استخدام القمع السياسي
د. الياس ميشال الشويري
يشكّل الفساد أحد أكبر التحديات التي تواجه الدول النامية، وعلى رأسها الدول العربية بشكل عام، ولبنان بشكل خاص، التي تعاني من أنظمة سياسية واجتماعية ترسّخت فيها ثقافة الفساد حتى أصبحت جزءًا من الحياة اليومية. وقد عبّر المفكّر علي إبراهيم الموسوي عن ضرورة التغيير الجذري بقوله: “إن لم يكفر قومنا بكل آلهةِ الفساد ويحطموها فلن يكونَ هناك أي إصلاحٍ لما فَسُد.”
هذه المقولة تلخّص جوهر المشكلة: الفساد لم يعد مجرّد ممارسات خاطئة، بل تحوّل إلى عقيدة سياسية واجتماعية تستوجب نفضها بالكامل إذا أردنا التقدم نحو مستقبل أفضل. لكن السؤال الأهم: كيف يمكن تحطيم هذه الآلهة، وما العقبات التي تقف في طريق الإصلاح الحقيقي؟
- ماهية الفساد وآلهته في المجتمعات العربية
أ-تعريف الفساد وأشكاله. الفساد هو استغلال السلطة أو النفوذ لتحقيق مكاسب شخصية أو فئوية على حساب المصلحة العامة. وهو ظاهرة معقدة تتجلى في العديد من المجالات، بدءًا من السياسة والإدارة، ووصولًا إلى الاقتصاد والمجتمع. في المجال السياسي، يأخذ الفساد شكل احتكار السلطة واستغلالها من قبل مجموعة معينة، سواء عبر تزوير الانتخابات أو إصدار قوانين مفصّلة لخدمة فئات محددة على حساب الصالح العام. أما في الإدارة، فيتمثّل الفساد في انتشار الرشوة والمحسوبية، حيث تتحوّل الوظائف العامة إلى امتيازات تمنح للمقربين بدلاً من المؤهلين. اقتصاديًا، يظهر الفساد في استغلال المال العام لمصلحة نخبة ضيقة من الفاسدين، ممّا يؤدّي إلى تفشّي الاحتكار والتهرب الضريبي وهروب الأموال إلى الخارج. حتى على المستوى الاجتماعي والثقافي، نجد أن الفساد يعزّز ثقافة الخضوع، حيث يُنظر إلى الفاسدين وكأنهم أصحاب نفوذ لا يمكن المساس بهم، ويصبح الفساد نفسه أسلوب حياة مقبولًا لدى الكثيرين.

ب-آلهة الفساد في المجتمعات العربية. في العالم العربي عامةً، وفي لبنان خاصةً، الفساد ليس مجرّد ممارسات فردية، بل هو منظومة متكاملة تديرها “آلهة” يتّم تقديسها أو الخضوع لها خوفًا أو مصلحة. من أبرز هذه الآلهة القائد الملهم، الذي يُصوَّر على أنه المخلص الوحيد للأمة، رغم فشله في تحقيق أي إصلاح حقيقي. وهناك أيضًا الطائفية والمذهبية، التي تُستخدم كأداة لتقسيم المجتمع وتشتيت انتباهه عن القضايا الحقيقية، ممّا يجعل الولاء للطائفة أو المذهب أهم من الولاء للوطن والمصلحة العامة. كما تلعب الشبكات العائلية والقبلية دورًا رئيسيًا في تكريس الفساد، حيث يتّم تداول السلطة والثروة بين أفراد العائلة الحاكمة أو الطبقة المسيطرة، ممّا يمنع تداول السلطة على أسس ديمقراطية أو كفاءة. الإعلام المأجور هو أيضًا من بين آلهة الفساد، حيث يتّم التلاعب بالرأي العام لخدمة الفاسدين، عبر تضليل الناس أو إلهائهم عن قضاياهم الحقيقية. وأخيرًا، هناك القضاء المسيس، الذي بدلاً من أن يكون أداة لتحقيق العدالة، يتحول إلى وسيلة لحماية الفاسدين ومعاقبة من يجرؤون على مواجهتهم.
- لماذا يصعب تحطيم آلهة الفساد؟
أ-غياب الوعي الشعبي. يعد الوعي الشعبي حجر الأساس في أي عملية إصلاح، إلا أن أنظمة الفساد تعمل على إضعاف هذا الوعي منذ الصغر، من خلال نظام تعليمي موجه وإعلام يخدم المصالح الفاسدة. في ظل هذه الظروف، يكبر الأفراد وهم مقتنعون بأن الفساد أمر لا يمكن تغييره، أو أنه مجرد جزء طبيعي من الحياة. كما أن ثقافة الخضوع والخوف تجعل الكثيرين غير مستعدين للمطالبة بحقوقهم أو محاسبة المسؤولين عن الفساد، ممّا يؤدّي إلى استمرار الوضع على ما هو عليه دون أي تغيير.
ب-القمع السياسي.تستخدم الأنظمة الفاسدة وسائل قمعية متعددة لضمان استمرارها، حيث تواجه أي محاولة لكشف الفساد أو محاربته بالعنف والتضييق. يتم تقييد حرية الصحافة، ومنع التحقيقات الصحفية الجادة، واعتقال الناشطين الذين يفضحون الفساد. وحتى في الحالات التي يتم فيها كشف قضايا فساد كبرى، غالبًا ما يتم التغطية عليها أو تحويلها إلى قضية شكلية دون أي محاسبة حقيقية.
ج-المصالح الإقليمية والدولية. تلعب المصالح الخارجية دورًا كبيرًا في حماية الفساد، حيث تجد بعض القوى الكبرى أن التعامل مع الأنظمة الفاسدة يخدم مصالحها السياسية والاقتصادية. لذلك، يتم تقديم الدعم المالي والسياسي لهذه الأنظمة، حتى لو كان ذلك على حساب مصالح الشعوب. في كثير من الحالات، يتم التلاعب بالمساعدات الدولية بحيث لا تصل إلى المستفيدين الحقيقيين، بل تستخدم لتعزيز نفوذ الفاسدين.
3-كيف يتم تحطيم آلهة الفساد؟
أ-بناء وعي جمعي ضد الفساد. الخطوة الأولى في محاربة الفساد هي خلق وعي جمعي حول مخاطره وآثاره السلبية على المجتمع. يجب أن يبدأ هذا التغيير من المدارس والجامعات، حيث يتم تعليم الأجيال الجديدة أهمية النزاهة والمساءلة. كذلك، يجب دعم الإعلام الحر ليكون قادرًا على كشف الفساد دون خوف من القمع أو الانتقام. إضافة إلى ذلك، لا بد من تشجيع المواطنين على المطالبة بحقوقهم، عبر توفير منصات آمنة تتيح لهم الإبلاغ عن الفساد دون التعرض للخطر.
ب-إصلاح المنظومة القضائية.لا يمكن محاربة الفساد دون وجود قضاء نزيه ومستقل قادر على محاسبة الفاسدين. لهذا، يجب العمل على تعزيز استقلال القضاء، ومنع أي تدخل سياسي في عمله. كما ينبغي إنشاء محاكم خاصة للنظر في قضايا الفساد الكبرى، وتطبيق عقوبات صارمة بحق المسؤولين الفاسدين، بغض النظر عن مناصبهم أو انتماءاتهم.
ج-تطبيق الشفافية في إدارة الدولة
يجب أن تصبح الشفافية مبدأً أساسيًا في إدارة الدولة، بحيث يتم نشر كل تفاصيل الموازنات الحكومية والمناقصات والمشاريع العامة بشكل علني، ليتمكن المواطنون من مراقبة كيفية إنفاق الأموال العامة. كما يجب تبني تقنيات حديثة تمنع الفساد في المعاملات الإدارية، مثل الأنظمة الإلكترونية التي تحد من التدخل البشري في العمليات المالية والإدارية.
د-تشجيع المبادرات الشعبية. إلى جانب الجهود الحكومية، يجب أن تلعب منظمات المجتمع المدني دورًا فعالًا في محاربة الفساد، من خلال تنظيم حملات توعية، والضغط على الحكومات لتطبيق الإصلاحات. كما يجب دعم الصحافة الاستقصائية، وتوفير وسائل لحماية المبلغين عن الفساد، لضمان عدم تعرضهم للانتقام.
- نماذج من دول نجحت في القضاء على الفساد
أ-تجربة سنغافورة. استطاعت سنغافورة، بفضل سياسة “عدم التسامح مطلقًا” مع الفساد، أن تصبح واحدة من أكثر الدول نزاهة في العالم. تم إنشاء هيئة مستقلة لمكافحة الفساد بسلطات واسعة، كما تم فرض عقوبات صارمة على أي مسؤول يثبت تورطه في قضايا فساد.
ب-تجربة الدول الإسكندنافية. في الدول الإسكندنافية، يعتبر الفساد أمرًا شبه معدوم بفضل القوانين الصارمة والشفافية المطلقة. تتم مراقبة كل تفاصيل الإنفاق الحكومي، كما يتم تطبيق مبدأ المساواة أمام القانون دون أي استثناءات.
ج-تجربة رواندا. بعد الإبادة الجماعية، قررت رواندا أن تجعل مكافحة الفساد أحد أهم أولوياتها، وتم تطبيق قوانين صارمة لضمان النزاهة والشفافية، مما أدى إلى تحقيق نهضة اقتصادية كبيرة.
- الخاتمة
تحطيم آلهة الفساد ليس بالمهمة السهلة، لكنه السبيل الوحيد لتحقيق الإصلاح الحقيقي. لا يمكن للفساد أن يستمر إذا قررت الشعوب مواجهته بوعي وإصرار. والسؤال الذي يبقى مطروحًا: هل نحن مستعدون لكسر هذه الآلهة، أم أننا لا نزال نعبدها دون وعي؟