قضبان السجن تحمي ام تعاقب؟
د. الياس ميشال الشويري
في بلدٍ يرفع شعار “العدالة للجميع“، تتجلى المفارقة الكبرى حين يصبح القانون سيفًا على رقاب الضعفاء وغمدًا يُخفي جرائم الأقوياء. لبنان، الذي كان يُفترض أن يكون منارة للحرية والقضاء المستقل في الشرق، تحوّل إلى مسرح تتلاعب فيه السياسة بمصائر البشر، وتُفصّل العدالة على قياس النفوذ والمصالح. فبين سجن هنيبعل القذافي الذي لم يُدن بأي جرمٍ مثبت سوى كونه ابن العقيد الراحل معمر القذافي، وبين إطلاق سراح رياض سلامة الذي أرهق اللبنانيين بسياساته المالية التي أضاعت مدخراتهم، تتجسّد المأساة الأخلاقية والقانونية التي يعيشها هذا الوطن الصغير المنهك.
قضيتان متباينتان في الشكل، متشابهتان في الدلالة، تضعان العدالة اللبنانية في قفص الاتهام، وتكشفان حجم التصدّع في منظومة القيم والمؤسسات. الأولى تُعبّر عن انتقامٍ سياسيٍّ مغلّفٍ بلبوس العدالة، والثانية عن تواطؤٍ قضائيٍّ مغطّى بخيوط المال والنفوذ. وبين هذا وذاك، يقف الشعب اللبناني متفرّجًا على مشهدٍ عبثيٍّ تتقاطع فيه المصالح، وتُدفن فيه الحقيقة تحت ركام الصفقات.
من هنا، يأتي هذا المقال ليحلّل بعمقٍ الفارق بين الحالتين، ويُعيد طرح السؤال الجوهري: هل لا تزال العدالة ممكنة في بلدٍ تُدار فيه القوانين بالعواطف والطوائف؟ وهل يُمكن لوطنٍ يُعاقب البريء ويُبرّئ الفاسد أن ينهض من جديد؟

1. العدالة اللبنانية بين الانتقائية والتوظيف السياسي
يبدو المشهد اللبناني اليوم غارقًا في مفارقات قانونية وأخلاقية لا يمكن لأي عاقل أن يمرّ بها مرور الكرام. فحين يُزَجّ هنيبعل القذافي في السجن لسنوات طويلة بتهمةٍ لا دليل عليها سوى نسبه إلى العقيد الراحل معمر القذافي، يُطلّ علينا في المقابل رياض سلامة، حاكم المصرف المركزي السابق، الذي يُعتبر أحد أبرز المتهمين بارتكاب جريمة اقتصادية بحق الشعب اللبناني، طليقًا حرًا بعد دفع كفالة مالية من مال الشعب الذي نهبه، وكأنّ القانون قد أُصيب بالعمى أمام المال والنفوذ. قضية هنيبعل القذافي تكشف كيف أنّ العدالة في لبنان لم تعد تبحث عن الحقيقة بقدر ما تبحث عن الترضيات السياسية؛ فالرجل لم يكن في موقع القرار حين اختفى الإمام موسى الصدر عام 1978، وكان لا يزال طفلًا لا يملك من أمره شيئًا، ومع ذلك حُمّل وزر أبيه ونُكّل به كرمز انتقامي أكثر منه متهمًا قضائيًا. إنها العدالة التي تتحوّل إلى أداة تصفية حسابات سياسية وطائفية، تُستخدم لتلميع صورة هذا الفريق أو لتصفية حسابات ذاك.
إنّ لبنان الذي يتغنّى بدولة القانون والمؤسسات بات يعيش زمن “عدالة المقايضة“، حيث يُقاس حجم الجرم لا بما ارتُكب من أفعال، بل بما يقرّره ميزان النفوذ والولاءات. رياض سلامة الذي أقنع اللبنانيين على مدى ثلاثين عامًا بأنّ “الليرة بخير” في الوقت الذي كانت تنزف فيه الخزينة دماء الناس، أدار منظومة مالية مافيوية، امتصّت مدخرات الملايين وأفقدتهم القدرة على شراء الدواء والعيش الكريم. ومع ذلك، خرج الرجل محاطًا بحماية سياسية وقضائية، فيما بقي هنيبعل القذافي رهينة صراعٍ لم يكن طرفًا فيه. أي عدالة هذه التي تسجن الأبرياء وتكرّم المجرمين؟
إنّ الفارق بين القضيتين ليس قانونيًا فقط، بل أخلاقي وإنساني بامتياز. فالقانون اللبناني الذي يتذرّع بالسيادة في قضية القذافي، هو نفسه الذي يتلكأ عن تنفيذ مذكرات التوقيف الأوروبية بحق سلامة. هنا تتجلّى الصورة الأوضح لانهيار المنظومة القضائية، التي لم تعد سوى مرآةٍ مشروخة لواقعٍ طائفي فاسد. العدالة في لبنان ليست عمياء، بل تُبصر جيدًا من يقف وراء المتهم، وتعرف متى تصمت ومتى تتكلم، ومتى ترفع السيف ومتى تغمده. ولذلك، فإن قضية القذافي ليست سوى شاهد على زمن تُحاكم فيه الأسماء لا الأفعال، وتُغتال فيه الحقيقة على مذبح السياسة.

2. بين ضحية الظلم وضحية الفساد – مقارنة في ميزان الإنسانية
في حين عاش هنيبعل القذافي خلف القضبان لأكثر من عقد، دون محاكمة عادلة أو أدلة ملموسة، يتابع رياض سلامة اليوم حياته بحرية، رغم عشرات الملفات المالية المفتوحة في لبنان وخارجه. المفارقة هنا ليست في القضاء فحسب، بل في طبيعة الضمير الجماعي الذي يقبل بهذه المعادلة دون احتجاج واسع. فهنيبعل لم يكن سوى الابن الرابع للعقيد القذافي، يعيش في ظل نظامٍ لم يشارك في بنائه أو قراراته. اعتقاله في لبنان جاء بعد استدراجه من سوريا، بطريقة تُشبه الأفلام البوليسية، لا الإجراءات القضائية، وتم تحويله إلى ورقة مساومة بين قوى داخلية تعتبر نفسها وريثة لقضية الإمام موسى الصدر وبين دولةٍ غارقة في الفوضى المؤسساتية. في المقابل، فإنّ سلامة هو صانع سياسات نقدية كارثية، مهندس هندسات مالية أوصلت البلاد إلى الانهيار، وهو مسؤول عن أكبر عملية نقل ثروة من جيوب الفقراء إلى حسابات الأغنياء.
قضية هنيبعل تطرح سؤالًا جوهريًا: هل العدالة تُبنى على النية أم على الفعل؟ وإذا كان يُعاقب شخص على ما ارتكبه والده، فأين مبدأ الفردية في المسؤولية؟ بينما رياض سلامة الذي اعترف العالم بأسره بتورطه في تبييض الأموال وسرقة أموال المودعين، لا يزال يُقدّم من قبل البعض من المستفدين والحثالة كـ”رجل الدولة” الذي أنقذ الاقتصاد. هذا التناقض لا يعبّر فقط عن ضعف القضاء، بل عن انهيار المعايير الأخلاقية في المجتمع اللبناني، الذي فقد بوصلته بين الجاني والضحية. فكيف يُسجن شاب لأنه ابن “العقيد القذافي“، فيما يُكافأ طاغية المال لأنه ابن المنظومة؟
اللبنانيون الذين خسروا أرزاقهم وصحتهم وكرامتهم نتيجة سياسات سلامة، يعيشون مأساةً جماعية لا تقلّ قسوة عن أي حرب. الملايين فقدوا مدخراتهم التي جمعوها بعرق جبينهم، والمستشفيات أغلقت أبوابها أمام الفقراء، والأطفال حُرموا من التعليم والدواء، فيما كان رياض سلامة وأعوانه يكدّسون المليارات في الخارج. هذه ليست جريمة مالية فقط، بل جريمة إنسانية بكل المقاييس. أما قضية هنيبعل، فهي مأساة إنسان بريء محتجز في بلدٍ يُفترض أنه ديمقراطي، يُستخدم جسده كوسيلة ضغطٍ سياسي بدل أن يُعامل كإنسان له حقّ العدالة. كلا القصتين تُجسدان وجهين لعملة واحدة: وجه النظام الذي يظلم الضعفاء ويحمي الفاسدين.

3. العدالة الغائبة بين قوس القانون وأوهام السيادة اللبنانية
حين نضع القضيتين في ميزان القانون والضمير، نكتشف أنّ العدالة في لبنان لم تعد تسعى إلى إنصاف المظلوم، بل إلى حماية القويّ مهما كان فاسدًا. الدولة التي ترفض تسليم رياض سلامة إلى القضاء الأوروبي بحجة السيادة الوطنية، هي نفسها التي انتهكت سيادتها باعتقال هنيبعل القذافي من خارج أراضيها. السيادة هنا ليست سوى شعار يُرفع عند الحاجة، لا مبدأ قانونيًا يُطبّق على الجميع. فسلامة، بحكم علاقاته الدولية وتشابكه مع المصارف الغربية، يُعتبر خطًا أحمر لدى بعض القوى السياسية، لأنه ببساطة يعرف أسرار النظام المالي الذي خدمهم لعقود. أما هنيبعل، فلا ظهر يحميه، ولا كتلة سياسية تدافع عنه، فصار كبش فداءٍ لطمأنة جمهورٍ مذهبيٍّ يبحث عن ثأرٍ رمزيٍّ منذ نصف قرن. وهكذا يتحوّل القضاء إلى ساحة صراعٍ مذهبي بدل أن يكون منبرًا للحق.
إنّ ما يحدث في لبنان ليس مجرد خللٍ قضائي، بل أزمة هوية وطنية. فالدولة التي تُميز بين المتهمين بناءً على أسمائهم أو خلفياتهم السياسية لم تعد دولة، بل شركة تحكمها الزبائنية والمحسوبيات. العدالة ليست محكمة، بل ثقافة تُمارَس في كل مؤسسة وفي كل ضمير. وعندما يصبح القضاء مسيّسًا، يتحول الوطن بأسره إلى سجن كبير، تُحتجز فيه الحقيقة خلف جدران النفاق. القاضي الذي يخاف من السياسي، والسياسي الذي يشتري القاضي، هما وجهان لعدالة مزيفة لا تُنصف إلا الفاسدين.
قضية هنيبعل القذافي ورياض سلامة هي مرآة لبنان المعاصر: بلدٌ يُقدّس الأسماء ويدوس على المبادئ، بلدٌ يرفع شعار العدالة وهو غارق في الفساد، بلدٌ يبرّر الظلم باسم الطائفة ويُخفي الجرائم خلف كلمة “السيادة”. فكم من الأبرياء في لبنان يقبعون في السجون دون محاكمة، وكم من المجرمين يسيرون على الأرصفة مرفوعي الرأس لأنهم “محميّون“؟ العدالة الحقيقية تبدأ عندما يُحاسب القوي قبل الضعيف، وعندما يُحاكم من سرق الناس قبل من ورث اسمًا مثيرًا للجدل.
لبنان اليوم أمام اختبار ضميره: فإما أن يستفيق من غيبوبة الزبائنية ويُعيد بناء قضائه على أسسٍ من الاستقلال والنزاهة، وإما أن يبقى سجين مفارقاتٍ أخلاقية تُفرغ كل معنى للعدالة من محتواه. العدالة ليست قضية هنيبعل القذافي فقط، ولا فضيحة رياض سلامة فقط، بل هي سؤال وجودي عن مصير وطنٍ بات العدل فيه جريمة، والظلم فيه قانونًا.

4. الخاتمة
من خلال هذه المقارنة المؤلمة، يتضح أنّ لبنان لم يعد يعاني فقط من أزمة سياسية أو اقتصادية، بل من أزمة أخلاقية تُهدد جوهر وجوده كدولة. فحين يُصبح السجن من نصيب الأبرياء، والحرية من نصيب الفاسدين، لا يعود الوطن وطنًا بل مسرحًا للعبث. قضية هنيبعل القذافي ورياض سلامة ليست سوى مرآةٍ لزمنٍ انقلبت فيه القيم، وانهارت فيه الثقة بالقضاء. والعدالة التي تتأخر أو تُسيّس، ليست عدالة، بل مشاركة في الجريمة. فمتى يستفيق هذا الوطن من سباته، ليعيد إلى العدالة هيبتها، وإلى الإنسان كرامته؟























































