الصرخة… هل هي في واد؟
د. الياس ميشال الشويري
حين اعتلى رئيس الجمهورية سدّة الحكم، حمل خطاب القسم في طيّاته وعودًا كبيرة بحماية المواطنين وصون كراماتهم، مؤكدًا أن العهد الجديد سيكون عهدًا للعدالة واسترداد الحقوق، وفي مقدّمتها حقوق المودعين، التي وصفها بأنها “مقدّسة” ولا يجوز بأي حال من الأحوال التفريط بها.
ليست الأزمة التي يعيشها لبنان مجرد أزمة نقدية أو شحّ في السيولة، بل هي مأساة وطنية عميقة تمسّ جوهر حياة الناس، وتطال مستقبلهم، وصحتهم، وتعليم أبنائهم، وسلامهم النفسي. خمسة أعوام مرّت على هذا الانهيار، والوجع يزداد حدّة، والضحايا يتساقطون بصمت، فيما المسؤولون عن الكارثة يمضون في تهكّمهم على الكرامة والعدالة، يهرّبون الأموال بلا مساءلة، ويواصلون إعادة رسم ملامح لبنان بما يخدم مصالحهم الضيّقة، وكأن ما جرى ليس سوى مشهدًا من مسرحية عبثية يريدون إقناعنا بأنها قدر لا مفرّ منه.
- الانهيار المصرفي كترجمة لخيانة أمانة شعب كامل
لطالما قُدّمت المصارف اللبنانية على أنها دعامة من دعائم الاقتصاد، وأحد أركان الثقة الدولية بلبنان. غير أن السنوات الأخيرة كشفت زيف هذه الصورة، وأظهرت أن البنية المصرفية لم تكن سوى أداة بيد سلطة جشعة ومترهّلة. لقد شكّلت المصارف العمود الفقري للنظام الريعي، وتماهت كليًا مع السياسات المالية للدولة، حتى تحوّلت من مؤسسات مالية مستقلة إلى أذرع تنفيذية للفساد السياسي والمالي.
فمنذ التسعينيات، دخلت المصارف في شراكة مشبوهة مع الدولة، حيث قدّمت قروضًا ضخمة بفوائد خيالية للحكومة، دون ضمانات حقيقية، متناسية مهمتها الأصلية في تمويل الاقتصاد المنتج. وفي عام 2016، بدأت الكارثة تتبلور مع ما سُمي بـ”الهندسات المالية“، التي لم تكن إلا وسيلة لشراء الوقت من خلال ضخ الأموال في المصارف مقابل أرباح غير منطقية، صبّت في جيوب أصحاب البنوك ومن يدور في فلكهم.
ومع اندلاع انتفاضة 17 تشرين الأول 2019، وبدلًا من أن تتحمّل المصارف مسؤوليتها الأخلاقية والقانونية، أغلقت أبوابها، وفرضت قيودًا غير قانونية على سحب الأموال، من دون أي قانون رسمي أو نص تشريعي، بل بقرارات إدارية تعسفية. فُرض على الناس أن يتقاضوا ودائعهم بالدولار بـ”سعر منصة“، أي أقل بأضعاف من قيمته الحقيقية، وسُرقت مدّخرات الأعمار تحت عناوين “إعادة هيكلة“، و”تنظيم السحوبات“، و”إدارة الأزمة“.
ما يزيد من فداحة الجريمة هو الدور الذي لعبه مصرف لبنان. بدلاً من حماية العملة الوطنية وضمان حقوق المودعين، أصدر عشرات التعاميم التي كرّست السطو المنظّم، وأضفت شرعية زائفة على الممارسات المصرفية، فساهم في إفقار الناس باسم “الاستقرار المالي”، وتلطّى خلف سريّة مصرفية تحوّلت إلى أداة لحماية اللصوص.
- المأساة الاجتماعية والإنسانية الناتجة عن سرقة الودائع
لم تكن الكارثة المصرفية مجرد أزمة مالية، بل امتدت لتصبح مأساة اجتماعية وإنسانية بكل المقاييس. آلاف العائلات اللبنانية وجدت نفسها فجأة عاجزة عن سحب رواتبها أو تحويل الأموال لأبنائها، أو حتى دفع فواتير الطبابة والدواء. كبار السن، الذين أمضوا عمرهم في العمل والادخار، وقفوا مذلولين أمام المصارف وهم يترجّون حفنة دولارات لا تكفي ليوم واحد. بعضهم توفي قهرًا، والبعض الآخر أصيب بأزمات قلبية ونفسية جرّاء الإذلال اليومي.
وفي الوقت الذي كان فيه الناس يفقدون وظائفهم ومصادر رزقهم، كان أصحاب المصارف والنافذون السياسيون يعيشون في رفاهية مطلقة، بعد أن هرّبوا أموالهم إلى الخارج في الوقت المناسب. وقد سُجّلت حالات مستفزة من قيام بعض المتمولين بشراء العقارات والشقق بأسعار بخسة، بعد أن عجز المودعون عن تسديد القروض بسبب منعهم من الوصول إلى حساباتهم. وهكذا، خسر المواطن مسكنه ومدخراته معًا، فيما اقتنصت طبقة طفيلية كل ما تبقّى من ثروات اللبنانيين.
ولم تكن هذه المأساة مجرد نتيجة عرضية لانهيار اقتصادي، بل نتاج مباشر لغياب العدالة الاجتماعية ولتمادي سلطة لا تعبأ إلا بمصالحها. لقد شهدنا ولادة نظام اقتصادي جديد، قائم على طبقتين: الأولى هي الطبقة المتضررة، التي دفعت الثمن كاملاً، والثانية هي طبقة المنتفعين من الانهيار، الذين راكموا الثروات واستغلوا الظروف لشراء الأصول وتوسيع نفوذهم.
ولأن العدالة غائبة، ولأن القضاء مسيّس ومُقيّد، لم يجد كثير من المواطنين وسيلة سوى اقتحام المصارف للمطالبة بحقوقهم. هؤلاء ليسوا قطاع طرق، بل ضحايا نظام سلبهم كل شيء. ومع ذلك، تعاملت الدولة معهم كخارجين عن القانون، بينما تركت أصحاب المصارف والمستفيدين من السرقات يتمتعون بحصانة غير معلنة.
- الخطاب الرئاسي كعهد وضرورة لاسترجاع الحقوق
حين أعلن رئيس الجمهورية أن “أموال الناس مقدّسة“، شعر اللبنانيون بأن هناك من قرر أخيرًا أن يكون صوتهم في دولة أنهكتها المحاصصات وصفقات الفساد. بدا هذا التصريح بمثابة بصيص نور في نفق الانهيار، ورسالة إلى المودعين بأن عهدًا جديدًا قد بدأ، عهدٌ يعيد للدولة هيبتها ولمواطنيها كرامتهم. عُلّقت الآمال على بداية حكم لا يهادن الظلم ولا يُساير المنظومة التي اغتصبت تعب الناس وودائعهم، بل يُؤسس لإدارة نظيفة تسترد الحقوق وتضع مصلحة المواطن فوق كل حسابات النفوذ.
لكن الأمل وحده لا يكفي، بل يجب أن يتحول إلى خطة وطنية واضحة المعالم، تنهض على قاعدة الشفافية والمحاسبة. إن حماية أموال المودعين ليست مطلبًا شعبيًا فحسب، بل التزام دستوري وقانوني، يستند إلى المواثيق الدولية التي تحمي الملكية الفردية وتمنع التمييز في المعاملات المالية. لبنان لا يفتقر إلى الكفاءات، ولا إلى القضاة الشرفاء، بل إلى الإرادة السياسية الصادقة التي تُطلق مسارًا اقتصاديًا وقضائيًا جريئًا، يعيد الثقة بالقطاع المصرفي، ويُخضع كل من تورّط أو تواطأ للمساءلة العادلة.
الفرصة لا تزال قائمة، والتاريخ لا يرحم. على الدولة أن تُبادر فورًا إلى تنفيذ خطة إنقاذ فعلية، تشمل إعادة هيكلة القطاع المصرفي، ورفع السرية المصرفية عند الضرورة، ومحاسبة من تسبب بالانهيار، واسترجاع الأموال المنهوبة في الداخل والخارج. هذه الخطوات، إذا ما قادها العهد الجديد بإرادة صلبة وشفافية تامة، يمكن أن تعيد جزءًا من الثقة، وتمنح اللبنانيين سببًا للبقاء والتمسك بوطنهم. فلبنان، رغم ما أصابه من جراح، لا يزال يمتلك القدرة على النهوض، شرط أن يختار طريق الحق على حساب الصفقات، والعدالة على حساب التحالفات. والمودعون يستحقون دولة تحميهم، لا دولة تتواطأ على حقوقهم.

- الخاتمة
رغم كل ما مرّ به المودعون من ألم وخيبة، لا يزال الأمل قائماً في أن يحمل العهد الجديد بارقة خلاص حقيقية، تنصف الناس وتعيد إليهم حقوقهم. فالمعركة ليست فقط مع المصارف، بل مع منظومة كاملة سلبت تعب العمر، ومعركة استعادتها تتطلب موقفاً شجاعاً من رأس الدولة، يكون فيه الرئيس حصنًا منيعًا بوجه التفلت المالي، ومصدر ثقة لشعب يتوق إلى عدالة غابت طويلاً. المودعون، الذين تألموا بصمت، لا يزالون يعوّلون على خطاب القسم الذي تعهّد بإعادة الحقوق ومحاسبة من نهبها، في وقت يأمل فيه اللبنانيون أن تُكسر هيمنة المصارف، وتعود إلى دورها الطبيعي في خدمة الاقتصاد لا التحكم به.
إن استعادة الحقوق لا تنفصل عن المسار الإصلاحي الأشمل الذي يطالب به المجتمع الدولي والخليجي، والذي يبدأ من ضبط الحدود ومكافحة الفساد، ويمرّ بتوحيد القرار السيادي، وصولاً إلى إصلاح القطاع المصرفي ضمن مناخ من الشفافية والمحاسبة. من هنا، نأمل أن يكون هذا العهد عنوانًا لتحول جذري، يؤسّس لدولة قانون لا تتهاون مع المعتدين على المال العام والخاص. فلبنان لا يمكن أن يُبنى إلا على قاعدة الحقوق والعدالة، والمودعون يستحقون استرجاع أموالهم، وكرامتهم، وثقتهم بوطن لم ولن يتخلوا عنه.