لا حياة لمن تنادي
د. الياس ميشال الشويري
يعيش الأستاذ الجامعي في لبنان اليوم حالة من الصراع الأخلاقي والمهني العميق، إذ يجد نفسه بين مطرقة الضمير الأكاديمي وسندان الضغوط الإدارية والمالية والسياسية. في ظل الانهيار المتعدد الأوجه الذي يشهده لبنان، لم يسلم قطاع التعليم الجامعي من تفشي الفساد والتجاذبات الزبائنية التي حوّلت الجامعات إلى مؤسسات تجارية لا تولي جودة التعليم اهتمامًا بقدر ما تهتم بتحقيق الأرباح. أمام هذا الواقع المشوه، يجد الأستاذ نفسه في مأزق وجودي: هل ينحني لضغوط الإدارة وينجح طلابًا غير مستحقين حفاظًا على موقعه الوظيفي واستقرار حياته، أم يلتزم بمبادئه العلمية ويواجه عقوبات قد تصل إلى حد الاستبعاد والتشويه المهني؟ هذه المعادلة الظالمة تعكس أزمة أعمق في لبنان، حيث تُختزل القيم التربوية في أرقام وعلامات، وتصبح الجامعات ساحات صراع بين النفوذ والمصالح على حساب المعرفة والضمير.
1. الأستاذ الجامعي بين خيارين أخلاقيين – المعضلة الكبرى
في قلب الجامعات، يقف الأستاذ الجامعي كحارس للقيم والمعرفة، لكنه كثيرًا ما يجد نفسه في مواجهة ضغوط متناقضة بين رسالته الأخلاقية كمعلم وبين متطلبات النظام الفاسد. في لبنان، تُحمّل الجامعات – خاصةً الخاصة منها – الأستاذ عبء إنجاح الطلاب بأي وسيلة لضمان استمرارية أرباحها، وإلا يواجه التهديد بعدم تجديد عقده أو تحميله مسؤولية “الفشل الأكاديمي“. هنا، تتلاشى الحدود بين معايير الكفاءة الأكاديمية ومنطق السوق، ويصبح الأستاذ مقيّدًا بين ضميره المهني وبين توقعات الإدارة التي ترى الطالب “زبونًا” لا متعلّمًا. هذه الأزمة الأخلاقية تنعكس بوضوح في اختلال المخرجات التعليمية وضعف الكوادر الأكاديمية، حيث يتخرّج طلاب بشهادات لا تعكس مستواهم الحقيقي، ما يخلق فجوة هائلة بين الشهادة والكفاءة.
في السياق اللبناني، غالبًا ما تكون إدارات الجامعات الخاصة جزءًا من شبكة المحسوبيات والزبائنية السياسية، ما يجعل الأستاذ الجامعي في موقف هش. عندما يقرر الأستاذ رسوب طالب فعليًا لا يستحق النجاح، تبدأ سلسلة الضغوطات: شكاوى من الأهل ذوي النفوذ، تدخلات من جهات سياسية، وتهديدات مبطنة بأن “التقييمات السلبية” قد تعني إنهاء عقده. في بعض الحالات، تتعدى العقوبات البعد المهني لتصل إلى التشهير العلني أو التلويح بقضايا تعسفية أمام القضاء، مما يدفع الأستاذ إلى التساؤل: هل يستحق الأمر هذا الثمن؟ في لبنان، حيث لا توجد حماية قانونية حقيقية للأستاذ الجامعي المستقل، يتحوّل الخيار الأخلاقي إلى مخاطرة قد تهدد لقمة عيشه ومستقبله.
حين يختار الأستاذ الجامعي الخضوع للضغوط، سواء بإنجاح الطلاب غير المستحقين أو بتعديل العلامات لتفادي المشاكل، يدخل في دوامة من الإحباط والشعور بالذنب. يصبح العمل الأكاديمي خاليًا من القيمة التربوية، ويتحول الأستاذ إلى موظف إداري يؤدي مهامًا شكلية بدلًا من دوره الحقيقي كصانع معرفة وناقد اجتماعي. أما في حال قرر المواجهة، فإنه يعيش حالة من العزلة، يتهم بـ”التشدد“، ويجد نفسه في مواجهة مجتمع أكاديمي غير متعاون، حيث قلة قليلة تملك الجرأة لمواجهة الفساد. في لبنان، تزداد هذه الضغوط مع تراجع مكانة الجامعات العامة والخاصة على حد سواء، وانحدار التعليم إلى مستوى “الخدمات“، لا كمشروع وطني لبناء الإنسان.

2. التعليم الجامعي في لبنان – أزمة بين التجارة والمعرفة
في لبنان، تحوّلت العديد من الجامعات إلى مؤسسات تجارية تسعى إلى الربح بدلًا من بناء جيل مثقف ومؤهل. الطالب يُنظر إليه كـ”زبون” يجب الحفاظ عليه، وأي رسوب قد يُعدّ خسارة مالية يجب تجنبها. هذا المنطق التجاري جعل إدارات الجامعات تمارس ضغوطًا هائلة على الأساتذة لإنجاح الطلاب مهما كان مستواهم الأكاديمي، حتى ولو كان نجاحهم يعني تخريج أفراد غير مؤهلين لسوق العمل أو للمجتمع. النتيجة المباشرة لهذا التوجه هي تضخم الشهادات وفقدان قيمتها، إذ يحصل الطلاب على شهادات دون امتلاك المهارات والمعارف المطلوبة، مما يعزز أزمة البطالة المقنعة في لبنان.
في ظل هذه المنظومة، يتكوّن تحالف غير معلن بين الطالب الذي يريد النجاح السهل، وإدارة الجامعة التي تبحث عن الأرباح، بينما يُترك الأستاذ وحده في مواجهة هذا التيار الجارف. يصبح الأستاذ هو العقبة التي يجب تخطيها، فيُتهم بالتعسف إذا أعطى علامة متدنية، ويُدان بـ”التعقيد” إذا التزم معايير التقييم. وفي لبنان، حيث الروابط العائلية والوساطات السياسية حاضرة في كل مؤسسة، يتحول رفض الأستاذ إلى خطر يهدد موقعه ووظيفته، بينما يرى الطلاب في أنفسهم أصحاب حق مطلق في النجاح، بغض النظر عن كفاءتهم.
حين يضعف دور الأستاذ الجامعي كمربي للأخلاق والمعرفة، تنهار الثقة بين الأطراف: الطلاب ينظرون إليه كعدو، والإدارة تعتبره مصدر إزعاج، والمجتمع يرى في الجامعات مجرد مصانع للشهادات. هذه الأزمة تُفاقم فقدان الثقة بالجامعات اللبنانية ككل، ما يؤدي إلى تدنّي قيمتها مقارنة بالجامعات العالمية، ويعزز ظاهرة الهجرة الأكاديمية والبحث عن فرص أفضل خارج البلاد. هكذا، يتحوّل التعليم العالي من مساحة للتطوير الفكري إلى مسرح لتصفية الحسابات والمصالح، تاركًا الأستاذ الجامعي في موقع دفاع مستمر عن قيمه ومبادئه.
3. الحلول الممكنة وتغيير المنظومة
الحل لا يكمن في تحميل الأستاذ وحده مسؤولية أزمة التعليم الجامعي، بل في إعادة هيكلة المنظومة التعليمية بكاملها في لبنان. يجب أن يكون هناك فصل واضح بين إدارة الجامعات والمصالح التجارية والسياسية، مع ضمان استقلالية حقيقية للأستاذ الجامعي من خلال قوانين تحميه من الضغوطات وتوفر له بيئة عمل شفافة وآمنة. كما يجب إعادة تعريف دور الجامعات كمؤسسات لإنتاج المعرفة والبحث العلمي، لا كدكاكين تجارية. هذه الإصلاحات ضرورية ليس فقط لحماية الأستاذ الجامعي، بل لإنقاذ التعليم في لبنان من الانحدار التام.
لا بد من سنّ قوانين واضحة وصارمة تضمن حقوق الأستاذ الجامعي وتجرّم الضغوط الممارسة عليه، سواء من الإدارة أو من الطلاب أو الجهات الخارجية. في لبنان، كثيرًا ما تُترك القوانين حبرًا على ورق، لذا فإن التفعيل الفعلي لها ومحاسبة الإدارات الفاسدة هو أمر جوهري لإعادة الاعتبار لمهنة التعليم. إلى جانب ذلك، يجب إنشاء لجان مستقلة لتقييم الأداء الأكاديمي والبت في النزاعات بين الأساتذة والإدارات والطلاب، بعيدًا عن الاعتبارات السياسية أو المالية. بهذا الشكل، يصبح الأستاذ شريكًا في العملية التعليمية، لا مجرد أداة لتحقيق الأرباح.
الحل الثقافي لا يقل أهمية عن الحل القانوني؛ إذ يجب إعادة بناء ثقافة تحترم دور الأستاذ الجامعي وتقدّر مكانته كحامل للمعرفة والقيم. في لبنان، يعاني التعليم من ثقافة التسيب وغياب الاحترام للأستاذ، وهذا لا يمكن معالجته إلا من خلال جهود مشتركة بين الأسرة والمدرسة والجامعة والإعلام. يجب أن يُعاد تقديم صورة الأستاذ الجامعي كنموذج يحتذى به، مع التركيز على دوره في بناء جيل واعٍ وفاعل، لا مجرد ناقل للمعلومات. عندها فقط يمكن للأستاذ الجامعي أن يؤدي دوره بأمانة وشجاعة، دون خوف من العقاب أو التهديد.

4. الخاتمة
إن معاناة الأستاذ الجامعي في لبنان ليست مجرد معركة فردية في قاعة الدرس، بل هي انعكاس لأزمة أعمق تعصف بمجمل بنية المجتمع اللبناني ومؤسساته التربوية. عندما يُجبر الأستاذ على الاختيار بين المبادئ والوظيفة، وبين الضمير والضغوط، يصبح التعليم في خطر، والمجتمع بأسره مهدد بفقدان كوادره المؤهلة. لا يمكن للأستاذ الجامعي أن يكون وحده حامل شعلة الإصلاح إذا كانت الإدارات متواطئة والطلاب غير واعين لدورهم كمتعلمين، والسلطة السياسية تمعن في حماية الفساد بدل مكافحته. الحل يبدأ من إعادة الاعتبار لدور الجامعة كمؤسسة للمعرفة والقيم، وليس كدكان لبيع الشهادات. وعليه، فإن حماية الأستاذ الجامعي واستقلاليته، إلى جانب إصلاح المنظومة التعليمية وتحريرها من قبضة الفساد، ليست ترفًا أو خيارًا ثانويًا، بل ضرورة وطنية ملحّة لبناء مستقبل أفضل للبنان وأجياله القادمة.