احياء ذكرى آلام المسيح
د. الياس ميشال الشويري
في الآونة الأخيرة، أصبحت كلمة “الشهادة” تُستخدم بشكل فضفاض حتى بات كل من يموت في الحروب أو النزاعات يُطلق عليه “شهيد“، بغض النظر عن سبب موته أو السياق الأخلاقي والديني المرتبط به. لكن، هل هذا المفهوم يتماشى مع المعنى الحقيقي للشهادة، خاصة في السياق المسيحي؟
- الشهادة الحقيقية: المفهوم المسيحي
في المسيحية، الشهادة ليست مجرّد موت في معركة أو في حادثة مأساوية، بل هي تقديم الحياة شهادةً للإيمان بالمسيح، له المجد، حتى لو أدّى ذلك إلى الموت. الشهادة تعني الصبر على الاضطهاد، والتمسّك بالإيمان حتى النهاية، دون اللجوء إلى العنف. وكما قال المسيح، له المجد: “طوبى لِلمُضطَهَدينَ على البِرّ فإِنَّ لَهم مَلكوتَ السَّمَوات” (متّى 10:5).
- شروط الشهادة في المسيحية
- أن يكون الاستشهاد نتيجة الإيمان بالمسيح وليس لأسباب دنيوية أو سياسية.
- أن لا يكون الشهيد قد لجأ إلى العنف أو القتال، بل مات بسبب تمسّكه بالحقيقة والبر.
- أن تحمل شهادته رسالة محبة وسلام، كما فعل المسيح، له المجد، الذي قال وهو على الصليب: “يا أَبَتِ اغفِرْ لَهم، لِأَنَّهُم لا يَعلَمونَ ما يَفعَلون” (لوقا 34:23).
- التشويه الحديث لمفهوم الشهادة
في الكثير من المجتمعات اليوم، أصبح مصطلح “الشهيد” يُطلق على أي شخص يموت في الحروب، بغض النظر عن دوافعه وأفعاله. فالجندي الذي يموت في معركة يُسمّى شهيدًا، والمنتحر الذي ينفّذ هجومًا إرهابيًا يُسمّى شهيدًا، بل حتى من يموت في حوادث غير متعلقة بالدين يُطلق عليه أحيانًا هذا اللقب. لكن، هل كل من يموت في حرب أو بسبب نزاع يستحّق هذا اللقب؟
يبقى السؤال الذي يطرح نفسه:
- إذا كان الشخص مقاتلًا قتل آخرين من أجل أهداف سياسية أو عسكرية، فهل يمكن اعتباره شهيدًا؟
- إذا كان موته نتيجة سلوك خاطئ أو عدواني، فهل يُمنح هذا اللقب؟
- إذا مات من أجل قضية دنيوية بحتة، فهل يستوي مع من ضحّى بحياته لأجل الإيمان؟
- الشهادة في الحروب والصراعات: هل هي شهادة حقيقية؟
في الصراعات السياسية والعسكرية، يُطلق لقب “الشهيد” على القتلى من جميع الأطراف، حتى لو كانوا يقاتلون بعضهم ضد البعض الآخر! فإذا كانوا جميعًا شهداء، فمن هو القاتل؟ ومن هو المعتدي؟
المفهوم المسيحي للشهادة يختلف تمامًا عن هذه النظرة الدنيوية. فالشهادة الحقيقية ليست في القتل أو الموت في معركة، بل في تقديم النفس قربانًا للمحبّة والسلام، مثلما فعل المسيح، له المجد، والقدّيسون عبر التاريخ.
- الفرق بين الشهادة في المسيحية والشهادة في الديانات الأخرى التي تجيز القتل
ملخّص الأمر، ليس كل من يموت “شهيدًا“، لأن الشهادة الحقيقية ليست مجرّد موت في معركة أو حادثة عنيفة. الشهادة في المسيحية تقوم على الإيمان العميق، على التضحية النقيّة، وعلى المحبّة التي لا تعرف الكراهية ولا الانتقام. أما الاستخدام العشوائي لمصطلح “الشهيد“، فهو تحريف خطير يمحو الفرق بين التضحية السلمية والموت العنيف، ويفتح الباب أمام التلاعب السياسي والديني بالمفهوم.
6. إذن، من هو الشهيد الحقيقي؟
- الشهيد الحقيقي هو من يموت حبًا، لا حقدًا. الحب هو جوهر الرسالة المسيحية، وهو أيضًا أساس الشهادة الحقيقية. الشهيد لا يموت بسبب كراهيته لأحد، ولا يسعى للانتقام أو الأذى، بل يقدّم حياته طوعًا في سبيل الحق والعدل. إن الشهادة الحقيقية لا تأتي من رغبة في قتل الآخرين أو التسبّب في الضرر، بل من استعداد تام لبذل الذات من أجل الخير، حتى وإن كان ذلك يعني التضحية بالحياة. فالمسيح نفسه، النموذج الأسمى للشهادة، لم يرفع سيفًا، ولم يدعُ للانتقام، بل أحب حتى جلّاديه وغفر لهم وهو على الصليب.
“لَيسَ لأَحَدٍ حُبٌّ أَعظمُ مِن أَن يَبذِلَ نَفَسَه في سَبيلِ أَحِبَّائِه” (يوحنا 13:15)
ومن هنا، فإن كل استشهاد يُبنى على كراهية الآخرين، أو السعي لتدميرهم، لا يمكن أن يكون شهادة حقيقية، بل هو تشويه لمفهوم التضحية والمحبّة. الشهيد الحقيقي هو من يموت وهو يحمل في قلبه حبًا للعالم، وليس ضغينة أو رغبة في الانتقام.
- الشهيد الحقيقي هو من يموت مضطهدًا، لا من يضطهد غيره!
الشهيد في المفهوم المسيحي لا يكون أبدًا في موقف القامع أو الجلّاد، بل هو دائمًا في موضع المضطهَد، الذي يعاني الظلم لكنه يرفض الرد بالعنف. فالشهيد لا يحمل سلاحًا ولا يسعى للانتقام، بل يقبل الألم والاضطهاد بصبر وسلام داخلي. إذا نظرنا إلى تاريخ المسيحية، سنجد أن الشهداء الحقيقيين لم يكونوا مقاتلين ولا دعاة حروب، بل كانوا أشخاصًا يُقتلون بسبب تمسّكهم بإيمانهم، دون أن يلجؤوا إلى العنف للدفاع عن أنفسهم.

القديس إسطفانوس، أول الشهداء، رُجم حتى الموت لأنه كان يبشّر بالمسيح، لكنه في لحظة استشهاده صلّى من أجل الذين كانوا يرجمونه قائلًا: “يا ربّ، لا تَحسُبْ علَيهم هذهِ الخَطيئَة” (أعمال الرسل 60:7).
–الأب فرانز فان در لوغت، على سبيل المثال لا الحصر، اليسوعي الذي قُتل في سوريا عام 2014، رفض مغادرة مدينة حمص المحاصرة، وبقي يخدم الفقراء حتى تم اغتياله، لا لأنه حمل السلاح، بل لأنه تمسّك برسالة المحبة والسلام.
الشهيد الحقيقي إذن، هو من يكون في موقف الضعيف المضطهَد، الذي يُقتل ظلمًا بسبب الخير الذي يحمله، لا من يقمع الآخرين ويقتلهم ثم يدّعي الشهادة.

- الشهيد الحقيقي هو من يشبه المسيح في صبره، لا من يقتل باسم الله!
المسيح، له المجد، هو النموذج الأعلى للشهيد، ليس فقط لأنه قُتل ظلمًا، ولكن لأنه قَبِل موته بصبر ومحبّة، ولم يردّ على العنف بالعنف. لقد كان بإمكانه أن يدافع عن نفسه أو أن يدعو الجيوش السماوية لإنقاذه، لكنه اختار طريق الصليب، طريق الفداء بالمحبة، وليس القتل باسم الله.
الشهداء الحقيقيون عبر التاريخ المسيحي ساروا على خطى المسيح في صبرهم وثباتهم على الإيمان رغم العذابات، دون أن يلجؤوا إلى العنف أو الانتقام. أما الذين يقتلون باسم الله، فإنهم يُسيئون إلى معنى الشهادة، لأن الله هو إله محبة، وليس إلهًا يطلب سفك الدماء. الشهادة الحقيقية ليست في القتال من أجل الله، بل في العيش والموت وفقًا لمحبته وسلامه.
7. ماذا يمكن أن نقول عن الشخص، اذا جاز التعبير، الذي يطعن الناس العزّل ظلمًا، أو يدهس الأبرياء عمدًا، أو يقتل الناس بدم بارد، ومن ثم يُقتل؟
هذا الشخص لا يمكن أن يكون شهيدًا بأي شكل من الأشكال، بل هو حثالة بشرية، جبان، مجرم، دنيء، سفّاك للدماء، وعدو للإنسانية والأخلاق.
- لماذا هو مجرم وليس شهيدًا؟
-الشهيد يموت مظلومًا، لا قاتلًا. الشهيد الحقيقي هو من يُقتل بسبب إيمانه أو مبادئه النبيلة، وليس من يقتل الأبرياء. القاتل الذي يهاجم العُزّل لا يموت في سبيل قضية سامية، بل ينشر الفوضى والكراهية.
-الشهيد ينشر المحبة، والقاتل ينشر الإرهاب. المسيح، له المجد، علّمنا: “أَحِبُّوا أَعداءَكم وصَلُّوا مِن أَجلِ مُضطَهِديكُم” (متى 44:5)، فكيف يكون قاتل الأبرياء شهيدًا؟
-الشهيد الحقيقي لا يحمل سكينًا أو يقود سيارة ليقتل الأبرياء، بل يُواجه الموت بصبر وإيمان.
- القاتل جبان وليس بطلًا!
-لا يمكن لأي شخص عاقل أو صاحب ضمير أن يعتبر القاتل الإرهابي شهيدًا، بل هو مجرم جبان يجب أن يلقى عقابه في الدنيا والآخرة. الشهيد الحقيقي هو من يموت على طريق الحق، وليس من يغرق يديه بدماء الأبرياء.
خلاصة الأمر،
- الشهادة لا تُكتسب بالقتل، بل بالتضحية من أجل الخير والحق. من يقتل الأبرياء ظلمًا هو مجرم، جبان، وحثالة، وليس شهيدًا بأي معنى أخلاقي أو ديني. الفرق بين الاثنين واضح:
“من ثِمارِهم تَعرِفونَهم. أَيُجْنى مِنَ الشَّوْكِ عِنَبٌ أَو مِنَ العُلَّيْقِ تين؟” (متى 16:7).
بمعنى آخر،
- من يزرع الدم لا يحصد إلا اللعنة والهلاك.
- من يقتل باسم الله ليس مجاهدًا، بل مجرم يستغّل الدين لخداع الناس.
- من يقتل باسم الله ليس شهيدًا، بل قاتل يجب أن يُحاسب شرعًا وقانونًا.
- من يقتل باسم الله لا يمثّل الإيمان، بل يشوّهه ويتخّذ منه ستارًا لجرائمه.
جدول مقارنة بين القاتل بإسم الدين دون وجه حق والشهيد الحقيقي
8. الخاتمة
الشهادة الحقيقية ليست مجرّد موت، بل طريقة حياة وسلوك يؤكّد الإيمان بالمحبة والسلام. أما القتل بإسم الدين أو الإنتقام، فليس شهادة بل تشويه للحقيقة، وهو أقرب إلى الجريمة منه إلى القداسة. الشهيد نور يضيء للآخرين، وليس ظلامًا ينشر الرعب والموت.
في المسيحية، على عكس بعض الديانات التي تبرّر العنف، الله لا يحتاج إلى من يقتل باسمه، بل إلى من ينشر المحبة باسمه. بينما تحوّلت بعض الأديان، اذا جاز التعبير، إلى ساحاتٍ للدماء، يبقى المسيح نور العالم، الذي انتصر على الشر لا بالسيف، بل بالمحبة والغفران.
- المسيح، له المجد، جاء ليمنح الحياة، لا ليأخذها، إذ قال: “السَّارِقُ لا يأتي إِلاَّ لِيَسرِقَ ويَذبَحَ ويُهلِك. أَمَّا أَنا فقَد أَتَيتُ لِتَكونَ الحَياةُ لِلنَّاس وتَفيضَ فيهِم” (يوحنا 10:10).
- المسيح لم يقتل أحدًا ولم يأمر بقتل أحد، بل ضَحَّى بنفسه من أجل خلاص البشرية.
- المحبة، لا العنف، هي القوة الأعظم! قال بولس الرسول: “لا تَدَعِ الشَّرَّ يَغلِبُكَ، بلِ اغلِبِ الشَّرَّ بِالخير” (رومية 21:12).
باختصار، يكمن الفرق بين المسيحية والديانات التي تشرّع القتل باسم الله في الآتي:
للأسف، لا يزال العالم يشهد أمثلة واقعية على هذه المفاهيم المغلوطة التي تُستخدم لتبرير العنف باسم الدين، ومن أبرزها:
- التنظيمات الإرهابية المتطرفة (مثل داعش والقاعدة): هذه الجماعات تدّعي أنها تحارب “في سبيل الله“، لكنها في الواقع تمارس الإرهاب والقتل العشوائي بحق الأبرياء، معتبرة سفك الدماء وسيلة للتقرّب إلى الله.
- الحركات المتطرفة في بعض الدول: بعض الميليشيات المسلحة التي تتخذ من الدين غطاءً لتصفية خصومها، سواء داخل مجتمعاتها أو في حروبها ضد الآخرين، مدعية أن قتل المخالفين واجب ديني.
- اغتيالات وتصفية شخصيات فكرية ودينية: شهدنا اغتيالات لمفكرين ومثقفين لمجرّد أنهم عبّروا عن رأي مخالف، مثل قتل المفكر فرج فودة في مصر في 8 حزيران 1992، ومحاولة اغتيال نجيب محفوظ مصر في 14 تشرين الأول 1994، حيث برّر المتطرفون هذه الأفعال على أنها “دفاع عن الدين“.
- الهجمات الإرهابية ضد المدنيين: عمليات الطعن والدهس والتفجيرات التي تستهدف الأبرياء في الأسواق والمرافق العامة، والتي ينفّذها متطرفون باسم “الشهادة“، كما حصل في عدة عواصم حول العالم.
- القوانين المتشددة التي تبرّر العنف باسم الدين: في بعض المجتمعات، يتّم اضطهاد الأقليات الدينية أو تصفية المعارضين السياسيين تحت غطاء “الردة” أو “إهانة المقدسات“، ممّا يجعل القتل مقبولًا بحجة “حماية الدين”.
كل هذه الأمثلة تؤكّد كيف أن بعض الأديان أو الأيديولوجيات عندما تُحرّف، تتحوّل إلى أدوات قتل بدل أن تكون وسائل سلام ومحبة، كما هو الحال في المسيحية التي ترفض القتل تحت أي ذريعة.