د. الياس ميشال الشويري
كفى خداعًا! كفى استغباءً لشعب أنهكته الوعود الكاذبة والوجوه الملطّخة بالفساد! في كل استحقاق انتخابي، تعود رائحة العفن السياسي لتتفجّر من جديد، وتطلّ علينا الأحزاب ذاتها التي نهبت الوطن واغتالت أحلام شبابه، متقمّصة أقنعة جديدة وشعارات زائفة، فيما تاريخها الملطّخ بالدم والعار ما زال حيًا في ذاكرة كل لبناني حرّ. إن القول “رجعت حليمة لعادتها القديمة” لم يعد مجرّد مثل شعبي، بل صار توصيفًا دقيقًا لواقع لبناني مأزوم، حيث تتجدّد الوجوه ولا يتغيّر النهج، وتستمّر منظومة غارقة حتى النخاع في مستنقع الخيانة الوطنية.
أيّ انتخابات هذه التي جرت تحت سطوة الطائفية وبراثن الفساد؟ أيّ اختيار شعبي يُرجى حين تتحوّل البلديات والمخاتير إلى أدوات مطواعة في خدمة زعماء الطوائف وشبكات المافيا السياسية؟ لقد أصبحت صناديق الاقتراع مقابر جماعية للأمل، تُعاد عبرها تدوير أحزاب نهبت المال العام، وسطت على أموال المودعين، واغتصبت الأملاك العامة، وكرّست الانقسام الأهلي، حتى تحوّل لبنان إلى أرض مقفرة، يفرّ أبناؤها إلى المنافي، ويُدفن مستقبلها بين أنياب الطمع، والجشع، والخيبة المزمنة.
- استغلال الأحزاب للانتخابات البلدية والاختيارية
تُستخدم الانتخابات البلدية والاختيارية في لبنان كأداة لتثبيت سلطة الأحزاب أكثر مما تُستخدم كوسيلة لخدمة الشأن العام. فبدل أن تكون مناسبة لتجديد الطبقة السياسية وضخّ دماء جديدة في العمل البلدي، تتحوّل الانتخابات إلى معركة نفوذ تُستخدم فيها الأموال السياسية، والوعود الزائفة، وشراء الذمم، لضمان استمرار القوى التقليدية في السيطرة على المجالس المحلية. يتّم التلاعب بإرادة الناخبين من خلال الضغوط الاجتماعية والمالية، حتى يصبح المواطن أسير الخدمات الشخصية بدلاً من أن يكون شريكًا في عملية بناء مجتمعه.
تلعب الطائفية دورًا محوريًا في هذه الانتخابات، حيث تعتمد الأحزاب بشكل أساسي على خطاب التحريض الطائفي لحشد الأنصار وكسب الأصوات. يجري تقسيم القرى والمدن إلى حصص طائفية ومذهبية، ممّا يحول البلديات من مؤسسات خدمية إلى أدوات لتنفيذ أجندات طائفية بحتة. في هذا المناخ، تغيب المشاريع التنموية الحقيقية وتحل محلها المشاريع التي تخدم المصالح الفئوية، ما يؤدّي إلى تفتيت النسيج الاجتماعي وتعزيز العصبيات التي تعرقل قيام دولة المواطنة الحقيقية.
الوعود الانتخابية التي تطلقها الأحزاب، سواء كانت تتعلّق بإصلاح البنية التحتية أو تحسين الخدمات، غالبًا ما تبقى حبراً على ورق. فالحملات الانتخابية تمتلئ بالخطابات الرنانة التي تغازل أحلام الناخبين، ولكن سرعان ما تتبخّر هذه الوعود بعد انتهاء المعركة الانتخابية. ويكتشف المواطنون أن الأولوية لم تكن يومًا لتنفيذ برامج حقيقية، بل كانت لتحقيق مكاسب سياسية آنية تخدم استمرار الأحزاب في التحكّم بالمقدرات المحلية.

- الفساد المستشري في تاريخ الأحزاب اللبنانية
لقد تكرست ثقافة الفساد في لبنان عبر عقود من الممارسات السياسية غير الشفافة، حيث ارتبطت الأحزاب بالسلطة ارتباطًا وثيقًا مكنها من نهب المال العام (والخاص) واستغلاله لتحقيق مصالحها الخاصة. غالبًا ما كانت المشاريع الحكومية التي تُعلن عنها هذه الأحزاب مجرّد واجهة لتغطية عمليات سرقة منهجية للمال العام، عبر التلاعب بالمناقصات، وتضخيم الكلفة، أو تنفيذ مشاريع وهمية لا وجود لها على أرض الواقع. هذا السلوك لم يكن استثناءً بل أصبح هو القاعدة التي تحكم العلاقة بين المواطن والدولة.
عزز نظام المحاصصة الطائفية ثقافة المحسوبية والزبائنية، حيث يتّم توزيع المناصب والمغانم على أساس الولاء الحزبي والطائفي بدلًا من اعتماد الكفاءة والمعايير المهنية. باتت الوظائف العامة تُمنح كجوائز انتخابية لأنصار الأحزاب، ما أدّى إلى تضخّم الجهاز الإداري وتراجع فعالية المؤسسات العامة. هذا النظام أنهك الدولة، وجعل من الفساد قاعدة تُمارس بشكل يومي ومشروع تحت غطاء “التوازن الطائفي“، ممّا أعاق إمكانية بناء مؤسسات حديثة وعصرية قادرة على تقديم خدمات حقيقية للمواطنين.
غياب المحاسبة هو العنوان العريض لتاريخ الأحزاب اللبنانية مع الفساد. فعلى الرغم من تكرار الفضائح المالية والإدارية، لم يتّم تقديم أي من المسؤولين الفاسدين إلى العدالة، بل غالبًا ما يتّم حمايتهم سياسيًا أو طائفيًا. إن ثقافة الإفلات من العقاب عززت الشعور لدى المواطنين بأن الفساد هو جزء من بنية النظام، وأن لا أمل في التغيير الحقيقي طالما أن منظومة الحصانات السياسية والطائفية قائمة.
- الاستيلاء على المشاعات والممتلكات العامة
أحد أكثر الأوجه المظلمة للفساد في لبنان يتمثّل في السطو الممنهج على المشاعات والأملاك العامة، إذ تستخدم الأحزاب سلطتها المحلية لإعادة توزيع هذه الأراضي لصالح أنصارها أو لمشاريع خاصة تعود بالنفع المادي عليها. لا يتم احترام أي معايير قانونية أو بيئية في هذا التعدّي على المال العام، بل غالبًا ما يتّم تمرير هذه العمليات عبر قرارات بلدية مشبوهة أو عبر تسويات سياسية لا تخضع للرقابة أو المحاسبة.
الاستيلاء على الممتلكات العامة يحرم المجتمع من استخدام موارده الطبيعية بشكل عادل ومستدام. بدلًا من تطوير هذه الأراضي لخدمة الصالح العام من خلال إنشاء حدائق عامة أو مشاريع إسكانية شعبية، تتحوّل إلى مجمعات تجارية أو منتجعات سياحية حصرية. المواطنون العاديون، الذين يفترض أن يكونوا المستفيدين الحقيقيين من هذه المشاعات، يجدون أنفسهم محرومين من حقوقهم الأساسية، في ظل غياب واضح لأي سلطة قضائية قادرة على وقف هذه الانتهاكات.
تؤدّي هذه الممارسات أيضًا إلى كوارث بيئية واقتصادية خطيرة. فالاعتداء على الغابات والشواطئ والأراضي الزراعية تحت شعار “الاستثمار” يؤدّي إلى تدمير البيئة الطبيعية ويقضي على مساحات خضراء ضرورية للتوازن البيئي. كما يحرم الأجيال القادمة من ثروات وطنية كان يمكن أن تساهم في دعم التنمية المستدامة وتعزيز اقتصاد البلاد بدل دفعه نحو مزيد من التبعية والضعف.
- تعزيز الانقسامات الطائفية عبر الممارسات السياسية
منذ تأسيس الكيان اللبناني، بقيت الطائفية أحد العناصر الجوهرية التي تتحكّم بالسياسة المحلية، إلا أن الأحزاب السياسية في العقود الأخيرة حولتها إلى أداة منهجية لتعزيز سلطتها. فبدل أن تعمل على تجاوز الحواجز الطائفية وبناء هوية وطنية جامعة، استغلت هذه الأحزاب التنوّع الطائفي لتقسيم المجتمع وتحفيز الولاءات الضيقة خدمةً لمصالحها الذاتية. أصبح الناخب يُحرّك ليس بناءً على قناعاته الوطنية، بل استنادًا إلى انتمائه الطائفي، ممّا أسهم في تكريس الانقسام السياسي والاجتماعي.
هذه الممارسات أدت إلى تصاعد التوترات الطائفية بين مختلف مكونات الشعب اللبناني. فكلما زادت سخونة الصراع السياسي، لجأت الأحزاب إلى استثارة العصبيات الدينية والمذهبية، ما جعل من كل استحقاق انتخابي أو سياسي فرصة لتأجيج الكراهية والانقسام بدل أن يكون مناسبة لتعزيز السلم الأهلي. وبهذا المعنى، أصبح الخطاب الطائفي وسيلة فعالة لضمان السيطرة الشعبية وعرقلة أي محاولات للإصلاح أو التغيير الحقيقي.
لقد أدّى هذا الواقع إلى إفشال العديد من المبادرات الإصلاحية التي كان من شأنها أن تضع لبنان على طريق الدولة المدنية الحديثة. فالانتماءات الطائفية تحولت إلى معايير أساسية في توزيع السلطات والمغانم، ممّا عرقل بناء مؤسسات قوية قائمة على الكفاءة والعدالة، وأبقى النظام السياسي رهينة لحسابات الزعامة الطائفية الضيقة.

- التأثير السلبي على التنمية الاقتصادية والاجتماعية
أدت ممارسات الفساد السياسي والانتخابي إلى تعطيل مشاريع التنمية الاقتصادية والاجتماعية في لبنان بشكل كارثي. فالأموال العامة التي كان من المفترض أن تُخصّص لتحسين الخدمات الأساسية أو دعم القطاعات الإنتاجية تم تبديدها في صفقات مشبوهة ومشاريع ذات طابع استعراضي، هدفها الوحيد خدمة المصالح الحزبية. هذا التعطيل حرم اللبنانيين من فرص حقيقية لتحسين أوضاعهم المعيشية وأبقى البلاد في حالة من الركود الاقتصادي والتخلّف الاجتماعي المزمن.
تُعد هجرة الطاقات الشابة من أخطر نتائج هذا الواقع الفاسد. إذ لم يعد لبنان قادرًا على استيعاب خريجي الجامعات وأصحاب الكفاءات الذين يضطرون لمغادرة وطنهم بحثًا عن فرص أفضل في الخارج. هذه الهجرة الجماعية للكفاءات حرمت البلاد من أهم موارده البشرية، ما جعل من مهمة النهوض الاقتصادي أكثر صعوبة، وكرس حالة الاعتماد المتزايد على التحويلات الخارجية بدلًا من بناء اقتصاد إنتاجي داخلي متماسك.
في المقابل، أدت هذه السياسات إلى تفاقم الفقر والبطالة واتساع الفجوة الاجتماعية بين الأغنياء والفقراء. باتت الطبقة الوسطى في تآكل مستمر، بينما ازدادت الهوة بين النخب السياسية والمالية المترفة وبين غالبية اللبنانيين الغارقين في العوز. في هذا السياق، أصبحت التنمية الاقتصادية والاجتماعية حلمًا بعيد المنال، مرهونًا بإصلاح جذري في البنية السياسية والقيمية التي تحكم إدارة الدولة.
- غياب محاسبة الأحزاب وغياب الإصلاحات الجادة
يمثّل غياب المحاسبة أحد أخطر مظاهر الأزمة السياسية في لبنان. فالأحزاب والقوى التقليدية تتمتّع بحصانات غير مكتوبة تمنع ملاحقة أي من رموزها مهما عظمت الجرائم المرتكبة بحق المال العام أو المجتمع. لا تخضع القيادات السياسية لأي آلية رقابة فعلية، وتغيب المؤسسات الرقابية عن أداء دورها، سواء بفعل الضغوط السياسية أو نتيجة انخراطها المباشر في منظومة المحاصصة. وهكذا تُطوى ملفات الفساد الكبرى تحت عناوين المصالحة الوطنية أو “الاستقرار السياسي“، ليبقى الفاسدون في مواقع القرار دون مساءلة أو عقاب.
في ظل هذا الواقع، تبدو كل محاولات الإصلاح التي تُعلن عنها الأحزاب مجرد شعارات فارغة من أي مضمون حقيقي. تُطرح البرامج الإصلاحية على الورق فقط، وتُستثمر إعلاميًا لكسب الوقت أو امتصاص غضب الشارع، دون نية جدية لتنفيذها. الإصلاحات الجوهرية المتعلقة بالقضاء، والإدارة العامة، والقطاعات الإنتاجية تُواجه إما بالتعطيل المتعمد أو بالتحريف والتسويف. والنتيجة هي استمرار الانهيار المؤسساتي، وترسيخ دولة الفساد بدل دولة القانون، ما يُفقد المواطنين الثقة الكاملة بأي إمكانية للتغيير عبر الأطر التقليدية.
الأخطر أن هذا الغياب التام للمحاسبة والإصلاحات يُعمّق شعور الإحباط واليأس لدى فئات واسعة من اللبنانيين، خصوصًا الشباب. يتحول الشعور بالانتماء الوطني إلى حالة اغتراب داخلي، حيث يفقد المواطن الأمل بدولة تحميه وتؤمّن حقوقه. وهكذا تُدفع الأجيال الجديدة إلى خيارين أحلاهما مر: الهجرة بحثًا عن كرامة مفقودة، أو الانخراط في لعبة الطائفية والزبائنية التي تحكم البلاد. وما لم يتّم كسر هذه الحلقة المفرغة عبر ثورة فعلية في الفكر السياسي والثقافة المجتمعية، فإن لبنان سيبقى أسيرًا لماضيه العاثر وعاجزًا عن بناء مستقبل أفضل.
- الخاتمة
إن استقراء الواقع اللبناني من خلال استغلال الأحزاب للانتخابات البلدية والاختيارية يكشف حجم المأساة الوطنية العميقة التي يعيشها هذا البلد. فبدل أن تكون الانتخابات فرصة للتجديد وضخ دماء جديدة في مؤسسات الدولة، تحولت إلى مناسبة لإعادة تدوير الفاسدين وتثبيت سلطة المنظومات القديمة التي لم تجلب للبنان سوى الويلات والانهيارات. لقد أصبحت الشعارات الفارغة أداةً لتضليل الناس، وغابت مشاريع التنمية الحقيقية خلف مصالح ضيقة، فيما استمرت عمليات النهب والسطو الممنهج على مقدرات الوطن تحت غطاء الطائفية والحماية الحزبية.
ولم يعد غريبًا أن تنعكس هذه الممارسات الكارثية سلبًا على البنية الاقتصادية والاجتماعية، حيث تفاقمت معدلات الفقر والبطالة، وتصاعدت موجات الهجرة، وضاعت فرص التقدّم والإصلاح في متاهات الفساد والمحسوبيات. إن غياب المحاسبة الفعلية، ورفض إدخال إصلاحات حقيقية إلى مؤسسات الدولة، رسّخ ثقافة الإفلات من العقاب، وأحبط أي بارقة أمل بإحداث تغيير سلمي ومستدام، ممّا أدخل لبنان في حلقة مفرغة من التراجع والانهيار.
لقد أثبت الشعب اللبناني، مرة جديدة، أنه لم يتحرّر بعد من قيوده النفسية والاجتماعية، وأنه لا يزال أسير الولاءات العمياء والعصبيات الطائفية. خذلته الفرصة، كما خذلها، حين أعاد إنتاج من دمّروا حاضره وسرقوا مستقبله. فالمشكلة ليست فقط في الفاسدين الذين يترشحون، بل في أولئك الذين يمنحونهم شرعية الصناديق. ومن لا يحسن اختيار ممثليه، لا يمكنه أن يشتكي من جور الحاكم، لأنه شريك في وصوله. إنها لحظة قاسية من التأمّل الذاتي، لا بدّ أن نعترف فيها أننا كشعب، نحتاج إلى ثورة على ذواتنا قبل ثورتنا على سلطاتنا.
***
وشهد شاهدٌ من أهله…
على هامش ما تناوله د. الشويري وهو يقيّم الإنتخابات البلدية والإختيارية التي بدأت الأحد (أمس في 4-5-2025)، ننقل عن “النهار” في زاوية “أسرار الآلهة” خبراً يندى له الجبين وننشره بحرفيته:
-بعد التشدد الذي نفذّه محافظ البقاع كمال أبو جوده في امتحانات القراءة والكتابة للمرشحين الى المقاعد البلدية والإختيارية، ما أدى الى رسوب كثيرين، كانت المفاجأة السيئة بالنتائج المعاكسة التي اعتمدها مجلس شورى الدولة نظراً الى العبارة القانونية “يعرف القراءة” أي “فك الحرف” وليس إجادة القراءة والكتابة، وبالتالي السماح لكل الراسبين بالترشّح!