د. الياس ميشال الشويري
لطالما كانت السياسة في المفهوم الفلسفي وسيلة لخدمة الناس وتحقيق الخير العام، لا وسيلة للثراء السريع أو الهيمنة على مقدرات الشعوب. ومع ذلك، فقد أظهرت تجارب كثيرة حول العالم، لا سيما في الدول ذات الأنظمة الهشة والرقابة الضعيفة، أن السياسة تحولت إلى تجارة رابحة للفاسدين. ويعكس قول الرئيس الأميركي الأسبق هاري ترومان “لا يمكنك أن تغتني عن طريق السياسة إلا إذا كنت فاسدًا” هذه الحقيقة المُرّة التي تنطبق بحذافيرها على الواقع اللبناني. ففي لبنان، لم تعد السياسة إدارة للموارد وخدمة للمواطن، بل أصبحت أداة للنهب المنظم، محمية بالزعامة الطائفية، ومرعية من شبكات مصالح تتقاسم الغنائم باسم “الميثاقية” و”الشراكة الوطنية”. في هذا البحث، نحاول أن نغوص في أبعاد هذه المقولة، ونربطها بالسياق اللبناني، حيث تتجلى مظاهر الفساد السياسي بأوضح صورها، ونطرح رؤىً حول ضرورة الوعي الشعبي كمدخل حتمي للتغيير.
- السياسة بين رسالة الخدمة ومطية الثراء الشخصي
السياسة في جوهرها وُجدت لتكون فن خدمة الشعوب وإدارة شؤونهم نحو الأفضل، لا وسيلة لتكديس الثروات أو بناء مجد شخصي. فالمفهوم الكلاسيكي للسياسة كما طرحه الفلاسفة الكبار أمثال أرسطو وأفلاطون يقوم على تحقيق العدالة، والتنظيم المجتمعي، وضمان الحقوق. لكن هذا التصور سرعان ما انحرف في المجتمعات التي يغيب فيها الوعي الشعبي، لتتحول السياسة من رسالة نبيلة إلى مهنة ذات مردود مادي ضخم، لا تُدر إلا على الفاسدين. وهذا ما عبّر عنه هاري ترومان بقوله الصريح: “لا يمكنك أن تغتني عن طريق السياسة إلا إذا كنت فاسداً”، مشيراً بذلك إلى أن الثروة الناتجة عن العمل السياسي ما هي إلا نتيجة مباشرة للاستغلال غير المشروع للمنصب العام.
عندما تتحول السياسة إلى وسيلة للإثراء، فإنها تفقد غايتها الأخلاقية وتتحول إلى سوق مصالح وصراعات خفية، حيث تتداخل الرشاوى بالمناقصات، وتغيب الشفافية ويُقصى الكفء لصالح التابع. في هذا السياق، لم يعد الغنى في السياسة دليل نجاح أو حنكة، بل قرينة على شبكة فساد منظمة، يتواطأ فيها السياسي مع رجل الأعمال، والقاضي، والإعلامي، وحتى رجل الدين. وهكذا يصبح المال السياسي العصب الحيوي للعملية السياسية الفاسدة، لا وسيلة لتحقيق برامج، بل أداة لشراء الذمم، وتمويل الحملات، وتلميع الصورة.
من هنا، يصبح وعي الجماهير هو السد المنيع الوحيد في وجه هذا الانحراف. فالشعوب التي لا تراقب، ولا تحاسب، ولا تعاقب، تُسلم زمامها طوعاً إلى طبقة سياسية تستبيح المال العام. والتغيير لا يكون عبر شعارات المناسبات، بل من خلال إعادة تعريف دور المواطن، والمطالبة بحوكمة رشيدة، وإعلام حر، ومؤسسات رقابية مستقلة. وإن لم يتحقق ذلك، ستبقى السياسة المهنة الأكثر ربحاً والأقل خضوعاً للمساءلة.
- السياسي اللبناني بين خطاب الوطنية وممارسات النهب
في لبنان، تتجلى مقولة ترومان بأبشع صورها. فالغنى السياسي لا يرتبط بالكفاءة ولا بالإنجازات، بل بالحصة من الدولة. فمعظم الطبقة السياسية التي حكمت لبنان منذ الطائف إلى اليوم راكمت ثروات خيالية، بينما البلاد غارقة في الديون والانهيار. وبدل أن يكون السياسي خادماً لمواطنيه، أصبح سارقاً شرعياً بحصانة طائفية وحزبية، يتقاضى راتباً، وعمولة، ومخصصات، ومنافع متبادلة. وما تقريرات ديوان المحاسبة، وملفات الكهرباء، والنفايات، والاتصالات إلا شواهد دامغة على هذا الانحطاط المنهجي.
النظام اللبناني القائم على الزبائنية والمحاصصة لا يسمح بولادة سياسي شريف، لأن آليات الصعود السياسي تمر عبر الولاء لا الكفاءة، وعبر دفع “الخوة” المالية والإعلامية، لا طرح البرامج. فكيف يمكن للسياسي أن يدفع ملايين في حملته الانتخابية، ثم لا يعوّضها عبر مناصب الفساد؟ إنه نظام إنتاج الفاسدين بامتياز، حتى بات الغنى السياسي قاعدة، والفقر فيه استثناء. ووسط هذا المشهد، يخرج علينا كل سياسي بشعارات التغيير، وهو في الوقت نفسه يهرّب الأموال، ويشارك في التهريب، ويجري صفقات مع الخارج على حساب السيادة الوطنية.
اللبناني اليوم يرى السياسي بثوب المافيوي لا القائد، لأنه ينهب ويساوم ويضلل. والمشكلة ليست فقط في الفاسدين، بل في بنية تسمح لهم بالتمدد، وتحميهم بالقانون، وتعيد إنتاجهم بالانتخابات. إن أي إصلاح لا يبدأ بمحاسبة هؤلاء هو إصلاح شكلي، وأي انتخابات لا تطيح بهم هي مهزلة ديمقراطية. فالغنى غير المشروع الذي يتمتع به معظم السياسيين اللبنانيين ليس دليلاً على شطارتهم، بل على فشل الدولة، وانهيار قيم الرقابة، وتخلي المواطن عن دوره في المحاسبة.
- نحو وعي جماهيري يقلب المعادلة ويستعيد السياسة النبيلة
لن يتغير المشهد السياسي ما لم يتغير وعي الناس. فالفاسد لا يصنع نفسه، بل يصنعه صمت الناس، وقبولهم، وربما تصفيقهم له. والمواطن الذي يبيع صوته، أو يغض الطرف عن الفساد الطائفي لأنه “من جماعتنا”، هو شريك في الإفساد. ولهذا، فإن المعضلة في لبنان ليست فقط في الطبقة الحاكمة، بل أيضاً في الثقافة السياسية السائدة، وفي تغييب التربية المدنية، وتفكيك النقابات، وتهميش دور الجامعات، واحتواء الإعلام الحر.
إن بناء مجتمع إنساني راقٍ يتطلب تغييراً في طريقة الحياة لا في الأفراد فقط. فلا يكفي أن نبدل وجوهاً سياسية طالما البنية هي نفسها، بل علينا أن نعيد تعريف العلاقة بين المواطن والدولة، وأن ننقل السياسة من الزواريب إلى الساحات العامة، ومن الصفقات إلى البرامج، ومن الاستزلام إلى المحاسبة. وهذا يتطلب ثورة وعي، ومشروعاً وطنياً عابراً للطوائف، يؤمن بالمواطنة، ويقدّس المال العام، ويرفض الاختزال السياسي إلى زعامة طائفية.
مقولة ترومان ليست فقط تشخيصاً لحالة سياسية مرضية، بل دعوة صريحة للتحرك. فإذا استمر الغنى السياسي مرادفاً للفساد، فإن مصير الأوطان سيكون الإفلاس، والذل، والتهجير. أما إذا أصر الشعب على حقه في المحاسبة، فإن السياسة ستعود إلى أصلها النبيل: خدمة الناس. والتاريخ لا يرحم من ينهب، ولا من يصمت، بل يكرم من يثور، ويبني، ويغرس الوعي حيث يسود الظلام.
- الخاتمة
إن استعراض الواقع اللبناني من خلال عدسة مقولة هاري ترومان يكشف عمق الأزمة البنيوية التي يعانيها النظام السياسي في لبنان. فالثروة السياسية التي راكمها عدد كبير من السياسيين ليست سوى نتاج منظومة فساد محكمة، جعلت من السياسة مهنة لا يُقبل فيها إلا الفاسد أو من يتعلم الفساد سريعًا. ولعل الأخطر من ذلك أن هذه المنظومة لا تقوم فقط على سلوك السياسيين، بل على تساهل المجتمع، وغياب المحاسبة، والتواطؤ الطائفي الذي يحوّل السارق إلى “زعيم” والخائن إلى “حامٍ للطائفة”. من هنا، فإن التغيير لن يأتي فقط عبر الانتخابات أو تبديل الوجوه، بل عبر ثورة ثقافية وفكرية تعيد الاعتبار للسياسة كمجال للعدالة والتنمية، وتكسر الحلقة الجهنمية بين الفساد والسلطة. فإما أن نعيد للسياسة شرفها، أو نغرق في دوامة الخراب إلى ما لا نهاية.