احذر صديقك مرة…
د. الياس ميشال الشويري
نجيب محفوظ، الكاتب المصري الكبير، هو صاحب السرد المبدع والموضوعات العميقة التي تجسّد تعقيدات الحياة الإنسانية. ومن بين عباراته الشهيرة، نجد المقولة “ما أجمل الغرباء حين يصبحون أصدقاءنا بالصدفة، وما أحقر الأصدقاء حين يصبحون غرباء فجأة“. تحمل هذه المقولة في طياتها رؤى فلسفية عميقة حول العلاقات الإنسانية، والتحولات التي قد تحدث في تلك العلاقات بين الأفراد. يعكس هذا القول التناقض بين العلاقات التي تبدأ بشكل غير متوقّع، وتلك التي تمّر بتغيرات مفاجئة، ممّا يجعلها موضوعًا غنيًا للتحليل والتأمّل.
في هذا المقال، سنتناول هذه المقولة من جوانب عدة، متناولين طبيعة العلاقات الإنسانية، وكيفية تغيّرها، وأثر هذه التحولات على الأفراد والمجتمعات.
- التحوّل المفاجئ في العلاقات الإنسانية
أ-من الغرباء إلى الأصدقاء. العلاقات التي تبدأ بين الغرباء عادةً ما تكون عفوية وبدون أهداف مسبقة. يتّم تكوين هذه العلاقات عادةً بناءً على سياقات ظرفية أو لقاءات غير متوقعة. في البداية، تكون هذه العلاقات خالية من أي تكلّف أو رغبات مسبقة. تكون التفاعلات بين الأفراد بسيطة وصادقة، وتقوم على أساس الفضول والاحترام المتبادل. ولكن مع مرور الوقت، وفي ظل التفاهم المشترك والمواقف التي يمّر بها الأفراد معًا، يمكن أن تنشأ روابط قويّة تستند إلى الثقة والاحترام المتبادل.
قد تكون هذه العلاقات أكثر استقرارًا من العلاقات الأخرى، حيث أن كلا الطرفين يدخلها دون توقعات مسبقة أو ضغوط اجتماعية. كما أن ما يجعل هذه العلاقات جذّابة هو عنصر المفاجأة؛ إذ يظهر الشخص الغريب في حياة الآخر ليمنحه فرصة اكتشاف شيء جديد ومختلف عن محيطه المعتاد. في بعض الأحيان، تكون الصدفة هي التي تخلق الفرصة المناسبة للتواصل مع شخص غريب ليصبح صديقًا، ممّا يعكس جانبًا من سحر الحياة الإنسانية التي تتحكّم فيها المفاجآت.
ب.من الأصدقاء إلى الغرباء. في المقابل، يتحدّث نجيب محفوظ عن تحوّل الأصدقاء إلى غرباء فجأة. هذا التغيير هو أحد أعمق التحولات النفسية والاجتماعية التي قد يمّر بها الإنسان. فالأصدقاء الذين شاركنا معهم لحظات السعادة والتحديات قد يصبحون فجأة أشخاصًا لا نعرفهم، أو حتى يبتعدون عن حياتنا. قد يحدث هذا التحوّل نتيجة لضغوط الحياة، التغيرات الشخصية، أو خلافات كبيرة. في بعض الأحيان، يظهر الخلاف العميق بين الأفراد، وفي أوقات أخرى يمكن أن تتراكم الفجوات الصغيرة حتى تصبح عميقة بما فيه الكفاية لتفرّق بين الأصدقاء.
عندما يصبح الأصدقاء غرباء، تتبدّد الثقة التي كانت تربطهم، وقد تنقلب العلاقات من الدعم إلى التنافس أو الانفصال العاطفي. يمكن أن يحدث هذا التغيير بشكل مفاجئ، حيث ينتقل الشخص من مرحلة من القرب العاطفي إلى مرحلة من الفتور والجفاء. وهذا التحوّل يمكن أن يكون مؤلمًا لأنه يؤدي إلى فقدان الأمان العاطفي الذي كانت توفره هذه العلاقة.
- أسباب التحوّل في العلاقات الإنسانية
أ-التحولات الناتجة عن التغيرات الشخصية. تتغير شخصيات الأفراد مع مرور الوقت. فالعوامل الشخصية مثل النضج العاطفي، التوجهات الفكرية، والاحتياجات الشخصية تختلف بشكل كبير مع تقدّم العمر. هذه التحولات قد تؤثّر بشكل كبير على العلاقات بين الأفراد. على سبيل المثال، قد يبدأ شخص في البحث عن أهداف جديدة أو تتغيّر قيمه ومعتقداته، ممّا قد يجعله يشعر بأنه قد نضج بشكل مختلف عن أصدقائه القدامى. وفي هذه الحالة، يمكن أن يشعر الشخص بأنه لم يعد يتناسب مع أصدقائه السابقين، ممّا يؤدّي إلى تباعد العلاقات.
ب.الضغوط الاجتماعية. تلعب الضغوط الاجتماعية دورًا مهمًا في تحديد مسار العلاقات الإنسانية. في بعض الأحيان، قد يفرض المجتمع نفسه على الأفراد بطرق لا يمكنهم مقاومتها. قد تؤدّي التوقعات الاجتماعية إلى ضغوط تجعل الأفراد يبتعدون عن بعضهم البعض. على سبيل المثال، قد تشهد بعض المجتمعات تفضيلًا للأشخاص الذين يلتزمون بمعايير معينة من السلوك أو المعتقدات، ممّا قد يؤدّي إلى تحوّل العلاقات إلى شيء من “الغربة” بين الأصدقاء الذين لا يتماشون مع هذه المعايير.
ج. الخيانة أو الفشل في الوفاء بالوعود. من الأسباب الرئيسية لتحوّل الأصدقاء إلى غرباء هو الخيانة. الخيانة يمكن أن تكون في شكل غدر أو عدم الوفاء بالوعود التي قطعها الأصدقاء على أنفسهم. هذه الخيانات تؤدّي إلى فقدان الثقة، وهو ما يعدّ أساسًا لأي علاقة إنسانية ناجحة. وعندما يفتقد الأصدقاء الثقة في بعضهم البعض، يصبح من الصعب العودة إلى العلاقات السابقة، ويشعر الطرفان كما لو أنهم غرباء عن بعضهما البعض.

- أثر التحولات في العلاقات على الأفراد
أ-تأثير فقدان الأصدقاء على الصحة النفسية. فقدان الأصدقاء، سواء بسبب الخلافات أو تغيرات في الحياة، قد يكون له تأثيرات نفسية كبيرة على الأفراد. الأصدقاء يمثلون مصدرًا للدعم العاطفي، وأحيانًا يكونون الذين يساعدون في مواجهة التحديات. عندما يصبح الأصدقاء غرباء، قد يشعر الأفراد بالوحدة أو الحزن، ممّا يمكن أن يؤدي إلى الاكتئاب أو القلق. هذه التغيرات العاطفية تؤثر بشكل مباشر على صحة الأفراد النفسية، حيث أنهم يواجهون صعوبة في التكيّف مع غياب أشخاص كانوا يشكلون جزءًا كبيرًا من حياتهم.
ب.تأثير العلاقة مع الغرباء على تطور الذات. على الرغم من أن التحوّل من صداقة إلى غربة قد يكون مؤلمًا، إلا أن اللقاء بالغرباء الذين يصبحون أصدقاء يمكن أن يكون له تأثير إيجابي على النمو الشخصي. الغرباء الذين يدخلون حياتنا يقدمون لنا رؤى جديدة وتجارب مختلفة. هذه العلاقة قد تكون فرصة لتوسيع آفاقنا وتعلّم أشياء جديدة عن العالم وعن أنفسنا. في بعض الأحيان، يمكن أن يكون التعامل مع الغرباء أكثر إلهامًا من العلاقات القديمة التي قد تصبح مليئة بالتوقعات والمشاكل.
- الخاتمة
في النهاية، فإن مقولة نجيب محفوظ تعكس أحد أبرز الجوانب المتناقضة في العلاقات الإنسانية. فالعلاقات التي تنشأ بالصدفة قد تكون أكثر نقاءً وعفوية، بينما العلاقات التي كانت يومًا ما مليئة بالثقة والتفاهم قد تصبح فجأة مصدرًا للألم والانعزال. من خلال التأمل في هذه المقولة، ندرك أن الحياة مليئة بالتحولات التي لا يمكننا دائمًا التنبؤ بها، وأن التعامل مع هذه التحولات يتطلّب منّا مرونة وفهمًا عميقًا للطبيعة الإنسانية.
إن العلاقات الإنسانية هي جزء لا يتجزأ من تكويننا الشخصي والعاطفي، وتغيير هذه العلاقات يترك أثرًا كبيرًا في حياتنا. وفي بعض الأحيان، نجد الجمال في أن نكون غرباء في الحياة ونتعلّم من لقاءاتنا العفوية، بينما نجد الحزن في أن نكون غرباء في حياتنا بعد أن كنا أصدقاء.