د. حبيب بو صقر
د. الياس ميشال الشويري
في حياة الأوطان، لا تُقاس القيمة الحقيقية بوفرة المؤسسات ولا بكثرة الشعارات، بل برجال ونساء جسّدوا القيم في أفعالهم اليومية، فصاروا شهودًا على إمكانية الرجاء في أزمنة اليأس. لبنان، الذي عصفت به الأزمات وتراكمت فيه مظاهر الفساد والانهيار، لم يخلُ من شخصيات أثبتت أن العلم رسالة وأن التربية التزام وطني، ومن هؤلاء يسطع اسم الدكتور حبيب بو صقر، مدير عام وزارة المال سابقاً. لم يكن وجوده في جامعة الحكمة، كنائب رئيس الجامعة والعميد المؤسس لكلية العلوم الإدارية والمالية، مجرد وظيفة إدارية أو لقب أكاديمي، بل كان علامة حيّة على أن الجامعة يمكن أن تبقى حصنًا للقيم، ومنارة للعلم النزيه. هذا المقال يأتي كتعبير عن تحيّة وفاء لرجل آمن بأن المعرفة أسمى من التجارة، وأن الأمانة الفكرية هي الركيزة الأولى لأي مشروع وطني. فكما استبقى الرب لإيليا النبي “سبعة آلاف” لم يسجدوا للأوثان، فإن في لبنان اليوم رجالاً ونساء على هذه الشاكلة، وكان الدكتور بو صقر واحدًا منهم، أمينًا على رسالة التربية والتعليم، وشاهدًا على أن لبنان، رغم كل المحن، ما زال وطنًا ممكنًا.
- رسالة العلم في وجه الفساد والضعف
حين نستعيد قصة إيليّا النبي الذي أرهقته مقاومة كهنة البعل وظنّ أن رسالته انتهت، يأتيه صوت الله ليذكّره أنّ هناك من بقي أمينًا ولم يحنِ ركبته، فإننا نرى في سيرة الدكتور حبيب بو صقر صورة حاضرة لذلك الرجاء. لقد كان حضوره الأكاديمي شهادة حيّة على أن الجامعة لا يمكن أن تتحول إلى متجر للعلم، بل يجب أن تبقى فضاءً للمعرفة النزيهة. لم يقبل الرجل أن يساوم على مبدأ، ولم ينجرّ وراء منطق التجارة بالشهادات أو التلاعب بمستقبل الأجيال، بل بقي أمينًا على رسالته التربوية. إن تحيّتنا ووفاءنا له اليوم هو اعتراف بصلابته في مواجهة منظومة تفتك بالتعليم كما تفتك بالسياسة والاقتصاد. وكما أن وجود “السبعة آلاف” الذين لم يسجدوا للأوثان كان عربون رجاء لإيليا، كذلك وجوده في الجامعة كان عربون أمل لطلابه ومجتمعه بأن لبنان لا يزال ينجب نظفاء لم يخضعوا لفساد الزمن.
تحيّة الوفاء التي نرفعها إلى الدكتور بو صقر هي تحية لرجل عاش التعليم كرسالة لا كوظيفة، فرأى في طلابه أمانة لا زبائن، وفي الجامعة بيتًا وطنيًا لا شركة تجارية. في زمنٍ تراجع فيه مستوى التعليم، ومالت بعض الجامعات نحو أسواق العرض والطلب، بقي ثابتًا في قناعته أن الجامعة هي الحاضنة الطبيعية لبناء الإنسان. لقد جسّد القناعة بأن المعرفة بلا أخلاق تصبح وبالًا، وأن التربية الحقيقية هي الجمع بين العلم والقيم. لهذا، لم يكن درسه محصورًا في المقررات الجامعية، بل في أسلوب حياة علّمه لطلابه عبر القدوة. إن وفاءنا له هو وفاء لتلك الرؤية التي أكدت أن النجاح لا يقاس بالمظاهر ولا بالألقاب، بل بصدق العمل وعمق الرسالة، وهو ما سيبقى محفورًا في ذاكرة طلابه وكل من عرفه.
الدكتور حبيب بو صقر حمل رسالته في ظروف صعبة، وسط أزمات أكاديمية ومالية ووطنية، لكنه ظلّ واقفًا كالشجرة الراسخة التي تضرب جذورها عميقًا في الأرض. لم تغره المناصب ولا الألقاب، بل ظلّ وفيًّا لرسالته، متواضعًا في حضوره، كبيرًا في عطائه. تحيّة الوفاء له هي أيضًا تحيّة لكل الذين يعملون بصمت بعيدًا عن الأضواء، ويثبتون أن لبنان لم يفرغ بعد من رجالاته الحقيقيين. إن وفاءنا له هو وفاء لذكرى لبنان النظيف الذي نحلم باستعادته، لبنان الذي يقوده العلم والنزاهة لا المحاصصة والفساد. وبذلك يصبح اسمه شاهدًا على أن المستقبل لا يُبنى باليأس، بل بالرجاء الصبور وبالأمانة المستمرة في خدمة الأجيال.
- الدكتور حبيب بو صقر والتجربة الجامعية
لا يمكن فصل شخصية الدكتور بو صقر عن واقع الجامعات اللبنانية التي أصبحت في مرآة المجتمع انعكاسًا لأزماته. ففي الوقت الذي انحدرت فيه بعض المؤسسات نحو منطق التجارة، بقي هو مؤمنًا أن التعليم العالي هو ركيزة هوية لبنان الفكرية والثقافية. عبر موقعه كعميد في جامعة الحكمة، أعاد التأكيد أن الشهادة لا قيمة لها ما لم تكن ثمرة جهد وصدق. إن تحيّتنا ووفاءنا له هو اعتراف بأنه لم يسمح للجامعة أن تفقد دورها الرسالي، بل حافظ عليها كمنارة للعلم في زمن الانهيار. وهنا، يصبح اسمه مرادفًا لفكرة أن التعليم هو خط الدفاع الأخير عن لبنان، وأن الجامعة ليست مشروعًا ربحياً بل وطنًا مصغّرًا يكوّن مواطنين صالحين.
ما ميّز الدكتور بو صقر أنه لم يكتفِ بتعليم النظريات، بل ربط دائمًا بين ما يقدمه في القاعة وما يعيشه لبنان من أزمات اقتصادية ومالية. لقد كان يعلّم بعمق النقد وبواقعية التجربة، مؤكّدًا لطلابه أن النزاهة ليست ترفًا بل شرطًا أساسيًا لبقاء أي اقتصاد حي. في زمنٍ باتت فيه الزبائنية والفساد مسارًا سائدًا، قدّم نموذجًا بديلًا يقوم على الشفافية والتخطيط السليم. تحيّة الوفاء له هي اعتراف بأن التعليم في لبنان لا يزال قادرًا على إنتاج قادة رأي وأصحاب ضمير، لا مجرد موظفين يسايرون الواقع الفاسد. إنه بذلك قدّم درسًا أكبر من أي كتاب: أن الجامعة لا تبني المعرفة فقط، بل تُعيد بناء الأخلاق العامة.
تحيّة الوفاء له هنا هي وفاء لثباته الذي أعاد إلينا الثقة بأن لبنان، رغم أزماته، يملك رجالاً يحافظون على مؤسساته. لم يرَ في العمادة لقبًا، كما هو حال الكثيرين للأسف، بل مسؤولية، ولم ينظر إلى طلابه كأرقام بل كبذور أمل. هذا الثبات جعل اسمه شاهدًا على أن لبنان لا يزال قادرًا على أن يقدّم للعالم أمثلة مضيئة في زمن الظلمة.

- من القيم الشخصية إلى الأفق الوطني
لم تكن مسيرة الدكتور حبيب بو صقر محصورة بالجامعة، بل كانت انعكاسًا لرؤية أوسع للبنان الذي حلم به: لبنان العلم والكرامة والوفاء. لقد آمن أن البلد، رغم انهياراته، لا يموت ما دام فيه أشخاص مخلصون. كان يرى في طلابه علامات رجاء جديد، كما رأى إيليا في “السبعة آلاف” دليلاً على أن الرسالة لم تنتهِ. تحيّة الوفاء له هي تحيّة لرجل جسّد الإيمان بالوطن عمليًا، وعلّمنا أن الوطنية ليست خطبًا رنّانة بل التزامًا يوميًا بالمسؤولية والأمانة. وهو بهذا أعطى مثالاً على أن بناء لبنان لا يبدأ من السياسة بل من قاعة الصف، ومن أمانة كل أستاذ أمام طلابه.
حين نرفع تحيّة الوفاء إلى الدكتور بو صقر، فإننا نرفعها إلى كل المربّين والمهنيين والأطباء والمهندسين الذين يخدمون لبنان بصمت، بعيدًا عن الأضواء. هو واحد من أولئك “النظفاء” الذين أبقوا شعلة الأمل متّقدة. وفي تكريمنا المعنوي له، نحن في الحقيقة نعيد الاعتبار لفكرة أن المجتمع اللبناني لا يُختصر بزعمائه السياسيين، بل يُختصر بنماذجه الأخلاقية الصامتة. تحيّة الوفاء له هي دعوة إلى الالتفات نحو رموز الفكر والتعليم، بدل الانشغال برموز الفساد والصفقات. هو شاهد على أن لبنان قاوم بالعلم كما قاوم بالسلاح، وحافظ على هويته الثقافية والفكرية عبر رجالٍ من طينته.
في النهاية، يبقى الدكتور حبيب بو صقر نموذجًا للبنان الذي نرجوه: لبنان الأمانة لا الفساد، لبنان العلم لا الجهل، لبنان الخدمة لا الاستغلال. إن تحيّة الوفاء له هي إعلان أن المستقبل ليس ميتًا، وأن لبنان لا يزال قادرًا على النهوض بفضل أمثاله. فكما أنّ الكتاب المقدس يذكّرنا بأن الله استبقى لإيليا رجالاً أوفياء، فإن لبنان اليوم يستبقي رجالاً ونساءً من هذا النمط، يشهدون أن الخير لا يزال أقوى من الشر. إن وفاءنا له هو وفاء للمعنى الذي جسّده، وللأمل الذي زرعه، وللوطن الذي أحبّه. وفي سيرته نرى أن الرجاء ليس وهمًا، بل ممارسة يومية، وأن لبنان، برغم المحن، سيبقى حيًّا ما دام فيه شهود للحق والوفاء.

- الخاتمة
إن ما نكتبه عن الدكتور حبيب بو صقر ليس سردًا لمسيرة شخصية بقدر ما هو تحيّة وفاء لرجل حمل الرسالة بثبات، وأعطى لطلابه ولمجتمعه مثالاً عن أن الوطنية تُمارس بالصدق والعمل بقدر ما تُمارس بالشعارات الكبرى. في زمنٍ كثرت فيه الانهيارات، قدّم صورة مغايرة عن لبنان: لبنان الأمانة في التعليم، والنزاهة في الإدارة، والالتزام بالقيم الإنسانية قبل أي اعتبار آخر. إن وفاءنا له هو وفاء لكل ما يمثله من معانٍ، وإعلان أن الأمل في لبنان لا يزال قائمًا ما دام فيه رجال ونساء يرفضون الانحناء لصنَم الفساد، ويصرّون على خدمة الحقيقة والإنسان. وحين نستعيد مسيرته، ندرك أن المستقبل لا يُصنع باليأس، بل بإرادة الثبات، وأن لبنان الذي نحلم به يسكن في أمثال الدكتور بو صقر الذين برهنوا أن الرجاء ليس شعارًا، بل ممارسة يومية في حياة من آمنوا بالعلم والحق والوطن.