقع فورًا، بل يعطي القدرة على الصمود، على انتظار القيامة. إنّه النور الإيماني في عتمة وطنٍ محكوم بالأصنام البشرية.
بعد مشهد التجلّي، لم يسمح الربّ يسوع لتلاميذه بالبقاء في الجبل، بل أمرهم بالنزول والعودة إلى الناس. هو تجلٍّ لا يُبنى عليه معبد، بل ينفتح على الرسالة. كثيرون اليوم، في لبنان، يريدون “دينًا” مريحًا، ملجأ من الواقع لا أداة لتغييره. لكن المسيحية الحقّة هي في السير وراء المسيح، حتى في الصليب. التجليّ يعلّمنا أنّ المجد لا يُعاش في الانعزال، بل في الانخراط الصعب في المجتمع، في الوقوف إلى جانب الفقراء، وفي مقاومة الطغيان. هي دعوة للمسيحي اللبناني أن لا يهرب من وطنه ولا من قضاياه، بل أن ينزل من الجبل ليُجسّد نوره في قلب الألم.
حين انتهى الحدث، “لم ينطقوا بشيء“، هكذا يخبرنا لوقا. صمت التلاميذ لم يكن جبنًا، بل رهبة. التجلّي أوقفهم أمام سرّ لا يُقال بسهولة. الصمت هنا ليس سكوتًا عن الحقّ، بل تحوّلًا داخليًا يحتاج وقتًا لينضج. في لبنان، الصمت قد يكون علامة خنوع، لكنه قد يكون أيضًا علامة عمق. ليست كلّ الأصوات المدوّية صادقة، ولا كل الصامتين جبناء. فبعض التجلّيات تحدث في القلب، وبعض الثورات تبدأ من السجود لا من الشارع. المهمّ هو ألّا يكون الصمت تواطؤًا، بل استعدادًا للانطلاق.

- التجليّ في لبنان – نور الإيمان وسط الخراب
في بلدٍ مثل لبنان، حيث فقد الإنسان ثقته بكل شيء: بالمؤسسات، بالقانون، بالقضاء، بالزعماء، تبدو صورة المسيح المتجلّي بمثابة دعوة للخروج من هذه الدائرة الجهنميّة. فكما تجلّى الربّ يسوع ليعطي رجاءً وسط خبر الموت، كذلك يحتاج لبنان إلى تجلّي جديد: لا بمعجزة من السماء، بل بتحوّل داخلي لدى الشعب. التجليّ هنا يصبح رمزًا للخلاص الممكن، للخروج من الموت نحو الحياة. فإذا كان الله قد كشف مجده للتلاميذ في لحظة خوف وقلق، ألا يكشفه أيضًا لهذا الشعب الذي عانى أكثر ممّا يمكن أن يتحمّله بشر؟
عيد التجلي يجب ألا يبقى في إطار الاحتفال الطقسي. فالمسيحية ليست مجرد مناسبات تُكرّر سنويًا، بل مواقف تُعاش يوميًا. على الكنيسة أن تتجلّى في مواقفها، لا في زينتها. أن تقف إلى جانب المقهورين، لا إلى جانب السلطة. أن ترفض لغة الرمادية والتواطؤ، وتدعو إلى ثورة أخلاقية حقيقية. الكنيسة التي لا تتجلّى في فعلها، هي كنيسة فقدت ملامح مسيحها. وإن لم تكن صوتًا صارخًا في برّية الفساد، فهي صدى أجوف لا حياة فيه. فكما أضاء وجه الربّ يسوع في الجبل، يجب أن تضيء شهادة الكنيسة في وادي الخراب.
التجلّي في بعده الأعمق هو دعوة لكلّ إنسان أن يتجلّى، أن يكشف صورته الحقيقية التي طمسها الفقر والخوف والتبعية والجهل. اللبنانيّ الذي يعيش في ظلّ نظام يسرق روحه، مدعو اليوم أن يرى نفسه بعيني الله: لا عبدًا، بل ابنًا. لا تابعًا، بل حرًا. لا منقسمًا طائفيًا، بل متحدًا إنسانيًا. هذا هو التجليّ الحقيقيّ الذي ينتظرنا: أن نخرج من تحت الركام، أن نكسر الأصنام، أن نتحرّر من أوهام الزعماء، ونُعيد لبنان إلى مكانه الطبيعي كجبل نورٍ، لا كهف موت.
- التجلي بين فكر الآباء ودماء الأوطان – قراءة في اللاهوت المشرقي
آباء الكنيسة الشرقية رأوا في حادثة التجلّي أكثر من مجرد إعلان إلهي؛ بل اعتبروها اختبارًا شخصيًا متاحًا لكلّ مؤمن يرتقي بالروح. يقول القديس غريغوريوس بالاماس، أحد أبرز لاهوتيي الرؤية النورية، إن النور الذي أضاء وجه المسيح هو “نور الجوهر الإلهي“، لا نورًا مخلوقًا، وهو ذاته الذي يمكن للنفس النقيّة أن تراه بالتطهير والصلاة. هذا يعني أنّ التجلي ليس مجرّد حدث ماضٍ، بل تجربة حاضرة، شرط أن يُنقّي الإنسان قلبه. هذا العمق الروحي، الذي ميّز اللاهوت المشرقي، يذكّرنا بأن خلاص الأوطان لا يأتي فقط من السياسات، بل من الداخل، من تطهير الضمير، ومن تحويل الجسد إلى جبل يُعاين فيه الله.
يركّز اللاهوت المشرقي على أن التجلّي هو كشف عن اتحاد الطبيعتين في المسيح – الإلهية والإنسانية – دون اختلاط أو انقسام. هذا التجليّ يرفع الإنسان لا إلى مستوى الآلهة الوثنية، بل إلى طبيعته الأصلية قبل السقوط. فالتجلّي هو استعادة، لا استعراض. في السياق اللبناني، يمكن لهذا الفهم أن يشكّل ثورة فكرية: فحين يفهم المواطن اللبناني ذاته كصورة لله، لا كرقمٍ انتخابي، يتغيّر. حين يدرك أن الكرامة ليست هبة من الزعيم بل هبة من الله، تنهار أصنام الطوائف. هذا هو التجليّ الذي يحتاجه وطننا: أن نتوحّد داخليًا، بشريًا، روحيًا، لكي ننقذ أرضًا أنهكها الانفصال بين المقدّس والدنيوي، بين الإيمان والسلوك.
تُظهر الأيقونة الأرثوذكسية للتجلّي الربّ يسوع في المركز، يشعّ نورًا، والتلاميذ في حالة انبهار وسقوط، بينما يقف موسى وإيليا على الجانبين. الجبل في الخلفية ليس مجرّد طبيعة، بل هو مسرحٌ لاهوتيّ لحدث أبدي. هذه الصورة، المفعمة بالتناغم والديناميّة، تُلهمنا في قراءة واقعنا أيضًا: لبنان اليوم بحاجة إلى “أيقونة معكوسة”، يسقط فيها الطغاة لا التلاميذ، ويظهر فيها وجه الوطن متجليًا لا ممزقًا. فالرموز الدينية، إن لم تترجم إلى وعي ثوريّ أخلاقي، تصبح مجرد زخرفة على حيطان تآكلها العفن. التجليّ في فكر الآباء ليس جمالًا نظريًا، بل دعوة لتجديد الإنسان كي يشرق المجد في العالم من خلاله.
- الرابع من آب: يوم مات فيه لبنان … واحتجب فيه وجه المسيح
في ٤ آب ٢٠٢٠، اهتزّت بيروت بانفجار يُعدّ أحد أضخم الكوارث غير النووية في العالم. تفجّر المرفأ، وانهارت نصف العاصمة، وسقط مئات الشهداء وآلاف الجرحى، في جريمة ما زال الجناة طلقاء. كثيرون قالوا يومها إنّ الرب غاب، وإنّ الصمت الإلهي لا يُحتمل. لكن في القراءة المسيحية، كان ذلك اليوم “تجلّيًا عكسيًا“: إذ لم يُشرق وجه المسيح بالنور، بل احتُجب تحت غبار الإهمال والفساد. إن كان التجليّ قد كشف مجد الله، فإن ٤ آب كشف عار الإنسان. التجلّي رفع التلاميذ إلى العُلى، أمّا ٤ آب فدفع الوطن إلى القاع. والمفارقة أن الحدثين يلتقيان: فكما تجلّى الربّ يسوع قبل صلبه، كذلك تفجّر لبنان قبل موته الرمزي، عسى أن تأتي القيامة لاحقًا.
كما أن التلاميذ لم يفهموا فورًا معنى التجليّ، فإن كثيرًا من اللبنانيين لم يفهموا بعد حجم الجريمة. فالمجرمون أُفلتوا، والدولة غطّت عليهم، والكنيسة – بمعظمها – وقفت في الوسط. في هذا كلّه، يظهر تجلٍّ مأساويّ: الشعب، لا الزعماء، هو الذي صُلب؛ المساكين، لا الكبار، هم من احترقوا؛ بيروت، لا قصور السلطة، هي التي تهشّمت. هذه المفارقة تطرح سؤالًا لاهوتيًا: كيف نتكلّم عن نور المسيح، ودم الأبرياء لم يجفّ؟ كيف نحتفل بالتجلّي بينما وجوه الأطفال تغرق بالدماء؟ إن كان المسيح قد أضاء وجهه على الجبل، فإن الشعب اليوم هو من يُطالب بنور وجه الرب، لا بوعود فارغة.
ربما يكون ٤ آب هو لحظة تجلٍّ للشعب اللبناني لا يريد أن يراها، لأننا اعتدنا أن نكون ضحايا لا أنبياء، عبيد لا أحرار، نبكي ولا نثور. لكن من رماد بيروت يمكن أن تنبع قيامة. كما خرج الربّ يسوع من الجلجلة بقوة القيامة، كذلك يمكن أن يخرج لبنان من مأساته شرط أن يتجلّى شعبه في وعي جديد. تجلّي الضمير، تجلّي الصراخ النبوي، تجلّي الرفض العميق. إن التجليّ، إن لم يُحدث فينا انقلابًا أخلاقيًا، يبقى مشهدًا عابرًا. أما ٤ آب، فإمّا أن يكون الجلجلة التي تسبق القيامة، أو أن يبقى مجرّد مجزرة أخرى نضيفها إلى سجلّ الخنوع.

- الخاتمة
يُظهر لنا تجلّي الربّ يسوع أنّ النور لا يأتي بعد الصليب فقط، بل قد يُعطى في الطريق إليه كعربون للقيامة. هذا النور، الذي رآه التلاميذ على الجبل، ليس زينة إلهيّة عابرة، بل إعلان عن الطريق، والحق، والحياة. واليوم، لبنان بأمسّ الحاجة إلى هذا التجلّي، لا في السماء فقط، بل على الأرض، في الضمائر، في البيوت، في الكنائس، في الساحات. لم يعد يكفي أن نُعيد سرد الإنجيل، بل أن نعيشه. لم يعد يكفي أن نُصلّي، بل أن نتحرّك. إنّ تجلّي الرب، في جوهره، دعوة إلى تحوّل: من الإيمان الكسول إلى الالتزام الجذري، من الانبطاح للأنظمة الفاسدة إلى الثورة الأخلاقية الصامتة، من عبادة الرموز إلى عيش الحقيقة. وبينما يتجلّى الله دومًا في محبته، فهل نحن على استعداد أن نتجلّى في إنسانيتنا؟ أن نكون نحن “النور للعالم“، كما أرادنا المسيح؟ إن لبنان، لكي يقوم، لا يحتاج إلى زعيم جديد، بل إلى إنسان جديد. وهذا الإنسان يبدأ بالولادة في جبل التجلي، حيث ينكشف المجد، ويُعلن الصوت: “له اسمعوا“.