بعض رجال الأعمال…يستفيدون من الفوضى
د. الياس ميشال الشويري
يواجه لبنان سلسلة من الأزمات التي تعصف بالبلاد، من انهيار اقتصادي حاد إلى تدهور الخدمات الأساسية، ممّا يزيد من معاناة الشعب يوماً بعد يوم. وسط هذه الفوضى، تظهر فئات معينة تسعى لاستغلال الوضع الراهن لتحقيق مكاسب شخصية. من المنظومة السياسية الفاسدة التي تعزّز نفوذها عبر نظام المحاصصة الطائفية، إلى رجال الأعمال المرتبطين بالسلطة الذين يحتكرون الأسواق، والميليشيات المسلحة التي تسيطر على مناطق نفوذها، تتشابك مصالح هؤلاء المستفيدين بشكل معقّد ليبقوا على حساب الوطن والمواطن. في هذا السياق، من الضروري تسليط الضوء على هذه الفئات المستفيدة لفهم كيفية تأثيرها على تفاقم الأزمة اللبنانية ومحاولة التصدّي لها لتحقيق مستقبل أفضل للبلاد.
- المنظومة السياسية والطائفية
المنظومة السياسية الفاسدة في لبنان تستغّل النظام الطائفي الذي يوزّع السلطة على أسس طائفية بشكل كبير، وهو نظام بعيد كل البعد عن جوهر الدين. هذا النظام، القائم على المحاصصة، يمنح السياسيين الفاسدين قوة استثنائية داخل طوائفهم، ممّا يمكنهم من تحقيق مكاسب شخصية وسياسية. غالبًا ما يحمي هؤلاء الزعماء أنفسهم من المساءلة القانونية والسياسية عبر نسج تحالفات طائفية متينة ومصالح مشتركة مع نظرائهم من الطوائف الأخرى، ممّا يعزّز استمرارية هذا الفساد ويجعل تغييره أكثر تعقيدًا.
-السيطرة على الموارد: هؤلاء السياسيون الفاسدون يتحكّمون بموارد الدولة، بما في ذلك المشاريع الحكومية، المناقصات، والمساعدات الدولية، ويوجّهونها لخدمة مصالح جماعاتهم أو لكسب ولاءات سياسية. هذا التحكّم يعزّز الفساد ويعمّق هيمنة الزبائنية على حساب المصلحة العامة، ممّا يساهم في تهميش دور المؤسسات الحكومية وإضعاف قدرتها على العمل بشفافية وكفاءة لخدمة الشعب ككل.
–الاستفادة من الأزمات: في أوقات الأزمات، سواء كانت اقتصادية أو أمنية، تستغّل هذه المجموعات الفاسدة الوضع لتعزيز نفوذها من خلال تصوير نفسها كحامية للطائفة أو المدافعة عن مصالح المجتمع ضد “الآخر”. هذا التكتيك يساهم في ترسيخ مواقعهم السياسية، حيث يستغلون خوف الناس وانقسامهم، ما يمنحهم مزيدًا من السلطة على حساب الشعب، ويعزّز من استمرارية سيطرتهم على الموارد وصنع القرار في الدولة.
2-رجال الأعمال المرتبطين بالسلطة
هناك فئة من رجال الأعمال عديمي الضمير الذين يراكمون ثروات ضخمة عبر علاقاتهم الوثيقة بالمنظومة السياسية الفاسدة. هؤلاء يستغلون نفوذهم السياسي للحصول على عقود حكومية مربحة، تسهيلات ضريبية، أو احتكارات في قطاعات اقتصادية حيوية مثل الطاقة، الاتصالات، والبنية التحتية. من خلال هذه الشراكة مع السياسيين الفاسدين، يعمّقون الفساد في الاقتصاد، ويُحرم المواطنون من فرص التنمية الحقيقية والعدالة الاقتصادية.
-احتكار الأسواق: من خلال العلاقات السياسية، يتمكّن هؤلاء من احتكار قطاعات أو شركات كبرى، ممّا يضمن لهم أرباحًا ضخمة على حساب الاقتصاد الوطني والمستهلكين. هذه الاحتكارات تؤدي غالبًا إلى تدهور جودة الخدمات والمنتجات وزيادة الأسعار، ما يفاقم معاناة المواطنين ويعزّز التفاوت الاجتماعي والاقتصادي. في ظلّ غياب المنافسة العادلة والشفافية، يصبح المواطن العادي الضحية الرئيسية لهذا النظام الفاسد، بينما يستمّر رجال الأعمال والسياسيون في تحقيق مكاسبهم الشخصية.
-استغلال الدعم الحكومي: في بعض الأحيان، يقدم رجال الأعمال هؤلاء أنفسهم كجزء من الحل للأزمات الاقتصادية من خلال مبادرات استثمارية أو مشاريع تنموية. ومع ذلك، في الواقع، تستفيد شركاتهم من الدعم الحكومي والتسهيلات الاقتصادية لتحقيق أرباح شخصية، دون أن تقدّم فوائد حقيقية للاقتصاد الوطني. هذه المشاريع، التي يُفترض أن تكون محفزًا للنمو والتنمية، غالبًا ما تفتقر إلى الشفافية والمصداقية، وتساهم في تعزيز الفساد بدلاً من تقديم حلول فعّالة للأزمات التي يعاني منها الاقتصاد الوطني.
3-الميليشيات والجماعات المسلحة
الميليشيات المسلحة في لبنان لا تقتصر على كونها أدوات للصراع العسكري، بل تلعب أيضًا أدوارًا بارزة في الاقتصاد والسياسة. تستفيد هذه الجماعات من الفوضى الأمنية لتوسيع نفوذها والسيطرة على مناطق معينة، ممّا يمكّنها من تحقيق مكاسب اقتصادية عبر الأنشطة غير القانونية وفرض الضرائب غير الرسمية. كما تعزّز قوّتها السياسية من خلال التأثير على القرارات المحلية وتعزيز السيطرة على الموارد. هذه الديناميات تعرقل جهود بناء دولة قوية ومستقرة، وتزيد من تعقيد الأزمات الأمنية والاقتصادية في البلاد.
-التمويل من الاقتصاد غير الشرعي: غالبًا ما تعتمد هذه الجماعات على التهريب، تجارة المخدرات، والابتزاز كمصادر تمويل رئيسية. في ظلّ ضعف الدولة، تتمكّن هذه الجماعات من بناء شبكات اقتصادية موازية تعمل خارج إطار القانون، ممّا يعزّز من قوتها ونفوذها.
-تقديم الخدمات مقابل الولاء في مناطق نفوذها: تلجأ الميليشيات إلى تقديم بعض الخدمات الأساسية التي تعجز الدولة عن توفيرها، مثل الأمن، الرعاية الصحية، وتوزيع المساعدات الغذائية. في ظلّ غياب الدولة، تعتبر هذه الخدمات حيوية، وتساهم بشكل كبير في بناء ولاء مجتمعي لهذه الجماعات، ممّا يعزّز من موقفها ونفوذها داخل المجتمعات التي تخدمها.
4-القطاع المصرفي والمالي
كان القطاع المصرفي في لبنان يُعتبر لفترة طويلة العمود الفقري للاقتصاد، حيث لعب دورًا رئيسيًا في جذب الاستثمارات وتحقيق الاستقرار المالي. ومع ذلك، كشفت الأزمة الاقتصادية الأخيرة عن حجم الاستغلال الذي مارسته بعض البنوك والجهات المالية، حيث تورطت في سياسات مالية غير شفافة، واستفادت من الأزمة لتحقيق مصالحها على حساب المودعين والاقتصاد الوطني.
-استغلال الفوائد العالية: خلال السنوات التي سبقت الأزمة، اعتمدت البنوك اللبنانية بشكل كبير على جذب ودائع ضخمة من الخارج من خلال تقديم فوائد مرتفعة. هذه الاستراتيجية قامت على استثمار تلك الأموال في سندات الخزينة الحكومية بفوائد عالية، ممّا حقّق أرباحًا كبيرة للبنوك. ومع ذلك، أسهمت هذه الفوائد المرتفعة في خلق فقاعة مالية، حيث أصبحت البنوك تعتمد على دورة من الديون والفوائد دون إنتاجية حقيقية. ومع انهيار الليرة اللبنانية، انفجرت هذه الفقاعة، ما أدّى إلى تفاقم الأزمة المالية وفقدان ثقة المودعين.
-تجميد الودائع وسوء إدارة الأزمة: مع بداية الأزمة، قامت العديد من البنوك بتجميد ودائع المواطنين بالعملة الصعبة، ممّا أدّى إلى تآكل الثقة بالقطاع المصرفي بشكل كبير. في الوقت ذاته، تم تحويل بعض الأموال بشكل غير قانوني إلى الخارج من قبل بعض الأفراد والمؤسسات ذات النفوذ، ما زاد من تعميق الأزمة الاقتصادية وفاقم من معاناة المودعين والمواطنين العاديين، وأدّى إلى انهيار شبه كامل في الثقة بالنظام المالي والمصرفي في البلاد.
5-الدول والجهات الخارجية
بعض الدول والجهات الخارجية تستغّل الأزمات اللبنانية لتعزيز نفوذها السياسي أو الاقتصادي. تقدّم هذه الجهات الدعم المالي أو العسكري لبعض الفصائل السياسية أو الطائفية، مقابل تحقيق مصالحها الإقليمية والاستراتيجية في لبنان والمنطقة. هذا التدخّل الخارجي يزيد من تعقيد المشهد السياسي اللبناني، ويعرقل جهود الاستقرار والإصلاح، حيث يتّم توجيه السياسات المحلية لتحقيق أجندات خارجية بدلاً من معالجة الأزمات الداخلية.
-توسيع النفوذ السياسي: تقدّم بعض الدول مساعدات مشروطة للحكومة اللبنانية أو لأطراف سياسية معينة بهدف تعزيز نفوذها في المنطقة. هذه المساعدات، التي غالبًا ما ترتبط بشروط سياسية أو اقتصادية، تسهم في تعقيد الوضع الداخلي، حيث تعزّز الانقسامات بين الفصائل المختلفة وتزيد من حدة الاستقطاب. بدلاً من توجيه الجهود نحو حلول وطنية شاملة، يتّم تسييس الأزمات لخدمة مصالح خارجية، ممّا يعرقل التوافق الداخلي ويزيد من صعوبة تحقيق الاستقرار.
-استغلال الفوضى لتمرير أجندات معينة: بعض الجهات الخارجية قد تستغّل الفوضى في لبنان لتعزيز عملياتها التجارية أو لتمرير مشاريع تخدم مصالحها الخاصة على حساب السيادة اللبنانية واستقرار البلد. من خلال استغلال ضعف الدولة والأزمات المتكرّرة، يمكن لهذه الجهات التلاعب بالاقتصاد أو البنية التحتية لتحقيق أهدافها، ممّا يؤدي إلى إضعاف المؤسسات الوطنية وزيادة تبعية لبنان لمصالح خارجية، وبالتالي تعميق الأزمات السياسية والاقتصادية.
الخاتمة
الفئات المستفيدة من الأزمات في لبنان تُسهم بشكل مباشر في تعميق الأزمة وإطالة أمدها، حيث تضع مصالحها الشخصية فوق مصلحة البلد والشعب. هذه الفئات تستغّل الفوضى وانعدام الاستقرار لزيادة نفوذها وتحقيق مكاسبها الخاصة، ممّا يفاقم معاناة المواطنين، خصوصًا الأحرار الذين يتحملون العبء الأكبر من نتائج هذه الأزمات. في ظلّ هذا الواقع المؤلم، يصبح من الضروري أن يتكاتف الشعب اللبناني، الحر منه، لمواجهة هذه الظواهر ومحاربة المنظومة الحاكمة الفاسدة بجميع تفرعاتها. لا بد من العمل بشتى الوسائل على التخلّص من هذا النظام المترهل الفاسد العميل، ومن ثم بناء دولة عادلة وشفافة تضع مصلحة المواطن فوق كل اعتبار.