د. الياس ميشال الشويري
لم يكن يومًا لفظ “الله أكبر” مجرد شعارٍ يُرفع أو صوتٍ يُردَّد، بل هو تعبير عن خضوع الإنسان لخالقه، وإعلان لعظمة لا يُقابلها عظمة، وتذكير دائم بأن الله فوق كل قوة، وكل طاغية، وكل متجبر. لكنه في زمننا، أُفرغ من روحه، وشُوِّه معناه، حين اختطفه بعض الغلاة، وحوّلوه من نداء للطمأنينة والسكينة إلى مفتتحٍ للرعب والقتل. والأسوأ من ذلك، أن هذا اللفظ العظيم يُستعمل في اللحظة التي يُزهق فيها دم بريء، وتُفجّر فيها أجساد المتطرفين، ويُصفّى فيها المختلف باسم الدين.
يستند هؤلاء على نصوص وفق قراءات مجتزأة، مثل فتوى ابن تيمية رقم 230 التي تُشرّع التكبير في مواضع القتال، متناسين السياق التاريخي والظرفي للفتوى، ومُغفلين أن الدين لا يُؤخذ من نص واحد، بل من روح متكاملة تُعلي من قيمة الحياة والرحمة. من هنا، يطرح هذا البحث سؤالًا أخلاقيًا وإنسانيًا خطيرًا: كيف تحوّلت شعارات التوحيد إلى أدوات قمع؟ وكيف يُختطف المقدس ليُستخدم في أبشع وجوه المدنس؟
سيعالج هذا البحث هذه الإشكالية من خلال تحليل عميق لظاهرة توظيف “الله أكبر” في السياقات الإرهابية، وربطها بمفاهيم الأخلاق، والحياة، والإنسانية، مبرزًا كيف أصبح الدين، حين يُجتزأ ويُسلّح، خطرًا على جوهر رسالته الأصلية.
- “الله أكبر” بين قداسة اللفظ وانحراف الاستعمال
“الله أكبر” ليست مجرد عبارة، بل هي جوهر الإيمان وأولى مفردات التوحيد، وهي النداء الذي يُرفع في الصلاة والأذان وفي لحظات الذكر والتسبيح، لتعيد الإنسان إلى مركزية الله في حياته. إن قداسة هذا اللفظ تكمن في وظيفته الروحية، إذ يعلّم النفس الخشوع ويذكرها بعظمة الخالق وتواضع الخلق. غير أن هذه العبارة، مثل غيرها من المقدسّات، لم تسلم من الاستغلال على أيدي من حوّلوا الدين إلى أداة أيديولوجية للقتل والدمار.
تاريخيًا، استخدم المسلمون التكبير في ساحات القتال عندما كانت الحروب دفاعًا عن النفس أو ضمن منظومة أخلاقية متكاملة، لا كأداة ترهيب كما يحدث اليوم. أما استحضار فتوى رقم 230 من “مجموع فتاوى ابن تيمية” التي تقول إن “التكبير يشرّع لدفع العدو من شياطين الإنس والجن والنار“، فقد تحوّل إلى حجة للمهووسين بالعنف لإضفاء شرعية على أفعالهم الوحشية. هكذا، أصبح “الله أكبر” عنوانًا للذبح والتفجير في مخيلة العالم، بدلاً من أن يكون نداءً للحياة والرحمة.
هذا الانحراف في الاستعمال يقلب وظيفة الدين من رسالة أخلاقية إلى وقود للتكفير والعنف. فالمعادلة البسيطة التي يعتمدها المتطرف هي: “الله أكبر” = إعلان جهاد = قتل “العدو” المفترض، أيًّا يكن. وهذا يخالف جوهر الإسلام الذي يجعل “قتل نفس بغير نفس أو فساد في الأرض كأنما قتل الناس جميعًا“. هنا يتجلى التناقض المريع بين ما يزعمه الإرهابي من اتباع للشرع، وبين ما يرتكبه من فظائع تنتهك كل ما هو أخلاقي، إنساني وروحي.
- الفتوى حين تخرج من سياقها وتُصبح سلاحاً
الفتاوى في تاريخ الإسلام كانت تُصدر في سياقات محددة، وبشروط منضبطة أبرزها فقه الواقع وضرورات الزمن، لكنها حين تُنتزع من سياقها التاريخي وتُرمى في أيدي جماعات مغلقة ومسلحة، فإنها تتحول إلى أدوات فتّاكة. فتوى ابن تيمية رقم 230 قد تكون صدرت في ظل تهديد مغولي حقيقي، وضمن تصور يربط الدين بالدفاع عن الجماعة، لكنها اليوم تُستخدم من قبل جماعات ترى في أي مخالف لها “شيطانًا من الإنس” تجوز محاربته.
الخلل لا يكمن في النص وحده بل في العقلية التي تقرأه. فحين تُقتطع جملة “التكبير مشروع في المواضع الكبار، لكثرة الجمع، أو لعظمة الفعل، أو لقوة الحال” وتُفسَّر على أنها تفويض مفتوح لاستباحة الدماء، فإننا أمام انهيار أخلاقي وفكري. تحويل عظمة الفعل من معنى تعبدي أو اجتماعي إلى عنف وانفجار، هو قمة التزييف. وهكذا، تصبح الفتوى سلاحًا غير مرئي، لكنها تفتك بالبشر أكثر من الرصاص.
الأخطر من الفتوى هو تعميمها كعقيدة، حيث تُدرّس في بعض البيئات المتشددة على أنها “مرجعية قتالية“، لا خطابًا اجتهاديًا يحتمل الصواب والخطأ. هذا ما يضرب جوهر الحياة، حيث يُحوَّل الدين من مشروع رحمة إلى مشروع سلطة وموت. وينقلب الإنسان من مخلوق مكرم إلى أداة قتل غاشمة، يُكافأ حين يدمّر، ويُبارك حين يفجّر، في مشهد منافٍ لأي قيمة إنسانية، أو أخلاقية، أو حضارية.
- التكبير في مواجهة جوهر الحياة والكرامة الإنسانية
جوهر الحياة الإنسانية يقوم على الكرامة، والحرية، والرحمة، لا على الكراهية أو العنف باسم الله. حين يُستخدم “الله أكبر” لتبرير جرائم الذبح أو التفجير، فإن ذلك يهدم كل ما قامت عليه الحضارة الإنسانية من قوانين تحفظ الدم والحقوق. بل إن ذلك يجعل من الدين ذاته خصمًا للضمير الإنساني، لا نداءً إليه، وهو أخطر ما يمكن أن تؤول إليه علاقة الإنسان بإيمانه.
“الله أكبر” يجب أن تُقال حين يولد طفل، لا حين يُفجَّر جسد؛ حين تُبنى مدرسة، لا حين تُفخّخ سيارة؛ حين تُغاث ملهوفة، لا حين تُستباح أرواح الأبرياء. استخدام هذا النداء الطاهر في لحظات الرعب هو خيانة روحية مزدوجة: خيانة لله الذي عرّف نفسه بـ”الرحمن الرحيم“، وخيانة للإنسان الذي يُفترض أن يكون مخلوقًا كريمًا، لا هدفًا لرصاص عشوائي باسم “الجهاد“.
لا يمكن بناء مجتمع سوي إذا بقيت الشعارات الدينية تُختطف من قبل جماعات لا تعرف من الدين إلا القشرة، ومن القيم إلا الحقد. استعادة “الله أكبر” من بين أنياب الإرهاب واجب أخلاقي وثقافي وديني، يبدأ بإعادة تفسير النصوص، وتجفيف منابع التكفير، وتحصين الوعي العام. فالمعركة ليست بين الدين والحداثة، بل بين الدين الحق والدين الزائف، بين من يقدّس الحياة ومن يهوى الموت.
- منطق القوة الزائفة والتشوه الأخلاقي
حين يظن البعض أن “الله أكبر” سلاح يسبق الانفجار، فإنهم بذلك يعكسون منطقًا مختلاً يرى القوة في القتل لا في البناء، وفي الترويع لا في السلام. هذا المنطق يلتقي مع أكثر الأيديولوجيات فاشية، حيث تُستبدل الأخلاق بالقوة، والرحمة بالقهر. لكن ما يجهله هؤلاء أن القوة الزائفة تنهار أمام أول مواجهة حقيقية مع العدالة، لأن التاريخ لا يرحم الجلادين مهما طال بطشهم.
التشوه الأخلاقي الناتج عن هذا الاستخدام الباطل للتكبير لا يصيب فقط منفذي العمليات، بل يصيب المجتمعات التي تصمت أو تبرر. يتحول الأطفال إلى شهود على العنف المقدس، والنساء إلى أمهات مفجوعات، والمجتمع إلى ساحة عزاء دائمة. هذا التشوه لا يقل فتكًا عن التفجير نفسه، لأنه يخلق أجيالًا مشوهة فكريًا وعاطفيًا، لا تعرف للرحمة معنى، ولا ترى في الآخر سوى مشروع عدو.
لم تعد مواجهة هذا الانحراف مسؤولية دينية فقط، بل هي مسؤولية إنسانية وأخلاقية. الصمت عن هذا العبث هو شراكة غير مباشرة في الجرائم، والتبرير له هو اغتيال ثانٍ للضحايا. فكما حُرّفت المسيحية زمن الحروب الصليبية، واليهودية في ظل الاستعمار، ها هو الإسلام يُحرّف على أيدي جماعات تدّعي الجهاد وهي تهدم جوهر الدين. لذا لا بد من نزع القدسية عن العنف، وإعادة قداسة “الله أكبر” إلى معناها الأصلي: التسليم لعظمة الله لا لاستعباد خلقه.
- الخاتمة
في زمن الفوضى والتشويه، تبقى الكلمات المقدسة أكثر عرضة للاغتيال من أي وقت مضى. “الله أكبر“، التي خُلقت لتكون نداءً للسلام، باتت تُستخدم كرمز للرعب. وما لم يُواجه هذا الانحراف بالعلم، والوعي، والصدق، فسيبقى الدين رهينة لمهووسي الدم، وستبقى الإنسانية تُذبح على مذابح الكذب المقدس. إن إعادة الاعتبار للفظ الجلال، وإخراجه من معركة لا تخصه، هو أول خطوة نحو عالم أكثر عدلاً ورحمة.