بشير الجميل بعد انتخابه رئيساً يُحيي الناس
د. الياس ميشال الشويري
يُطرح سؤال بقاء الشيخ بشير الجميل رئيساً للجمهورية اللبنانية بوصفه سؤالاً افتراضياً، لكنه في جوهره سؤال بنيوي يتعلّق بمسار الدولة اللبنانية لا بمصير شخص واحد. فهذا السؤال يفرض نفسه كلما عاد اللبنانيون إلى مراجعة العقود الأربعة الأخيرة، حيث تبيّن أن اغتيال بشير لم يكن مجرد حدث أمني، بل لحظة مفصلية أُغلقت فيها نافذة سياسية كان يمكن أن تفضي إلى مسار مختلف للدولة. إن أهمية هذا البحث لا تكمن في استعادة الماضي بدافع الحنين، بل في تحليل ما الذي تغيّر بعد غيابه، وكيف ساهمت تلك اللحظة في ولادة منظومة فساد متكاملة حكمت لبنان لاحقاً باسم التوافق والطائفية والسلم الأهلي. من هنا، يأتي هذا المقال كمحاولة تفكيك علمي لمسار بديل محتمل، ولمدى ارتباط انهيار الدولة اللبنانية بإلغاء مشروع سياسي أراد، ولو بوسائل صدامية، إعادة الاعتبار لفكرة الدولة السيّدة والقادرة.
- مشروع الدولة المركزية وإشكالية الحسم في مواجهة منظومة الحرب والفساد
لو بقي الشيخ بشير الجميل في موقع الرئاسة، لكان لبنان قد دخل مرحلة انتقالية قاسية عنوانها الصراع بين منطق الدولة ومنطق الحرب المقنّعة. فبشير لم يطرح نفسه رئيس تسوية، بل رئيس مواجهة مع واقع الانهيار الشامل، حيث لم تعد المشكلة محصورة في الاقتتال العسكري، بل في تحوّل الحرب إلى بنية اقتصادية واجتماعية وسياسية. هذا الواقع كان قد أنتج شبكات مصالح مترابطة تقوم على الجباية غير الشرعية، والتحكم بالمرافئ والمعابر، واحتكار الخدمات، وهو ما جعل قيام الدولة يشكّل تهديداً وجودياً لهذه الشبكات.
من منظور تحليلي، كان مشروع بشير يقوم على فرضية أن الدولة لا تولد من التوازن بين الميليشيات، بل من كسرها. هذا التصور يتعارض جذرياً مع المسار الذي سلكه لبنان لاحقاً، حيث جرى دمج أمراء الحرب في السلطة وتحويلهم إلى حماة للنظام الجديد. بقاء بشير في الرئاسة كان سيعني محاولة تفكيك هذا الواقع بالقوة السياسية وربما الأمنية، وهو ما كان سيقوده إلى صدامات داخلية عنيفة، لكن هذه الصدامات كانت ستجري باسم إعادة بناء الدولة، لا باسم تقاسمها.
إن الربط بين هذا المشروع ومنظومة الفساد التي حكمت لبنان لاحقاً يكشف أن اغتيال بشير سهّل انتقال اقتصاد الحرب إلى اقتصاد دولة. فالفساد بعد الحرب لم يكن انحرافاً طارئاً، بل كان استمراراً منظّماً لمنطق الحرب بوسائل سلمية. لو بقي بشير، لكان هذا الانتقال قد تعرّض لعرقلة مبكرة، لأن مشروعه كان يقوم على إعادة الاعتبار للمؤسسات، لا استخدامها واجهة لتقنين النهب. من هنا، يمكن القول إن غيابه لم يُنهِ مشروعاً سياسياً فقط، بل أزال العقبة الأساسية أمام تحوّل الفساد إلى نظام حكم شامل.

كما أن استمرار بشير كان سيعيد طرح سؤال الشرعية السياسية، لا بوصفها تمثيلاً طائفياً، بل بوصفها قدرة على الحكم. هذا التحوّل في مفهوم الشرعية كان من شأنه أن يربك الزعامات التقليدية التي اعتادت الاحتماء بالطائفة لتعويض فشلها في بناء الدولة. ولذلك، فإن احتمال نجاح بشير أو فشله لا يمكن فصله عن حقيقة أن لبنان بعده اختار طريق التسوية السهلة التي أنتجت استقراراً هشّاً مقابل انهيار طويل الأمد.
- السيادة والقرار الوطني في مواجهة الارتهان المنظّم للخارج
يشكّل البعد الخارجي أحد أعقد جوانب فرضية بقاء الشيخ بشير الجميل في الحكم، إذ إن لبنان كان ولا يزال ساحة مفتوحة لتقاطع المصالح الإقليمية والدولية. غير أن قراءة علاقة بشير بالخارج تفرض التمييز بين الاستقواء الظرفي وبين الارتهان البنيوي. فالدولة المنهارة غالباً ما تلجأ إلى تحالفات خارجية لتأمين بقائها، لكن الخطر يكمن في تحوّل هذه التحالفات إلى بديل دائم عن القرار الوطني.
لو بقي بشير رئيساً، لكان عليه أن يخوض معركة شاقة لتحويل الدعم الخارجي من أداة نفوذ إلى رافعة مرحلية لإعادة بناء الدولة. هذا المسار، وإن بدا نظرياً، كان سيضع أسساً مختلفة للعلاقة بين لبنان والخارج، حيث تصبح الدولة هي الوسيط الوحيد، لا الطوائف ولا الأحزاب. هذا التوجّه، لو تحقق جزئياً، كان سيحدّ من قدرة القوى الداخلية على استخدام الخارج لتثبيت مواقعها، وهو ما شكّل لاحقاً أحد أعمدة منظومة الفساد.
إن ما شهده لبنان بعد اغتيال بشير يثبت أن الارتهان لم يؤدِّ إلى حماية البلد ولا إلى استقراره، بل إلى شلل الدولة وتحويلها إلى ساحة صراعات بالوكالة. فقد أصبح الخارج شريكاً ضمنياً في تقاسم النفوذ والموارد، فيما غابت أي رؤية سيادية موحّدة. بقاء بشير كان قد يفرض نقاشاً وطنياً حاداً حول مفهوم السيادة، لا بوصفها شعار مقاومة أو حياد، بل بوصفها قدرة الدولة على اتخاذ القرار وتنفيذه.
في هذا السياق، يمكن القول إن اغتياله أزال الشخصية التي كانت قادرة، أو راغبة، في تحمّل كلفة الصدام مع منطق الارتهان. فالمنظومة التي حكمت لبنان لاحقاً لم ترَ في السيادة هدفاً، بل عبئاً، لأنها كانت تتغذّى من التناقضات الخارجية. من هنا، يصبح غياب بشير لحظة مفصلية في تكريس نموذج الدولة التابعة، حيث تُستخدم السيادة خطاباً، وتُفرَّغ ممارسة.

- المجتمع اللبناني والطائفية كأداة حكم أم كعائق أمام الدولة
لا يكتمل تحليل فرضية بقاء الشيخ بشير الجميل دون التوقف عند البعد الاجتماعي والطائفي للأزمة اللبنانية. فالحرب الأهلية لم تدمّر البنية السياسية فقط، بل أعادت تشكيل المجتمع على أساس الخوف والحماية الطائفية. في هذا السياق، كان مشروع بشير يسعى إلى نقل مركز الولاء من الطائفة إلى الدولة، ولو بأسلوب صدامي، وهو ما جعله مشروعاً إشكالياً لكنه جذرياً.
لو استمر بشير في الرئاسة، لكان المجتمع اللبناني قد دخل مساراً شاقاً لإعادة تعريف علاقته بالدولة. هذا المسار كان سيضع الأفراد أمام خيار صعب بين دولة تفرض القانون على الجميع، وطوائف تؤمّن الحماية مقابل الولاء. هذا التحدي لم يُطرح جدياً بعد اغتياله، بل جرى الالتفاف عليه عبر تكريس نظام محاصصة جعل الطائفة وسيطاً دائماً بين المواطن والدولة.

إن منظومة الفساد التي حكمت لبنان منذ أكثر من أربعين عاماً لم تكن لتستمر لولا هذا التحالف العميق بين الطائفية والفساد. فالطائفة تحوّلت إلى غطاء أخلاقي للنهب، والفساد صار أداة لإدامة الزعامة. بقاء بشير كان قد يفتح مواجهة مبكرة مع هذه البنية، مواجهة قد لا تنتهي بانتصار سريع، لكنها كانت ستمنع تحوّل الفساد إلى ثقافة عامة ونظام حكم مستقر.
في ضوء الواقع اللبناني الراهن، يظهر أن سؤال بقاء الشيخ بشير الجميل يتجاوز شخصه ليطال جوهر الأزمة اللبنانية. فاغتياله لم يُنهِ خلافاً سياسياً، بل حسم الصراع لمصلحة نموذج الدولة الضعيفة الخاضعة لمنظومة مصالح. لو بقي في الرئاسة، ربما لم يكن لينقذ لبنان من كل أزماته، لكنه كان سيجعل الصراع واضحاً بين مشروع دولة ومشروع فساد، وهو وضوح افتقده اللبنانيون لاحقاً، ودفعوا ثمن غيابه انهياراً شاملاً.

- الخاتمة
إن فرضية بقاء الشيخ بشير الجميل رئيساً للبنان تكشف، عند تحليلها بعمق، أن أزمة لبنان لم تكن قدراً محتوماً، بل نتيجة مسار سياسي أُقفل مبكراً بفعل الاغتيال. فالمسار الذي تلا غيابه أثبت أن التسويات التي أُنجزت باسم السلم الأهلي أنتجت منظومة فساد أكثر عنفاً واستدامة من الحرب نفسها. من هنا، لا يُطرح هذا السؤال لتقديس الماضي، بل لفهم كيف ضاعت فرصة مبكرة، بكل تناقضاتها، لمواجهة انهيار الدولة، ولماذا ما زال لبنان حتى اليوم يدفع ثمن إلغاء الصراع الحقيقي حول معنى الدولة.
























































