د. الياس ميشال الشويري
على أبواب الانتخابات البلدية والاختيارية، يقف اللبنانيون أمام مفترق حاسم بين الأمل في التغيير وخيبة تكرار القديم. هذا الاستحقاق، الذي يُفترض أن يشكل فرصة لتجديد الحياة العامة من القاعدة، يبدو اليوم محاطًا بهواجس مشروعة تتعلق بقدرة القوى التقليدية على إعادة إنتاج نفسها وتكريس آليات النفوذ ذاتها التي دمّرت الثقة بالسلطة والوطن. ففي ظلّ نظام سياسي مأزوم، تبرز أهمية هذا النوع من الانتخابات باعتبار لبنان ساحة يُمكن فيها المواطن أن يستعيد شيئًا من صوته المهدور، وأن يمارس فعل الاعتراض الإيجابي على ممارسات السلطة الفاسدة والأحزاب العميلة من خلال صناديق الاقتراع. غير أن الواقع الميداني يشي بغير ذلك، إذ بدأت ملامح الاصطفافات القديمة تطغى على المشهد، وسط تحالفات هجينة تكرّس منطق الزبائنية والمحسوبيات، وتُقصي الكفاءات لصالح الولاءات. في هذا السياق، تطرح الانتخابات البلدية والإختيارية نفسها كسؤال مفتوح: هل نحن مقبلون على تجديد حقيقي في الإدارة المحلية، أم أننا بصدد مسرحية معادة لتثبيت الفساد في أبشع صوره؟
- الانتخابات البلدية والاختيارية بين الأمل والخيبة
تأتي الانتخابات البلدية والاختيارية كل ست سنوات كاستحقاق ديمقراطي يُفترض أن يتيح للمواطنين إدارة شؤونهم المحلية بأنفسهم، وتحديد مصيرهم عبر اختيار ممثليهم على المستوى القاعدي. ولكن هذا الأمل كثيرًا ما يصطدم بجدار الواقع اللبناني المعقّد، حيث تتداخل الاعتبارات العائلية والسياسية والطائفية، وتحول دون تحقيق الهدف الفعلي من هذه الانتخابات. فالبلدية، بدل أن تكون أداة تنمية، تتحوّل في أحيان كثيرة إلى أداة في يد الأحزاب وأصحاب النفوذ لتوسيع هيمنتهم وتصفية خصوماتهم.
في هذا السياق، تتحوّل القرية أو البلدة إلى مساحة مشحونة بالتوتّر والانقسام، حيث يعلو صوت التحريض على صوت البرامج، وتُدار الحملات الانتخابية بمنطق “نكون أو لا نكون“. يضع هذا الواقع المواطنين أمام خيارين: إما الانخراط في لعبة المصالح والخوف من التهميش، أو العزوف عن المشاركة، فيتحوّل الاستحقاق إلى مناسبة لإعادة إنتاج طبقة فاشلة فاسدة بدل استبدالها. وهذه الظاهرة لا تقتصر على المدن الكبرى، بل تطال أصغر القرى، ما يدّل على عمق الخلل في بنية التمثيل المحلي.
لذلك، فإن أي حديث عن تغيير حقيقي يبدأ من مراجعة عميقة لأدوات العمل البلدي والاختياري، وإعادة الاعتبار للمواطن بوصفه المحور لا الضحية. الانتخابات ليست غاية بحد ذاتها، بل وسيلة لإحداث تغيير حقيقي، وهو ما يبدو بعيد المنال ما لم تتغيّر الثقافة والطبقة السياسية من جذورها.
- تحالفات قاتلة للتغيير
من أبرز ملامح المشهد الانتخابي في لبنان هو الزحف السريع لمنطق التحالفات غير الطبيعية التي لا تُبنى على رؤية إنمائية أو مشروع مدني، بل على توازنات القوى واعتبارات النفوذ. فترى الخصوم يتحولون فجأة إلى حلفاء، لا لشيء إلا لأنهم يخشون خسارة مواقعهم أو تأثيرهم، ما يجعل من هذه التحالفات أداة لقتل أي محاولة للتغيير الجدّي. إن قتل المنافسة قبل انطلاقها يحرم المجالس المنتخبة من أي دم جديد، ويكرّس سيطرة الوجوه القديمة الفاسدة والمرتهنة على القرار المحلي.
هذا النمط من التحالفات يعيد إنتاج منطق المحاصصة على مستوى البلديات، تمامًا كما هو حاصل في السلطة المركزية. فيغيب النقاش حول البرامج والخطط، ويحلّ مكانه سباق على المقاعد وتوزيع للحصص العائلية والطائفية والحزبية. وهكذا، بدل أن تكون الانتخابات فرصة للمحاسبة، تتحوّل إلى آلية لتثبيت الفشل وتدوير الزوايا، وتُفرغ من معناها التغييري.
إن التغيير لا يأتي من التسويات الشكلية، بل من الاصطدام الإيجابي بين مشاريع متباينة، ومن دفع المواطنين لاختيار الأفضل، لا الأضعف بين السيئين. أما حين يتحول التنافس إلى لعبة مغلقة، فإن الحصيلة تكون مجالس بلدية عاجزة، مشلولة الإرادة، فاقدة للثقة والشرعية.

- دور الفاسدين في تخريب الإدارة المحلية
لقد استفاد كثير من الفاسدين في العقود الماضية من مناصبهم البلدية والاختيارية لتحويلها إلى منصات للربح الشخصي والمصلحة الخاصة. فبدل أن تُوظف موارد البلديات في تحسين البنية التحتية والخدمات، تحولت إلى جيوب فساد صغيرة تتغذّى على غياب الرقابة والمحاسبة. مشاريع وهمية، تلزيمات مشبوهة، وتوظيفات زبائنية، كلها فصول من مسلسل طويل من سوء الإدارة المحلية.
هؤلاء الفاسدون لم يأتوا من فراغ، بل هم نتاج بيئة سياسية واقتصادية فاسدة سمحت لهم بالاستمرار، بل وشجعتهم أحيانًا. فعدم محاسبتهم شجع غيرهم على السير في الطريق نفسه، حتى أصبحت بعض البلديات في لبنان رمزًا للنهب المُقَوْنن باسم الشرعية الانتخابية. فطالما أن “الناس هم من اختاروا“، يسقط أي حق بالاعتراض.
من هنا، فإن مكافحة الفساد في الإدارة المحلية لا تقتصر على التشهير بالأسماء، بل تبدأ من إصلاح آليات الترشّح والانتخاب، وتفعيل الرقابة المالية والإدارية، وخلق وعي مجتمعي يرفض إعادة انتخاب من ثبت فساده مهما تكن المبررات.
- المخاتير والتلاعب بالأراضي غير الممسوحة
من الممارسات الأكثر خطورة التي برزت في السنوات الأخيرة، تلك المرتبطة بدور بعض المخاتير في التلاعب بملف الأراضي غير الممسوحة. ففي ظل غياب مسح عقاري شامل في عدد من المناطق اللبنانية، برزت حالات استغلال فاضحة، حيث تم تسجيل أراضٍ بأسماء غير أصحابها، أو التلاعب بحدود الأملاك، مستفيدين من ضعف الدولة وثقة الناس العمياء بسلطة المختار.
هذا الواقع أدّى إلى نزاعات عقارية طويلة الأمد، وأحيانًا إلى اقتتال عائلي وعشائري، خصوصًا في القرى التي لم تخضع لمسح عقاري رسمي. والمفارقة أن المختار، المفترض أن يكون حامي الحقوق، أصبح جزءًا من اللعبة، إمّا عن جهل بالقانون، أو عن سوء نية لتحقيق مكاسب شخصية.
لذلك، لا بد من إعادة النظر في صلاحيات المختار وآليات محاسبته، خصوصًا في القضايا العقارية التي تمسّ الأمن الاجتماعي والحقوق الفردية. كما أن تسريع عمليات المسح العقاري الرسمي بات ضرورة وطنية لوضع حد لفوضى الأملاك وتسلّط الأفراد على حقوق الناس.
- تساؤلات حول نزاهة المرشحين قبل قبول ترشحهم
من غير المقبول في بلد يعاني من انهيار الثقة بالمؤسسات أن يُفتح باب الترشح للانتخابات البلدية والاختيارية دون أي رقابة فعلية على خلفيات المرشحين. فكم من شخص معروف بفساده أو باستغلاله لمنصبه عاد وترشح مجددًا، فقط لأنه يملك المال أو التأثير العائلي والسياسي! هذا الواقع يطرح تساؤلات جوهرية حول أهلية المرشحين، ويُظهر الحاجة إلى فحص نزاهتهم قبل قبولهم في السباق الانتخابي.
كان الأجدى قبل الولوج في الإنتخابات القادمة لو تمّ إنشاء هيئة مستقلة من أشخاص مشهود لهم بالنزاهة كي تتولّى تقييم ملفات المرشحين، وتدقّق في سجلاتهم القانونية والمالية والأخلاقية. كما كان يجب إلزام كل مرشح تقديم كشف حساب مالياً مفصّلاً له ولعائلته، وسجّلاً عدلياً نظيفاً، وتعهّداً بعدم التورّط في أي نشاط استغلالي للسلطة. هذه الخطوات ليست كمالية، بل ضرورة لحماية الناس من الوقوع ضحية مرشحين لا يحملون إلا مشاريع شخصية.
فما لم تُضبط بوابة الدخول إلى المجلس البلدي أو المخترة، سيظل الفساد يعيد إنتاج نفسه، وسنخسر مجددًا فرصة استعادة الدولة من بابها الأدنى.
- الانتخابات البلدية والإختيارية كثورة “من تحت“
في بلد يعاني نظامه الديمقراطي من أزمة وجودية، تصبح الانتخابات البلدية والاختيارية فرصة نادرة للناس كي يعبّروا عن رفضهم لمنظومة فاسدة من خلال صناديق الاقتراع. إنها أشبه بثورة “من تحت“، تبدأ من الأحياء والقرى، حيث لا تزال الروابط الاجتماعية حيّة، والقدرة على التغيير أكبر من الانتخابات النيابية المرتبطة بالتحالفات الكبرى.
هذه الانتخابات ليست مجرّد استحقاق محلي، بل فعل مقاومة مدنية، يجب أن يتحوّل إلى منصة لولادة طبقة جديدة من القادة المحليين الشرفاء. من هنا، يجب عدم الاستخفاف بقوة الصوت البلدي، ولا اعتبار المجالس المحلية مجرّد تفصيل هامشي في المعركة الوطنية الأشمل. فكل تغيير يبدأ من القاعدة.
إن المطلوب اليوم ليس فقط تغيير الأسماء، بل كسر ثقافة الخنوع والولاء الأعمى، واستبدالها بثقافة المساءلة والمشاركة. عندها فقط، يمكن أن يصبح الاستحقاق البلدي والإختياري نقطة انطلاق حقيقية نحو بناء لبنان جديد.

- الخاتمة
إن الانتخابات البلدية والاختيارية في لبنان ليست مجرّد محطة روتينية، بل مفترق تاريخي بين القديم المتجذر وبين المراد بناؤه. في ظلّ الانهيار الشامل الذي يشهده البلد، تصبح الإدارة المحلية أملًا في إعادة ترميم ما تهدّم. لكن هذا الأمل لن يتحقّق ما لم يقم المواطنون بثورة في خياراتهم، فيرفضوا التحالفات المريبة، ويحاكموا الفاسدين، ويرفعوا من معايير المحاسبة والنزاهة. المطلوب ليس فقط تغيير الوجوه، بل تغيير المنهج والسلوك والعقلية، ووضع حد لتغوّل السلطة المركزية الفاسدة على الشأن المحلي. فحين تُبنى البلديات وينتخب المخاتير على أسس شفافة ونظيفة، يُمكن حينها أن نأمل بقيامة وطن، تبدأ من الحارات والقرى، وتمتد نحو الدولة. فهل نحن على قدر التحدي؟