مرفأ بيروت بعد تعرّضه للتدمير
د. الياس ميشال الشويري
لبنان بلد صغير بحجمه، كبير بإمكاناته وموقعه الجغرافي، شكّل عبر تاريخه نقطة التقاء حضارات وأسواق ومصالح. كان مرفأ بيروت عنواناً لهذا الدور، فصار شريان الحياة الاقتصادية الذي يربط لبنان بالعالم. لكنه لم يسلم من لعنة السياسة اللبنانية التي حوّلته من مركز تجاري مزدهر إلى حطام مأساوي، لا يشهد سوى على فساد الطبقة السياسية وجشعها. وبينما تنهض مرافئ المنطقة من حولنا، مثل مرفأ حيفا في إسرائيل ومرفأ طرطوس في سوريا، يتساءل اللبنانيون: أين هم هؤلاء السياسيون الذين كانوا يتحدثون عن حماية الوطن ومصالحه؟ أين هي الدولة التي كان يُفترض أن تحمي المرفأ وتحافظ عليه؟ هذا البحث محاولة للغوص في أعماق هذه القضية، لفهم كيف تحوّل مرفأ بيروت من منارة اقتصادية إلى رمز للانهيار، وربطه بواقع لبنان المأزوم بين الأطماع الإقليمية والتقصير الداخلي.
1. مرفأ بيروت – ذاكرة الوطن وخط الحياة الاقتصادي
كان مرفأ بيروت يوماً ما القلب النابض للاقتصاد اللبناني، وشريان الحياة الذي يربط لبنان بالعالم الخارجي. بُني المرفأ ليكون مركزاً للتجارة البحرية، حيث تمرّ عبره البضائع من الشرق إلى الغرب، ويُعَدّ من أقدم الموانئ في الشرق الأوسط، إذ امتاز بموقعه الجغرافي الاستراتيجي بين أوروبا وآسيا وأفريقيا. المرفأ لم يكن مجرد مكان لتفريغ الحاويات أو تحميل السفن، بل كان رمزاً للحلم اللبناني، للصناعات الصغيرة والمتوسطة، للتجار والعمال الذين كانوا يجدون فيه رزقهم، وللبلدات النائية التي كانت تعتمد على إيراداته لتمويل مشاريعها وخدماتها.
لكن مع مرور السنوات، بدأ هذا القلب بالتوقف عن النبض تدريجياً. لم يكن السبب قلة الإمكانات أو ضعف البنى التحتية فحسب، بل بالأحرى منظومة الفساد السياسي التي التهمت الأخضر واليابس، وأفرغت المرفأ من دوره الحقيقي، حتى تحول إلى ساحة لتقاسم النفوذ بين السياسيين.

تاريخ مرفأ بيروت حافل بمحطات مشرقة، حيث كان حلقة وصل بين المشرق والمغرب، يعجّ بالحركة والحياة، ويستقبل السفن من كل أنحاء العالم. بعد نهاية الحرب الأهلية اللبنانية، كان يفترض أن يكون المرفأ منصة لانطلاقة اقتصادية جديدة تعيد للبنان دوره الريادي في التجارة والخدمات. ولكن، بدل أن يكون مشروعاً وطنياً جامعاً، تحوّل المرفأ إلى مزرعة خاصة للسياسيين والنافذين، يتقاسمون مداخيله ويستخدمونه وسيلة للضغط السياسي والابتزاز. تمّ تقليص دوره تدريجياً، بينما الموانئ الأخرى في المنطقة، كميناء حيفا في إسرائيل وميناء طرطوس في سوريا، كانت تتطور وتتوسع لتكون بدائل استراتيجية لمرفأ بيروت.
اليوم، بعد كارثة الرابع من آب، أصبح مرفأ بيروت حطاماً وصورة صارخة لفشل الدولة اللبنانية في حماية مؤسساتها الحيوية. الدمار لم يكن فقط في البنى التحتية بل في ثقة الناس بوطنهم، وبمستقبلهم، وبالعدالة التي يفترض أن تُقتص من المسؤولين الحقيقيين عن هذه الفاجعة. وفي المقابل، نشهد كيف تطور مرفأ حيفا بدعم إسرائيلي كامل ليتحول إلى مركز تجاري متطور يرتبط باتفاقيات دولية، بينما استثمرت روسيا والصين في مرفأ طرطوس لتوسيع نفوذه وتطويره. أما مرفأ بيروت، فبقي رهينة لمعادلات النفوذ والمصالح الضيقة، وكأنه خارج حسابات الدولة التي تركته يتلاشى كما تتلاشى أحلام اللبنانيين.
2. السياسيون الجهابذة – من الإنكار إلى النهب المُنظم
منذ عقود، يحكم لبنان طبقة سياسية فاسدة تعتبر المرافئ والمرافئ البرية والبحرية والدخل العام مجرد موارد شخصية تموّل بها مشاريعها، وتُغدق بها على محازبيها، وتستخدمها كأدوات للزبائنية السياسية. هؤلاء السياسيون الجهابذة الذين يدّعون الوطنية والحرص على مصلحة البلد، هم في الحقيقة شركاء في قتل أحلام اللبنانيين. كيف يمكن تفسير أن مرفأ بهذا الحجم لم يكن له نظام إدارة حديثة؟ كيف تُترك أطنان من المواد المتفجرة في العنابر دون مراقبة؟ أين كانت العيون الساهرة والأجهزة الأمنية؟ كل هذه الأسئلة تفضح حقيقة أن المرفأ لم يكن يوماً مشروع دولة، بل سوقاً سوداء لتقاسم الأرباح، وجزءاً من شبكة فساد تتغلغل في كل زاوية من زوايا المؤسسات اللبنانية.
هؤلاء السياسيون الفاسدون لم يكتفوا بإهمال المرفأ، بل ساهموا بتقويضه عبر الصفقات المشبوهة، ومنع أي مشروع تطويري كان يمكن أن يُعيد له دوره. حتى بعد الانفجار المشؤوم، الذي راح ضحيته الآلاف من الضحايا بين قتلى وجرحى وتدمير الآلاف من المنازل، لم نشهد استقالات واسعة أو محاسبة فعلية، بل شاهدنا كيف انكفأ الجميع خلف خطابيات جوفاء عن السيادة والكرامة الوطنية، في حين كان أبناء بيروت يُشيّعون أبناءهم في جنازات صامتة. السياسيون، لعنة الله عليهم، كانوا مشغولين بكيفية استثمار الكارثة، لا بحل الأزمة. في المقابل، تتعاظم الاستثمارات الأجنبية في مرفأي حيفا وطرطوس، وكأن العالم يعيد رسم خرائط النفوذ البحري والاقتصادي، فيما لبنان يغرق في ركام الإهمال.
الأسوأ أن هؤلاء الجهابذة، بدل أن يستفيدوا من التجربة الأليمة ليعيدوا التفكير في النموذج الاقتصادي اللبناني، عادوا لممارساتهم المعتادة: التهرب من المسؤولية، ورمي التهم على بعضهم البعض، وتوزيع الوعود الفارغة بالإصلاح. أما الشعب اللبناني، فقد وجد نفسه ضائعاً بين الوجع والخذلان، يتفرج على مشاهد إعادة إعمار الموانئ الأخرى في المنطقة، بينما مرفأه التاريخي ما زال عبارة عن حطام، ينتظر لجنة تحقيق لا تأتي، وعدالة لا تتحقق، وخطة إصلاح لا تولد. هؤلاء السياسيون الذين يفترض أن يكونوا أمناء على المصلحة العامة، تحوّلوا إلى أباطرة فساد، لا همّ لهم سوى ملء جيوبهم، ولو على أنقاض الوطن.

3. لبنان بين ركام المرفأ وأطماع الإقليم – ماذا بعد؟
موقع لبنان الجغرافي الذي جعل منه مركزاً حيوياً للتجارة، تحوّل اليوم إلى عبء ثقيل، لأنه أصبح مطمعاً لكل القوى الإقليمية والدولية، في ظل غياب الدولة القوية والقيادة المسؤولة. مرفأ بيروت كان يمكن أن يكون بوابة للتكامل مع المرافئ الأخرى في المنطقة، ضمن رؤية استراتيجية تحقق مصالح لبنان وشعبه. بدلاً من ذلك، أصبح المرفأ ورقة ضغط بيد اللاعبين الكبار في المنطقة، بينما السياسيون اللبنانيون يلهثون وراء المصالح الآنية. في المقابل، إسرائيل تسوّق مرفأ حيفا كبديل لمرفأ بيروت في التجارة الدولية، وسوريا تمنح الامتيازات لمرفأ طرطوس ليكون بوابة روسيا إلى البحر المتوسط. أما لبنان، فغارق في خطاباته الفارغة ولعبته المميتة في تقاسم الحصص.
غياب الرؤية الاستراتيجية للدولة اللبنانية هو ما جعل مرفأ بيروت يتراجع بهذه الصورة المخزية. لا توجد خطط متكاملة لإعادة تأهيل المرفأ، أو لتطويره بما يتناسب مع التغيرات الجيوسياسية في المنطقة. بدل أن يكون جزءاً من منظومة موانئ إقليمية حديثة، بقي المرفأ معزولاً، تنتظره مشاريع وهمية، ولجان تحقيق تائهة بين القضاء والسياسة، وأوهام بأن التعويضات الخارجية ستعيده إلى سابق عهده. في ظل هذا الواقع، يبقى السؤال: كيف يمكن للبنان أن يصمد في وجه المتغيرات إذا كان لاعبوه السياسيون عاجزين عن إدارة مرفأ بحجم بيروت، أو حتى عن استيعاب حجم الفاجعة التي أصابت العاصمة؟
أمام هذا المشهد القاتم، تبدو الحاجة ملحّة لإعادة التفكير في دور لبنان، وفي العلاقة بين المرفأ والدولة، وبين الاقتصاد والسياسة. المطلوب ليس فقط إعادة إعمار المرفأ بالحجارة والإسمنت، بل إعادة بناء الثقة بين اللبنانيين ودولتهم، وإيجاد قيادة جديدة تمتلك الجرأة والرؤية لبناء وطن قوي وعادل. مرفأ بيروت ليس مجرد ميناء، بل مرآة تعكس مأساة لبنان ومكامن ضعفه. إذا استمر اللبنانيون في انتظار مبادرات خارجية أو رهانات عبثية على الحلول الإقليمية، فإنهم سيجدون أنفسهم أمام واقع أكثر إيلاماً: مرافئ الجيران تتوسع، ومرافئنا تُهدم، والسياسيون الجهابذة يتفننون في فنون الإنكار والنهب، بينما السفن تمرّ من أمام شواطئنا، ولا ترسو في مرافئنا.
4. الخاتمة
إن قصة مرفأ بيروت ليست مجرد قصة حطام مادي، بل حطام دولة بكاملها، حطام منظومة سياسية تعيش على حساب الوطن والمواطن، وتدير مقدراته بمنطق الغنيمة لا بمنطق الدولة. بينما ستتطور موانئ المنطقة، يترنح لبنان بين أطماع الخارج وفشل وفساد الداخل. ولا خلاص للبنان إلا بإعادة تعريف دوره، والتخلّص من المنظومة الفاسدة التي أمعنت فتكاً بلبنان على مدى أكثر من 40 عاماً, وبناء دولة قادرة على حماية مقدراتها، واستعادة مرفأ بيروت كعنوان للكرامة والسيادة الوطنية. مرفأ بيروت ليس حجراً بين الأنقاض، بل هو رمز لصراعنا بين الموت والحياة، بين اليأس والأمل، بين دولة الفساد ودولة العدالة. فهل نملك الجرأة لنقول: كفى؟ وهل نملك الشجاعة لنحمي ما تبقى من وطننا قبل أن يصبح مرفأ بيروت ذكرى تُعرض في المتاحف بينما تمر السفن في مرافئ الآخرين؟