براّك يصرّح في بعبدا
د. الياس ميشال الشويري
ليست الحوادث الكبرى وحدها هي التي تكشف عيوب المجتمعات، بل أحياناً تنكشف هذه العيوب من خلال تفاصيل صغيرة أو مواقف عابرة. هذا ما حصل في قصر بعبدا في السادس والعشرين من آب 2025، حين تحوّل مؤتمر صحفي عقب لقاء المبعوث الأميركي توم براك بالرئيس اللبناني جوزيف عون إلى سجال صاخب انتهى بكلمات حادة من الموفد الأميركي بحق الصحفيين اللبنانيين. ما بدا للوهلة الأولى حادثة دبلوماسية عابرة، سرعان ما تبيّن أنه مرآة عاكسة لخلل أعمق في البنية الثقافية والاجتماعية والسياسية اللبنانية: الغوغائية التي تحكم سلوك الأفراد والجماعات على حد سواء. لقد كشف المشهد الإعلامي الفوضوي عن أزمة أوسع من مجرد علاقة صحفيين بمسؤول أجنبي، فأعاد إلى الواجهة سؤالاً أساسياً: هل يستطيع اللبناني التمييز بين الحرية والفوضى، بين التعبير المسؤول والانفلات؟ إن هذا المقال يسعى إلى مقاربة الحادثة في سياقها العميق، رابطاً بين الغوغائية الإعلامية والواقع السياسي والاجتماعي اللبناني، ليبيّن كيف أصبحت الفوضى جزءاً من الهوية اليومية التي تقف حاجزاً أمام بناء دولة ومجتمع متماسكين.
- خلفية الحادثة ودلالاتها
في السادس والعشرين من آب 2025، تحوّل قصر بعبدا إلى ساحة تكثّفت فيها تعقيدات الأزمة اللبنانية ضمن مشهد سياسي وإعلامي بالغ الدلالة. فعقب لقاء المبعوث الأميركي توم براك برئيس الجمهورية المنتخب جوزيف عون، انعقد مؤتمر صحفي كشف عن هشاشة البنية الاتصالية اللبنانية، حين انفجر التوتر اللفظي بين براك وعدد من الصحفيين. وإذا كانت القضايا التي طُرحت – الأمن والسلاح والسيادة والحدود – مألوفة في الخطاب السياسي اللبناني، فإن ما استوقف المراقبين لم يكن طبيعة الطرح بقدر ما كان شكل التفاعل. فقد شكّل التداخل الصاخب للأسئلة، وانعدام التنظيم في إدارة الحوار، مناخاً غوغائياً دفع المبعوث الأميركي إلى مقاطعة الحضور بعبارة أثارت جدلاً واسعاً:
“the moment that this starts becoming chaotic like animalistic, we are gone“.
أي بالعربية:
“عندما يبدأ هذا الأمر بالتحوّل إلى فوضى أشبه بالسلوك الحيواني، سنغادر”.

المقصود بالسلوك الحيواني هنا هو ذلك السلوك الغريزي الذي يتجاوز العقلانية، ويتجسّد في مظاهر الهمجية والانفلات من الضوابط الإنسانية الخالية من السمات الثقافية أو العقلانية التي تُعرّف الحضارة.
إن هذه اللحظة الاتصالية يمكن قراءتها من منظور أوسع يتجاوز الانفعال الفردي إلى الدلالة البنيوية. فهي تعكس ملامح ما يسميه علم الاجتماع السياسي بـ “الثقافة السياسية الغوغائية”، حيث تغيب قواعد الانضباط المؤسسي ويهيمن منطق الفوضى والانفعال على المجال العام. بهذا المعنى، لم يكن تصريح براك مجرد انفعال طارئ، بل مؤشراً على إدراك خارجي لحالة اللاانتظام المؤسسي التي تطبع التفاعلات اللبنانية، سواء في السياسة أو الإعلام. فالمؤتمر الصحفي لم يكن استثناءً، بل مثالاً نموذجياً على ما يسميه يورغن هابرماس، من أهمّ علماء الاجتماع والسياسة في عالمنا المعاصر، “تدهور الفضاء العمومي حين يُختزل النقاش إلى صخب لا ينتج معرفة مشتركة ولا يؤسس لحوار عقلاني”.
ومن هنا يمكن القول إن الحادثة تكشف البعد البنيوي للأزمة اللبنانية في إدارتها للخطاب العام. فهي تسلّط الضوء على ما يمكن وصفه بـ إعادة إنتاج الفوضى كآلية للتواصل السياسي، حيث تُستعاض عن البنى المؤسسية الضابطة بممارسات غوغائية تُضعف ثقة الفاعلين الدوليين والمحليين على حد سواء. وعليه، فإنّ ردّة فعل المبعوث الأميركي، مهما بدت قاسية أو متوترة، ليست سوى انعكاس مباشر لانهيار معايير الحوار الديمقراطي في لبنان، وغياب ما يُعرف في الفكر السياسي بـ “العقلانية التواصلية”، ما يجعل من أي استحقاق سياسي أو إعلامي عرضة للانفجار الفوضوي عوض أن يكون مجالاً لإنتاج المعنى والشرعية.
إذا نظرنا بتمعّن إلى مشهد قصر بعبدا ذلك اليوم، نجد أن صورة الصحفيين اللبنانيين كانت انعكاساً للواقعَيْن السياسي والاجتماعي في البلد. لم يكن هناك تنسيق للأسئلة، ولا إدارة للوقت، ولا التزام بأصول المهنة التي تقتضي التراتبية والهدوء. بدا وكأن الصحافة، التي يُفترض أن تكون مرآة للعقلانية والرصانة، قد انزلقت إلى فوضى تشبه ازدحام الطرقات اللبنانية أو مشاجرات البرلمان أو حتى جلسات الأسواق الشعبية. من هنا، جاء رد براك كصدى لهذه الفوضى، لكنه حمل في طياته دلالات استعلائية جعلت كلامه يبدو كإهانة، في حين أنه، موضوعياً، لم يفعل سوى تسمية الأشياء بأسمائها. المشكلة الحقيقية إذن لا تكمن في انفعال المبعوث الأميركي بحد ذاته، بل في كون السلوك الصحفي الفوضوي مثّل النموذج المصغّر عن مجتمع أضاع البوصلة بين الحرية والفوضى، بين الديمقراطية والغوغائية.
الحادثة في بعبدا ليست معزولة، بل هي جزء من سلسلة طويلة من المشاهد التي تكشف عجز اللبنانيين عن إدارة الحوار بشكل متحضر. سواء في الشارع، أو في البرلمان، أو في المؤتمرات الصحفية، يتكرر المشهد نفسه: صراخ، مقاطعة، فوضى، وانعدام القدرة على إنتاج خطاب جماعي منظم. هذا السلوك الغوغائي يجد جذوره في ثقافة اجتماعية وسياسية تراكمت عبر عقود من الحروب والوصايات والانقسامات الطائفية، بحيث باتت الفوضى جزءاً من الهوية الوطنية غير المعلنة. إن حادثة براك لم تكشف عن مشكلة عابرة، بل عن مرض مزمن يجعل من كل لقاء أو استحقاق فرصة لإعادة إنتاج الفوضى، بدل أن يكون لحظة لتكريس النظام والجدية. ولعل أخطر ما في الأمر أنّ اللبناني اعتاد على هذه الفوضى حتى أصبحت عنده مرادفاً للحرية، في حين أنها في جوهرها شكل من أشكال العجز عن بناء مجتمع يحترم ذاته ويحترم الآخرين.
- الغوغائية كعائق أمام المهنية الإعلامية
الصحافة، في أي بلد متوازن، هي سلطة رابعة مهمتها أن تكون مرآة الحقيقة وجسر الحوار بين الدولة والمجتمع. غير أنّ الصحافة اللبنانية، رغم تاريخها العريق وريادتها في العالم العربي، غرقت في مستنقع الغوغائية الذي يلتهم كل ما هو منظم ومهني. فالمشهد في بعبدا لم يكن سوى انعكاس لواقع الإعلام اللبناني اليوم، حيث تتقدّم الرغبة في الظهور والصوت المرتفع على مضمون السؤال وعمق التحليل. الصحفي اللبناني، المتأثر بالانقسامات الطائفية والحزبية، كثيراً ما ينقل صراعات الشارع إلى المنابر الإعلامية، فيتحوّل من ناقل للخبر إلى طرف في النزاع، ومن ناقد للسلطة إلى أداة بيدها. وعندما يلتقي هؤلاء الإعلاميون بمسؤول دولي، تنفجر التناقضات دفعة واحدة: أسئلة عشوائية، مقاطعات متكررة، ومحاولات استعراض فردية، كل ذلك في غياب تنظيم جماعي يحفظ صورة المهنة وهيبتها.
الغوغائية الإعلامية لا تنعكس فقط على صورة الصحفيين في المؤتمرات، بل أيضاً على مضمون الرسالة التي تصل إلى المواطن. فعوض أن تُطرح الأسئلة العميقة التي تكشف خفايا السياسات الأميركية في لبنان أو تحدد المسؤوليات الداخلية، طغت على مؤتمر بعبدا أجواء الشغب الصوتي، ما جعل الحدث ينتهي بكلمة جارحة من المبعوث الأميركي أكثر مما انتهى بنقاش جوهري حول مستقبل البلد. وهنا يكمن الخطر الحقيقي: حين تتحول الصحافة من أداة مساءلة إلى مادة للجدل العقيم، فإنها تفقد جوهرها وتفقد ثقة الناس بها. المواطن اللبناني، الذي يعيش في دوامة الانهيار الاقتصادي والسياسي، بحاجة إلى إعلام يضيء على الحقائق لا إلى إعلام يضيف طبقة جديدة من الفوضى على حياته اليومية. إن الغوغائية، في هذا السياق، ليست مجرد سلوك، بل هي خيانة للمهنة وخيانة للمجتمع.
ربط هذه الغوغائية الإعلامية بالغوغائية السياسية والاجتماعية ليس أمراً تعسفياً، بل هو توصيف واقعي لحالة عامة. فالصحفي اللبناني لا يعمل في فراغ، بل في بيئة غارقة بالزبائنية الطائفية والفوضى الاجتماعية. وحين يكون السياسي نفسه غوغائياً، يصرخ على الشاشات ويشتم خصومه، فلا يُتوقع من الصحفي إلا أن يتأثر بهذه العدوى. وحين يكون الشارع اللبناني محكوماً بثقافة “الفزعة” والانفعال الفوري، فلا يُستغرب أن ينعكس ذلك على سلوك الإعلاميين في المؤتمرات. إن الحادثة مع براك ليست إلا مرآة لمجتمع فقد القدرة على التمييز بين التعبير المسؤول والفوضى العارمة. ولعل السؤال الجوهري هنا: كيف يمكن للإعلام اللبناني أن يستعيد مهنيته في وسط بيئة سياسية واجتماعية تغذّي الغوغائية في كل تفاصيلها؟

- الغوغائية اللبنانية كظاهرة اجتماعية – سياسية
الغوغائية ليست مجرد سلوك فردي عابر، بل هي نمط ثقافي متجذّر في الحياة اللبنانية. فمنذ عقود، اعتاد اللبناني على الخلط بين الحرية والفوضى، بين الجرأة والانفلات، حتى بات يظن أن رفع الصوت والصراخ هما الطريق الوحيد للتعبير عن الرأي. حادثة بعبدا مع الصحفيين ليست إلا انعكاساً لهذا الذهن الجمعي الذي يرى في التزاحم العشوائي على الكلام نوعاً من البطولة، بينما يراه الآخرون مظهراً من مظاهر التخلف. هذه الغوغائية متجذّرة في الحياة اليومية: في الشارع حين يتزاحم السائقون بلا قانون، في الجامعات حين تتحول النقاشات الفكرية إلى مشاجرات طلابية، وفي البرلمان حين يتبادل النواب الشتائم بدلاً من تبادل الحجج. إنها ثقافة قائمة على الهيجان اللحظي وغياب الانضباط، تجعل من كل مساحة عامة ساحة للفوضى بدل أن تكون ساحة للنقاش المسؤول.
لبنان، الذي يتغنّى دائماً بأنه بلد الحريات والديمقراطية، سقط في فخ الغوغائية حتى صارت هذه الأخيرة عائقاً أمام بناء مؤسسات حقيقية. فالحرية في معناها العميق هي القدرة على التعبير ضمن إطار يحترم الآخر ويحترم القانون، لكن الحرية في النسخة اللبنانية غالباً ما تتحول إلى فوضى تقود إلى انهيار كل ما هو مؤسساتي. الحادثة مع براك ليست إلا دليلاً إضافياً على هذا الانهيار: فبدلاً من أن يُثبت الإعلام اللبناني أنه قادر على مخاطبة العالم بطريقة تليق بتاريخ لبنان الصحفي والثقافي، كشف عن عجزه عن ضبط سلوكه في لحظة حرجة، ما أتاح للدبلوماسي الأجنبي أن يعظ اللبنانيين عن “التحضر”. الغوغائية هنا لم تضر فقط بسمعة الإعلاميين، بل بسمعة البلد بأسره أمام المجتمع الدولي، الذي يراقب هذه التفاصيل بعين ناقدة.
إذا لم يُعالج هذا النمط الغوغائي على المستوى الثقافي والتربوي، فإن لبنان سيبقى رهينة لفوضاه الداخلية، عاجزاً عن بناء دولة حديثة. المطلوب ليس فقط إصلاحاً سياسياً أو اقتصادياً، بل ثورة في الوعي والسلوك تبدأ من المدرسة والبيت والإعلام. اللبناني بحاجة إلى أن يتعلم أن الحرية لا تعني الفوضى، وأن النقاش لا يعني الصراخ، وأن الصحافة لا تُقاس بعدد الأصوات المرتفعة بل بجودة الأسئلة وعمقها. حادثة بعبدا قد تكون فرصة لإعادة التفكير في معنى الحرية الإعلامية وحدودها، وفي كيفية الانتقال من ثقافة الغوغائية إلى ثقافة الحوار المسؤول. من دون هذه المراجعة الجذرية، سيبقى لبنان يغرق في تكرار المشاهد نفسها: فوضى، شغب، إهانات متبادلة، وانهيار مستمر للثقة بين الداخل والخارج.
- الخاتمة
حادثة بعبدا لم تكن مجرّد زلة لسان من مبعوث أجنبي، ولا مجرد رد فعل انفعالي من صحفيين ضاق بهم الوقت والمكان. إنها تجلٍّ حيّ لمرض لبناني مزمن اسمه الغوغائية، مرض يتغلغل في السياسة كما في الإعلام، في الشارع كما في البرلمان، حتى صار جزءاً من صورة لبنان أمام نفسه وأمام العالم. من السهل أن نُحمّل براك المسؤولية ونطالب باعتذار، لكن الأصعب هو أن نواجه أنفسنا بالحقيقة: أن الفوضى صارت جزءاً من يومياتنا، وأننا، كمجتمع، لم ننجح بعد في تحويل الحرية إلى ممارسة حضارية. إذا أراد لبنان أن يستعيد مكانته، فعليه أن يبدأ من هنا: من تربية جيل يعرف أن الحرية ليست صخباً ولا استعراضاً غوغائياً، بل هي نظام يحترم القانون ويحترم الآخر. عندها فقط يمكن أن يتحوّل الإعلام من ساحة للفوضى إلى منبر للحوار، والسياسة من مسرح للانفعال إلى ساحة للعقل، والمجتمع من غابة أصوات متنافرة إلى فضاء مشترك لبناء وطن جدير بالحياة.