الشاعر مُقيّدا الى المقصلة
د. الياس ميشال الشويري
تتجاوز قصيدة “نحن شعب لا يستحي” لشهيد الكلمة، الشاعر العراقي أحمد النعيمي، الذي أعدم بسببها، إطارها المحلي لتصبح مرآة تعكس حال العديد من الدول العربية، وعلى رأسها لبنان. فكما يصوّر النعيمي العراق كمسرح للفساد السياسي والانقسام الطائفي والخداع الجماعي، نجد في لبنان نموذجًا مشابهًا، بل ربما أكثر تعقيدًا، نظرًا لتاريخه الطويل من الحروب الأهلية، والتدخلات الخارجية، والطبقة السياسية الفاسدة التي لا تزال تحكم منذ عقود رغم فشلها الذريع في تحقيق أي نهضة حقيقية. القصيدة لا تنتقد الحكام فقط، بل تُلقي باللوم أيضًا على الشعوب التي تستسلم للاستبداد وتعيد انتخاب الفاسدين، وهي رسالة تنطبق بحذافيرها على الواقع اللبناني الذي يعيش دوامة من الأزمات المتكررة.
- أبيات مختارة من قصيدة “نحن شعب لا يستحي”
ابيات قصيدة “نحن شعب لا يستحي” للشاعر أحمد النعيمي، تُعد كُلاً متكاملاً في بناء فكرتها النقدية اللاذعة تجاه الواقع العربي. ومع ذلك، يمكن الاكتفاء ببعض الأبيات كمثال لإبراز أسلوبها ومضمونها، دون أن يُخلّ ذلك بجوهر الرسالة التي تحملها.
قسمًا … نحن شعب لا يستحي
نحن قطاع الطرق وخونة الدار
نعتمر عمائم بيضاء وسوداء وما تحتهما عار
نحن خدم الحسينيات والجوامع والمساجد والكنائس والملاهي والبارات
ونحن أيضًا أتباع الشيطان تحت السروال
ننتخب لصوصاً وقوادين وقتلة وسفاحين وندوس على الشرفاء بالقنادر
ننام ونشخر وشرف بناتنا حبيس الزنزانات وفي متناول العساكر
نحن نستحق أن يحكمنا أنصاف الرجال
وأن يلطمنا القاصي والداني بنعاله
لسنا سوى سبايا تتقن البكاء على الكهرباء
ونعي انقطاع الماء ولعن السماء والكفر بالأنبياء
محترفون في تفجير قباب الأولياء
وشتم الخلفاء وتنصيب الفاسقين في مقام الأمراء
شواربنا للزينة ورجولتنا عورة العورات
وأكبر كذبة ما يسمّى بالكرامة والكبرياء…

هذه الأبيات تمثّل جوهر القصيدة، حيث تسلّط الضوء على الانقسامات، الخيانات، والتناقضات التي يسخر منها الشاعر بشدة.
- ازدواجية الولاء والخيانة في المشهد اللبناني
كما ينتقد النعيمي في قصيدته ازدواجية الولاء! يمكننا إسقاط ذلك على لبنان، حيث اعتاد اللبنانيون على التصفيق لزعمائهم حتى بعد أن يخذلوهم مرارًا وتكرارًا. فنرى زعيمًا سياسيًا يصبح بطلًا في نظر أنصاره رغم تورطه في الفساد أو الحرب، ثم عندما يفقد نفوذه، ينقلب عليه أتباعه ويبحثون عن بديل جديد ليكرروا الأخطاء نفسها. هذا النفاق السياسي الذي يصفه النعيمي في العراق هو ذاته في لبنان، حيث ينقسم الشعب بين طوائف وأحزاب تتناحر في ما بينها، بينما القادة السياسيون يتصافحون ويتقاسمون الحصص في الغرف المغلقة.
إن التحالفات السياسية المتقلبة في لبنان بين الأحزاب والميليشيات خير دليل على هذه الازدواجية، فالقوى التي كانت تتقاتل في الحرب الأهلية أصبحت اليوم حلفاء وفقًا للمصالح، والعكس صحيح. تمامًا كما انتقد النعيمي تغيير العراقيين لمواقفهم السياسية بناءً على من يحكم، نجد أن اللبنانيين يفعلون الشيء ذاته، حيث ينقلب الرأي العام وفقًا للموجة الإعلامية التي تصنعها الأحزاب، دون أي مراجعة نقدية للأحداث أو الأشخاص.
- الطائفية كأداة للسيطرة على الشعب
الطائفية التي يهاجمها الشاعر في العراق هي أحد أبرز معالم المشهد اللبناني، حيث لا يُنظر إلى المواطن كفرد بقدر ما يُنظر إليه كجزء من طائفة أو حزب. الأحزاب اللبنانية تتغذى على هذه الانقسامات، فتزرع الخوف في نفوس أتباعها من “الآخر“، وتوهمهم بأن بقاءهم مرتبط ببقاء زعمائهم، بينما الحقيقة هي أن هذه الزعامات لا تسعى إلا إلى ترسيخ سلطتها ونهب البلاد.
ينطبق كلام النعيمي عن استغلال الدين لتحقيق المصالح السياسية بشكل واضح على لبنان، حيث تستخدم المرجعيات الدينية كأدوات لشرعنة الفساد، ويتم توظيف الشعارات الدينية لاستقطاب الجماهير بدلًا من التركيز على قضايا جوهرية مثل التعليم والصحة والاقتصاد.

- الشعب شريك في الفساد من خلال استسلامه
يركّز الشاعر على تحميل الشعب مسؤولية الفساد، وهي نقطة في غاية الأهمية عند إسقاطها على لبنان. فعلى الرغم من أن اللبنانيين يعانون من انقطاع الكهرباء، وتدهور العملة، وهجرة العقول، إلا أنهم في كل انتخابات يعودون لاختيار الزعامات نفسها التي أوصلتهم إلى هذا الوضع الكارثي.
اللبنانيون يتظاهرون ضد الفساد في الشوارع، لكنهم في الوقت نفسه يتزاحمون على مكاتب الزعماء للحصول على خدمات بسيطة مثل معاملة إدارية أو وظيفة، مما يكرّس ثقافة الزبائنية والمحسوبيات. هذه الازدواجية هي ما يجعل التغيير في لبنان أمرًا بالغ الصعوبة، تمامًا كما وصفها النعيمي في العراق، حيث يلعن الشعب السياسيين ثم يعود لانتخابهم في الدورة الانتخابية التالية.
- لبنان والتبعية للخارج: فقدان الاستقلالية السياسية
من أكثر المواضيع التي تناولها النعيمي في قصيدته هو فقدان القرار السيادي بسبب التدخلات الخارجية. هذه الفكرة تنطبق تمامًا على لبنان، حيث لا يكاد يمر عقد من الزمن دون أن يصبح البلد ساحة لصراع إقليمي أو دولي، تتحكم فيه قوى خارجية عبر وكلائها المحليين.
لبنان لم يعرف الاستقلال الحقيقي منذ تأسيسه، فدائمًا هناك قوة أجنبية تُمسك بخيوط اللعبة. النخب السياسية اللبنانية لا تسعى إلى بناء دولة مستقلة، بل تعمل كأدوات لتنفيذ أجندات خارجية، وهو ما يجعل اللبنانيين يعيشون في حالة دائمة من عدم الاستقرار، تمامًا كما يصور النعيمي الشعب العراقي الذي يقاتل في حروب لا تخدم مصالحه الحقيقية.
- التدهور الأخلاقي والاقتصادي: لبنان كنموذج لانهيار القيم
أحد أكثر الأجزاء قسوة في قصيدة النعيمي هو حديثه عن اختطاف الفتيات واغتيال الأطباء والطيارين، ممّا يعكس مدى الانهيار الأخلاقي في المجتمعات التي تعيش تحت حكم الفساد والفوضى. في لبنان، لا نرى عمليات اغتيال جسدي بهذا الشكل، لكن هناك اغتيالات معنوية وهجرة قسرية للكفاءات، حيث يُجبر الأطباء والمهندسون والعلماء على مغادرة البلاد بسبب الفساد والمحسوبية وانعدام الفرص.
في لبنان، الفساد ليس مجرد ظاهرة سياسية، بل هو أسلوب حياة، حيث أصبح الحصول على أبسط الحقوق مثل الكهرباء والمياه والخدمات الطبية مرتبطًا بالرشوة أو الولاء السياسي. كما أن تفشي الفساد في القضاء والمؤسسات الأمنية جعل القانون أداة في يد الأقوياء، مما أدى إلى ضياع حقوق المواطنين البسطاء.

- الخاتمة: هل يتعلّم اللبنانيون من القصيدة؟
في النهاية، يمكن اعتبار قصيدة “نحن شعب لا يستحي” بمثابة تحذير للبنانيين، لأنها تكشف أن المشكلة ليست فقط في الحكام، بل في الشعوب التي تسمح باستمرار الفساد من خلال الاستسلام له أو تبريره. إذا استمر اللبنانيون في إعادة إنتاج نفس الطبقة السياسية، وإذا ظلوا أسرى الطائفية والولاءات العمياء، فإن مصيرهم لن يكون أفضل من مصير العراق الذي يصوره النعيمي كنموذج للدولة الفاشلة.

السؤال الذي تطرحه القصيدة ضمنيًا على اللبنانيين هو: متى ستكسرون هذه الحلقة المفرغة؟ متى سيتوقف اللبناني عن التصفيق للزعيم الذي سرقه ونهب جنى عمره، وعن تبرير الطائفية التي تحرمه من حقوقه، وعن انتظار الحلول من الخارج بدلًا من صناعتها بنفسه؟
إذا كان العراقيون قد فقدوا الأمل في التغيير كما تصفهم القصيدة، فهل سيسير لبنان على الطريق نفسه، أم أنه لا يزال هناك مجال لإنقاذ الوطن من مستنقع الفساد والانهيار؟