ماركس
د. الياس ميشال الشويري
شهد العالم العربي في العقد الأخير موجة من الانتفاضات الشعبية التي سميت بالربيع العربي، والتي أثارت آمالًا كبيرة في إحداث تغيير سياسي واجتماعي جذري في دول المنطقة. استندت هذه الثورات إلى الفكرة الرومانسية التي تقول إن إرادة الشعوب قادرة على تحقيق الحرية والعدالة، كما عبّر عنها الشاعر أبو القاسم الشابي: “إذا الشعب يومًا أراد الحياة، فلا بد أن يستجيب القدر“. ومع ذلك، لم يكن للواقع المعاصر نفس التفاؤل؛ حيث أدّى التداخل المعقّد بين القوى المحلية والعالمية إلى إعاقة تحقيق الأهداف المرجوة. هذا المقال يتناول نقدًا للفكر الماركسي الذي يعطي دورًا محوريًا للشعوب في صنع التاريخ، ويحلّل الفشل الذي واجهته الثورات العربية، مع تسليط الضوء على التأثيرات الدولية والمحلية التي تعقد مسار التغيير في العالم الحديث.
1- الأطر النظرية لماركس ورفاقه.
- النظرية الماركسية والمادية التاريخية. كارل ماركس كان يؤمن بأن التاريخ هو نتاج صراع الطبقات الاجتماعية. وفقًا للمادية التاريخية، تتحكّم القواعد الاقتصادية في سير المجتمع وتطوره. ينشأ الصراع الطبقي عندما تسعى الطبقات الدنيا إلى تحسين ظروفها المعيشية من خلال الصراع مع الطبقات الحاكمة. ماركس كان يرى أن هذا الصراع هو المحرك الأساسي لكل تغيير اجتماعي وسياسي.
- الصراع الطبقي كآلية للتغيير. ماركس أشار كذلك إلى أن التغييرات التاريخية الكبرى، مثل الثورات الصناعية أو السياسية، كانت دائمًا نتيجة تصاعد الصراع بين الطبقات الاجتماعية. بالنسبة له، عندما تستغل طبقة حاكمة أخرى، فإن الطبقة المضطهدة تبدأ في المقاومة، مما يؤدي إلى ثورة. لذلك، التغيير في المجتمعات هو نتيجة لصراع الشعوب وليست قرارات أفراد معينين.
- نقد الأبطال في التاريخ. فكرة أن الأشخاص البارزين يصنعون التاريخ، كالشخصيات القيادية أو الأبطال العسكريين، كان ماركس ينظر إليها على أنها قراءة مشوهة للتاريخ. كان يؤمن بأن هؤلاء الأفراد لا يمثلون سوى أدوات لحركة جماعية أكبر. لذا، لو لم يكن هناك شخص مثل نابليون، فإن الشعب الفرنسي كان سيخلق قائدًا آخر مشابهًا نتيجة لظروف المرحلة التاريخية.
- النظرة التاريخية للتغيير. ماركس تبنى رؤية تعتمد على التحليل الاجتماعي والاقتصادي للتاريخ. هذا يعني أن الأحداث الكبرى ليست معزولة بل مرتبطة دائمًا بعمليات اجتماعية واقتصادية أعمق، تشكلت عبر الزمن. وبالتالي، ما يراه البعض كإنجازات فردية هو في الواقع نتاج لعمليات جماعية أكثر شمولًا.
- الشعب كعامل للتغيير. كان ماركس يعتقد أن الشعب هو العامل الحقيقي في كل التحولات التاريخية الكبرى، وأنه بدون تضافر جهود الجماهير، لا يمكن تحقيق تغيير حقيقي. ولذلك، كان يدعو إلى الوعي الجماعي للشعوب بضرورة الثورة ضد الاستغلال، معتمدًا على أن إرادة الشعوب هي من يحدد مجرى التاريخ.
2- العالم المعولم وحركة الشعوب.
- العولمة وتأثيرها على السيادة. مع صعود العولمة، أصبحت الدول أقلّ استقلالية في تحديد سياساتها الداخلية والخارجية. الشركات متعددة الجنسيات، والمؤسسات المالية الدولية مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، بدأت في فرض تأثيرات كبيرة على الحكومات، مما قلل من قدرة الشعوب على إحداث تغيير داخلي دون التدخل الخارجي.
- تحكّم القوى العالمية في مسار التغيير. في العصر الحديث، يُلاحظ أن القوى الكبرى مثل الولايات المتحدة والصين وروسيا تتحكم في المسارات السياسية والاقتصادية للدول الأخرى. هذا يعني أن أي حركة شعبية قد تكون موجهة أو حتى مُحاصرة بتدخلات خارجية، حيث تلعب هذه القوى دورًا في توجيه السياسات أو دعم الأطراف المتنازعة لتحقيق مصالحها الخاصة.
- القوى الاقتصادية وتأثيرها على الحركات الشعبية. رأس المال العالمي والتحالفات الاقتصادية يلعبان دورًا في قمع أو توجيه الثورات. الشركات الكبرى تسعى دائمًا إلى الاستقرار السياسي من أجل الحفاظ على مصالحها، مما يدفعها إلى التدخل في شؤون الدول النامية أو الثورية لدعم أنظمة موالية. وهذا ما يُعقِّد جهود الشعوب في تحقيق التغيير المنشود.
- الدولة العميقة وتحالفات السلطة. مفهوم الدولة العميقة يشير إلى الهيئات والمؤسسات غير المرئية التي تتحكم في صنع القرار السياسي داخل الدول. هذه المؤسسات غالبًا ما تكون في تحالفات مع قوى خارجية، مما يجعل التغيير الذي تسعى إليه الشعوب شبه مستحيل دون تجاوز هذه القوى المهيمنة.
- النتائج على الحركات الشعبية. بناءً على هذه المعطيات، فإن حركة الشعوب وحدها قد لا تكون كافية لتحقيق تغيير جذري، لأنها تصطدم بحواجز دولية وعالمية تجعلها عاجزة أمام القوى المهيمنة. التغييرات السياسية والاجتماعية في العالم الحالي تتطلب إذن تفاعلًا مع قوى متعددة ومتداخلة.
3- فشل الربيع العربي.
- فشل التنظيم الداخلي. الثورات العربية تميزت بالحماس الشعبي الكبير، ولكنها افتقرت إلى التنظيم الداخلي المتين. لم تتمكن الحركات المختلفة من تشكيل رؤية موحدة لتحقيق أهدافها، وكانت هناك اختلافات كبيرة في الأيديولوجيات بين القوى الثورية، مما جعل التنسيق بينهم أمرًا صعبًا.
- التباين الأيديولوجي. الحركات التي شاركت في الثورات لم تتفق دائمًا على الأهداف أو الوسائل. بعض القوى كانت تسعى إلى الإصلاح التدريجي، بينما كانت أخرى تطالب بإسقاط الأنظمة بشكل كامل. هذا التباين أدى إلى انقسام الجهود، مما أضعف من قوة الضغط الشعبي على الحكومات.
- التدخلات الخارجية. القوى الإقليمية والدولية، مثل الولايات المتحدة وروسيا وإيران والسعودية، تدخلت في مجريات الأحداث في الدول التي شهدت الثورات. هذا التدخل أدى إلى تحويل مسار الثورات، حيث تم دعم بعض الفصائل ضد الأخرى لتحقيق مصالح سياسية وجيوسياسية.
- ردود فعل الأنظمة الحاكمة. الأنظمة الحاكمة في الدول العربية التي شهدت الثورات استجابت بطرق مختلفة. بعضها استخدم القوة العسكرية لقمع المتظاهرين، بينما اختار البعض الآخر تقديم بعض التنازلات السياسية المؤقتة لتهدئة الوضع. في كل الحالات، لم تسمح هذه الأنظمة بتحقيق تغيير جوهري في الهيكل السياسي.
- نتائج الثورة وتأثيرها على الشعوب. بعد مرور عشر سنوات على بداية الربيع العربي، يمكن القول بأن معظم الثورات فشلت في تحقيق أهدافها الرئيسية. بدلاً من الديمقراطية والحرية، أدت هذه الثورات إلى تفاقم الأزمات الاقتصادية والسياسية، وفي بعض الحالات إلى انهيار كامل للدولة.
4- النقد الفلسفي للشاعرية الرومانسية.
- الشاعرية والرغبة في التغيير. الشاعرية الرومانسية، كما تجلت في أبيات أبو القاسم الشابي الشهيرة “إذا الشعب يوما أراد الحياة”، تعكس إيمانًا قويًا بإرادة الشعوب وقدرتها على تحقيق التغيير. ولكن هذه الرؤية، رغم جمالها وقوتها الأدبية، تصطدم بالواقع المعقد للعالم الحديث.
- الإرادة الشعبية مقابل الواقع السياسي. يمكن القول إن هذه الأبيات تمثل نوعًا من التفاؤل المفرط، حيث لا تأخذ في الاعتبار التعقيدات السياسية والاقتصادية التي قد تعرقل حركة الشعوب. التغيير لا يحدث بمجرد رغبة الشعوب، بل يعتمد على توازن القوى السياسية والاقتصادية.
- الفجوة بين النظرية والتطبيق. التاريخ الحديث يظهر أن هناك فجوة كبيرة بين الرغبة الشعبية والتطبيق الفعلي للتغيير. ففي العديد من الحالات، أدت الرغبات الجماعية إلى صراعات داخلية وفوضى بدلاً من تحقيق تغيير إيجابي.
- الرومانسية والثورات. الرومانسية في الشعر والسياسة قد تدفع الشعوب إلى الثورة، ولكنها قد تخفي خلفها تعقيدات أخرى تتعلق بإدارة الثورة وما يتبعها من إعادة بناء الدولة. الرومانسية قد تكون محفزًا للتغيير، ولكنها ليست خطة عمل عملية لتحقيق الأهداف.
- التوازن بين الرغبة والواقع. ينبغي النظر إلى الإرادة الشعبية على أنها جزء من معادلة أكبر تشمل الظروف السياسية والاقتصادية المحلية والدولية. الشعوب قد تمتلك الرغبة، ولكن النجاح يعتمد على الظروف المناسبة والتخطيط الاستراتيجي.
5- الأبعاد الدولية والمحلية للتغيير.
- التأثير الدولي على الحركات المحلية. القوى الدولية غالبًا ما تتدخل لتحقيق مصالحها الخاصة في أي ثورة أو حركة تغييرية. هذا التدخل قد يعوق جهود التغيير المحلية ويحول الثورات إلى نزاعات إقليمية أو دولية.
- التغيرات في الهيكل السياسي العالمي. العالم بعد الحرب الباردة شهد تحولات كبيرة في التوازنات السياسية. الدول العظمى أصبحت أكثر تأثيرًا في السياسات الداخلية للدول النامية، مما جعل التغيير الداخلي معقدًا ويعتمد بشكل كبير على العلاقات الدولية.
- التبعية الاقتصادية والمالية. العديد من الدول النامية تعتمد اقتصاديًا على القوى الكبرى والمؤسسات الدولية. هذه التبعية تجعل من الصعب على الشعوب تحقيق تغيير سياسي بدون مواجهة ضغوط اقتصادية هائلة، مما يعقد جهود الثورات الشعبية.
- التحالفات الإقليمية والدولية. الدول الكبرى تسعى دائمًا إلى الحفاظ على استقرار النظام العالمي بما يخدم مصالحها. لذلك، قد تدعم أنظمة مستبدة أو تتدخل في ثورات محلية لمنع حدوث تغييرات تهدد استقرارها الإقليمي. هذا التدخل قد يكون عسكريًا أو سياسيًا أو اقتصاديًا، ويعمل على توجيه الثورات بما يتماشى مع مصالح القوى الكبرى.
- دروس مستفادة من التجارب العالمية. من المهم النظر إلى دروس الثورات في العالم وما سبقها من أحداث مشابهة. الثورات الشعبية ليست دائمًا أداة فعالة للتغيير إذا كانت الظروف غير مهيأة. التاريخ يعلمنا أن التغيير يجب أن يتم في إطار تفاهمات محلية ودولية تتوافق مع توازن القوى.
6- الخلاصة.
- الشعوب والتغيير في العصر الحديث. في ضوء كل ما سبق، يبدو أن فكرة التغيير الشعبي المستقل هي فكرة مثالية قد لا تكون قابلة للتطبيق في ظل التعقيدات التي تفرضها العولمة والاقتصاد العالمي. الشعوب قد تكون عاملًا مهمًا في التحولات، ولكنها تحتاج إلى دعم خارجي وظروف داخلية مواتية.
- دور القوى العالمية في التغيير. القوى الدولية غالبًا ما تكون جزءًا من أي تحول كبير في المجتمعات النامية. فهم هذا الدور وإدراك توازن القوى قد يساعد على تحقيق التغيير، ولكن بدون الاعتماد المفرط على دعم خارجي قد يكون مشروطًا أو غير متوافق مع أهداف الشعوب.
- التغيير كعملية معقدة. التغيير الاجتماعي والسياسي لا يمكن أن يتم بين ليلة وضحاها. إنه عملية معقدة تتطلب تنظيمًا جيدًا، ودعمًا جماعيًا، وفهمًا عميقًا للأبعاد الدولية والمحلية. بدون التخطيط الاستراتيجي والتنظيم الفعال، قد تؤدي الثورات إلى نتائج عكسية، كما حدث في بعض حالات الربيع العربي.
- دور القيادة في التغيير. رغم ما قاله ماركس عن أن الشعوب هي التي تصنع التاريخ، إلا أن القيادة الفعالة قد تكون عاملًا حاسمًا في توجيه الحركات الشعبية وتحقيق الأهداف. القادة الناجحون هم الذين يستطيعون توحيد الشعوب وتوجيه طاقاتها لتحقيق تغيير إيجابي ومستدام.
- النظرة المستقبلية للتغيير. في النهاية، يبقى السؤال المطروح: هل تستطيع الشعوب وحدها إحداث التغيير في عالم متشابك ومعولم؟ يبدو أن الإجابة تتطلب مزيجًا من التنظيم الشعبي الفعال والوعي العميق بالتحديات الدولية، بالإضافة إلى القدرة على الموازنة بين القوى المحلية والعالمية لتحقيق الأهداف المنشودة.
7- الخاتمة.
يؤكّد التاريخ الحديث أن التغيير الاجتماعي والسياسي لا يعتمد بشكل حصري على إرادة الشعوب، بل هو نتاج تفاعل معقد بين القوى المحلية والدولية، والعوامل الاقتصادية والسياسية التي قد تكون غير مرئية للعيان. لقد أظهرت تجربة الربيع العربي أن رغبة الشعوب في التغيير، مهما كانت قوية، ليست كافية لتحقيق الأهداف المنشودة دون توفر الظروف الملائمة داخليًا وخارجيًا. من خلال نقد الفكر الماركسي وتناول الأمثلة الحديثة، يتضح أن الشعوب ليست دائمًا القوة المحركة للتاريخ، وأن التغيير في هذا العالم المتشابك يتطلب رؤية شاملة تشمل التعامل مع قوى عالمية متعددة ومتداخلة. يبقى السؤال الذي يطرحه البحث: كيف يمكن للشعوب تحقيق التغيير الحقيقي في عالم تسوده المصالح والتحالفات الكبرى؟