موطن الشيطان في العقول
د. الياس ميشال الشويري
في اقتباسها الجريء: “يرجمون الشيطان منذ 14 قرن فماتوا هم ولم يمت الشيطان، وتناسوا أن موطن الشيطان الحقيقي هو في عقولهم البالية“، تسلّط نوال السعداوي الضوء على واحدة من أكثر القضايا حساسية في العديد من المجتمعات، وهي الخلط بين الطقوس الرمزية وبين الوعي الحقيقي بمصدر الشر، أي العقل المشبع بالجهل، والخرافة، والانقياد الأعمى. تهاجم السعداوي في هذا القول التواطؤ الجمعي مع ممارسات رمزية فارغة تُقدَّم كوسائل لمحاربة الشر، في حين يُغفل العمل الحقيقي على إصلاح الفكر ومناهج التفكير. في هذا المقال، نغوص في هذه الفكرة عبر أربعة محاور رئيسية، تربط الفكر الديني بالتراكمات الثقافية، وتكشف خطر العقل المُغلق، وتفضح تواطؤ السلطة مع الجهل، مع إسقاط خاص على الحالة اللبنانية.
- طقوس رجم الشيطان بين الرمز والتقديس
رجم الشيطان طقس ديني رمزي يُمارس منذ قرون ضمن شعائر الحج، ويرمز إلى انتصار الإنسان على غواية الشيطان. في الأصل، يُفترض أن يكون هذا الطقس أداة تذكيرية لصراع الإنسان الداخلي ضد شهواته وأهوائه. لكن مع الزمن، تحوّل من رمز تأملي إلى ممارسة جامدة، تُنفّذ بلا إدراك لمعناها الباطني. وبات الناس يتعاملون مع الحجارة كوسيلة انتقامية من كائن خارجي، مع إهمال جوهر الإصلاح النفسي والعقلي.
ما أشارت إليه نوال السعداوي هو أن التركيز على رجم الشيطان الخارجي يُخفي غفلة عن حقيقة وجود الشر داخل النفس البشرية. فالشيطان ليس كيانًا ماديًا يُرجم، بل هو غواية داخلية تتمثل في الجشع، الحسد، الكذب، والعنف. لذلك فإن اختزال محاربته في طقس موسمي دون مراجعة للسلوك والأفكار، يؤدي إلى انفصام في الوعي الجمعي ويُكرّس الهروب من المواجهة الذاتية.
رجم الشيطان – كرمز – يجب أن يتحول إلى برنامج أخلاقي دائم، يوجه سلوك الإنسان ضد كل ما يفسد روحه ومجتمعه. لكن، في مجتمعات يغيب فيها التعليم النقدي، يصبح الرمز بديلاً عن الفعل، والتقليد بديلاً عن الفكر، فتُقدّس الطقوس وتُترك القيم. وهذا ما يجعل ممارسة الرجم السنوية غير فعالة في تطهير النفس ما لم تُصاحبها ثورة فكرية داخلية.
- العقل البالي كموطن للشيطان
في العبارة “موطن الشيطان هو في عقولهم البالية“، تضع السعداوي إصبعها على الجرح العميق: تدهور العقل وتحجره. فالعقل الذي يتغذى على التكرار دون تجديد، وعلى النقل دون عقل، يصبح بيئة خصبة للشر. هذه العقول البالية هي التي تحتضن الاستبداد، تبرر الظلم، تُعادي المرأة، وتُحرّم النقد. إنها عقول تصنع آلهتها وتشيطن مخالفيها.
الشيطان، في هذا السياق، ليس مخلوقًا غيبيًا فقط، بل هو استعارة لكل فكرة مريضة تسكن الإنسان: من الطائفية إلى العنصرية، ومن التكفير إلى العنف. وحين يغيب التنوير، يتحول الإنسان إلى آلة تردد نصوصًا دون فهم، وتُمارس العنف باسم الدين، وتُجرّم التفكير باسم العقيدة. وبالتالي، يصبح العقل الساكن أرضًا خصبة لنمو الشياطين.
الحل لا يكمن في رجم خارجي، بل في ثورة داخلية على الأفكار السامة. العقل النقدي، القائم على الشك البنّاء، هو العدو الحقيقي للشيطان الرمزي. فحين يتم تحرير الإنسان من الخوف، من السلطة الدينية، ومن الخرافة، تبدأ عملية تحرير العقل من “الشيطان الداخلي“. أما بغير ذلك، فسنظل نرجم الحجارة، ونترك الشيطان في عقولنا يبني عرشه بهدوء.

- تحالف السلطة والجهل وتكريس الطقوس الفارغة
السلطة، الدينية والسياسية، لعبت عبر التاريخ دورًا حاسمًا في حماية الطقوس الفارغة، لأنها تسهم في ضبط الجماهير وتحويل انتباههم عن القضايا الجوهرية. فمن السهل التحكم بشعب يُشغل في طقوس رمزية بدل أن يُسأل عن العدالة، والمساواة، والحرية. رجم الشيطان يصبح أداة تفريغ، لا أداة تفكير.
عبر تواطؤها مع خطاب تقليدي غير إصلاحي، تجد الأنظمة في هذه الطقوس وسيلة لضبط “القطيع“، كما وصفتهم السعداوي في كثير من كتاباتها. فالعقل الذي ينشغل في رجم الغيبيات، لا يطالب بكهرباء، ولا بمدارس حديثة، ولا بمناهج تعليمية تنويرية. من هنا تتغذى السلطة على إبقاء “الشيطان” خارج الإنسان، بدلًا من مواجهته داخله.
في هذا السياق، يصبح من المستحيل تحرير المجتمع دون كشف زيف هذا التحالف. الإصلاح يبدأ من نقد المؤسسات الدينية التي تكرّس الخرافة، والتعليم الذي يرسّخ الطقوس دون تحليل، والإعلام الذي يطبع الجهل ويضخم الشعائر. كل هذا يفضح البنية التي تجعل من “الشيطان” وسيلة لحرف الوعي، بدلًا من أن يكون دعوة للتحرر الذاتي.
- ربط الفكرة بالحالة اللبنانية
في لبنان، تتجلى الفكرة بوضوح: مجتمع متخم بالشعائر الطائفية والرمزية، يجلد ذاته بيد القداسة، ويرجم “شياطين” الآخر، دون أن يرى الشيطان الحقيقي في زعمائه وساسته الطائفيين. كل طائفة تحمّل الأخرى مسؤولية الانهيار، وتتبرأ من الفساد، وكأن الشيطان يسكن غيرها فقط. هذا الانفصام يجعل من لبنان مسرحًا دائمًا للشر الداخلي المغلف بخطاب طاهر.
اللبنانيون يمارسون طقوسهم، يحتفلون بأعيادهم، يرفعون شعاراتهم الدينية، لكنهم لا يحاسبون من يسرقهم، ولا يتمردون على العقلية الطائفية. العقل البالي الذي تتحدث عنه السعداوي يعيش في المدرسة، في المنبر، في الإعلام، وفي الشارع. لذلك، فالمجتمع ينهار، رغم كل ما يقال عن القداسة والتقوى.
لبنان، إذا أراد النجاة من “شياطينه“، يجب أن يبدأ ثورة فكرية تحرّر الإنسان من التقديس الأعمى، ومن الاستسلام للتقاليد التي تُستخدم لتبرير الانقسام والفساد. يجب أن يعود الدين إلى جوهره الإنساني، ويُفصل عن الخطاب السياسي والمصلحي. فالتغيير لا يبدأ من رجم “الآخر”، بل من تحرير الذات، وتفكيك العقل البالي الذي يبرر الخراب باسم الإيمان.

- الخاتمة
الشيطان ليس خارج الإنسان بل في داخله، في عقله حين يتحجر، وفي قلبه حين يمتلئ بالجهل والكراهية. ما دامت العقول مغلقة، فإن رجم الحجارة لن يغير شيئًا. نقد نوال السعداوي ليس عداءً للدين بل دعوة لتحريره من التقديس الطقوسي، وردّه إلى جوهره الأخلاقي. وفي عالمنا العربي واللبناني تحديدًا، يبقى هذا النقد ضرورة، لا ترفًا، إذا أردنا مستقبلًا مختلفًا عن تاريخنا المثقل بالشياطين، من سياسيين ومصرفيين وغيرهم، التي صنعناها بأنفسنا.