المطلوب عين لا ترى و فم أخرس
د. الياس ميشال الشويري
في خضم الأزمات المتلاحقة التي تعصف بمجتمعاتنا، تتساقط الشعارات وتتهاوى المشاريع الإصلاحية إن لم تكن متجذرة في احترام جوهري لكرامة الإنسان. فكرامة الإنسان ليست رفاهًا أخلاقيًا أو مطلبًا نخبويًا، بل هي حجر الزاوية لأي عقد اجتماعي سليم، وأي مشروع نهضوي حقيقي. لقد أوجز ألكسندر سولجنيتسين هذه الحقيقة بجملة بالغة العمق: “إن المجتمع الذي يفشل في احترام كرامة الإنسان، سيفشل في كل شيء آخر”. هذه المقولة ليست مجرد توصيف فلسفي، بل هي تشخيص واقعي لمأساة العديد من الدول، ولبنان في مقدمتها. ففي بلد باتت فيه الكرامة مهدورة على الأرصفة والمستشفيات والمصارف، تحوّلت الحياة اليومية إلى سلسلة من الإهانات المنهجية التي تصنع الانهيار الشامل. هذا المقال يحاول أن يغوص في أبعاد هذه المقولة، محللاً آثار انتهاك الكرامة الإنسانية على مستويات الدولة والمجتمع، ومستعرضًا كيف يمكن للبنان أن يتحول من بلد يُهين أبناءه إلى وطن يصونهم.
1. كرامة الإنسان كأساس للنهضة الحضارية
كرامة الإنسان ليست شعارًا عاطفيًا أو مفهومًا مثاليًا يُطرح في الخطابات فقط، بل هي أساس فلسفي وأخلاقي يُبنى عليه كل مجتمع سليم. احترام الكرامة يعني الاعتراف بقيمة الإنسان كغاية في ذاته، وليس كوسيلة أو أداة لخدمة السلطة أو الاقتصاد. في المجتمعات التي تُكرّس مفهوم الكرامة، تنعكس المبادئ الأخلاقية في التشريعات، في العلاقات الاجتماعية، وفي السياسات العامة. وتُبنى الأنظمة التربوية والصحية والقانونية على ضمان حقوق الإنسان وليس استغلاله أو قهره. أما المجتمعات التي تهمل هذا الأساس، فهي تفتح الباب لعنف مؤسسي، لتمييز طبقي، ولتفكك أخلاقي عام. إن احترام كرامة الإنسان لا يرتبط فقط بالحقوق السياسية، بل أيضًا بالحق في العيش الكريم، في العمل، في السكن، في الصحة، وفي التعبير عن الرأي دون خوف. وهذا ما يجعل الكرامة قاعدة مركزية لا يمكن لأي مجتمع أن يتقدّم دونها.
عندما يُنتزع من الإنسان شعوره بالكرامة، يبدأ الانحدار من الداخل. يُصاب الإنسان بالاغتراب، باللامبالاة، بالشك في ذاته، وتنمو داخله مشاعر الإحباط والسخط والعدمية. وهذه المشاعر لا تبقى محصورة في الفرد، بل تتسرب إلى نسيج المجتمع فتتحول إلى ظواهر عامة: العنف، الفساد، الهجرة، الانتحار، الجريمة، والمخدرات. المجتمع الذي لا يصون كرامة أفراده يشهد تفتتًا في العلاقات الاجتماعية، وفقدانًا للثقة بين المواطن والدولة. تتحول السلطة إلى غول قمعي بدل أن تكون حامية للحق. كما تنشأ ثقافة خوف وتزلف، ويُقمع الإبداع لصالح الولاء الأعمى. وكل هذه المظاهر لا تقود إلا إلى الانهيار التدريجي للبنية الاجتماعية، بحيث يصبح الاستقرار مجرد وهم، والتنمية شعارًا أجوف، والدولة هيكلًا هشًا لا يصمد أمام أي أزمة.
تُقاس المجتمعات المتقدمة ليس فقط بمدى تقدمها التكنولوجي أو اقتصادها المزدهر، بل بمدى احترامها لكرامة الإنسان. فالدول التي تؤمن بهذا المبدأ تُسخّر العلم والموارد لخدمة الإنسان، لا لاستعباده أو تهميشه. العدالة، التعليم الجيد، حرية التعبير، المساواة، والرعاية الاجتماعية، كلها تنبع من مبدأ واحد: أن كل إنسان يستحق الاحترام لمجرد كونه إنسانًا. إن كرامة الإنسان هي معيار النجاح الحقيقي، لأنها الأساس الذي يُبنى عليه السلم الاجتماعي، والابتكار، والمواطنة الفعّالة. وبدونها، يبقى كل نمو اقتصادي هشًا، وكل ديمقراطية مفرغة من مضمونها، وكل إصلاح شكليًا وسرعان ما ينهار. فالمجتمع الذي يُعلي من كرامة أفراده، هو وحده القادر على بناء مستقبل مزدهر وعادل للجميع.

2. فشل الأنظمة القمعية في بناء مجتمعات مستقرة
الأنظمة التي تقوم على إذلال الإنسان لا تدرك أنها تحفر قبرها بيدها. إذلال الإنسان يعني خنق كرامته وإسكاته وإجباره على التبعية. هذا النوع من الأنظمة قد يصمد ظاهريًا بفعل القمع والعنف، لكنه يبني حالة من الغليان الصامت تحت السطح. تتحول الدولة إلى سجن كبير، والمواطن إلى عبد. تتراكم مشاعر الحقد، ويُغيب الانتماء، وتتشكل هويات فرعية بديلة عن الهوية الوطنية. وكلما زادت أدوات القمع، كلما تعمق الشرخ بين السلطة والمجتمع. وبالتالي، تصبح الدولة عاجزة عن ضمان أمنها واستقرارها، وتبدأ بوادر الانهيار من الداخل، سواء عبر الانقلابات، الثورات، أو الانهيار الاقتصادي.
حين يفقد الإنسان حريته وكرامته، يفقد أيضًا حافزه للإبداع والمبادرة. الأنظمة التي تكرّس الإهانة والخضوع لا تنتج إلا التكرار والجمود. الإنسان المقهور لا يبتكر، لا يغامر، ولا يؤمن بجدوى أي فعل. وتفقد المجتمعات المحكومة بالقمع قدرتها على التطور الذاتي، لأنها تُنتج مواطنين خائفين، سلبيين، وغير مشاركين في بناء الوطن. كما يُقتل الحس النقدي، ويُحاصر التفكير المستقل، ويُغتال الفن والأدب والفكر الحر. وهذه النتائج لا تُعطل التنمية فحسب، بل تفرغ الحياة من المعنى. فالمجتمع الذي يستهين بكرامة الفرد، يستهين بمستقبله، ويُقايض الأمن الزائف بالموت البطيء.
الديمقراطية الحقيقية لا يمكن أن تُبنى دون احترام كرامة الإنسان. فاحترام الكرامة هو ما يُرسخ الثقة بين المواطن والدولة، ويُشجع على المشاركة السياسية الفعّالة، ويُعزز شعور الفرد بالمسؤولية تجاه مجتمعه. وفي الدول التي تحترم مواطنيها، نجد تداولًا سلميًا للسلطة، وقوانين تحمي الحريات، وآليات رقابة تضمن الشفافية. أما حين تُهدر الكرامة، تتحول الدولة إلى عصابة، والسياسة إلى صراع دموي على السلطة. كل من يريد الاستقرار الحقيقي، عليه أن يبدأ بإعادة الاعتبار لكرامة الإنسان، لأنها الركيزة التي يُبنى عليها كل عقد اجتماعي متين.
3. الكرامة في وجه الاستغلال الاقتصادي والاجتماعي
في كثير من المجتمعات، يُعامل الإنسان كأداة إنتاج لا ككائن له حقوق. تُنتهك كرامته عبر ظروف العمل المهينة، الأجور المتدنية، وغياب الضمانات. في حين أن العمل يجب أن يكون مصدرًا للكرامة، لا وسيلة لإذلال الإنسان. المجتمعات التي تُهدر كرامة العمال تعاني من التوتر الاجتماعي، والإضرابات، ونزيف الكفاءات. فغياب العدالة الاقتصادية يؤدي إلى اتساع الهوة بين الطبقات، ويُضعف الانتماء الوطني. أما احترام العامل فيُنتج ولاءً، وإبداعًا، واستقرارًا اقتصاديًا. الكرامة هنا لا تعني فقط احترام الإنسان، بل خلق بيئة إنتاجية سليمة، تُثمر نموًا اقتصاديًا متينًا.
الفقر ليس فقط نقصًا في الموارد، بل هو نتيجة مباشرة لنظم تستبيح كرامة الإنسان. عندما تُمنع الطبقات الفقيرة من فرص التعليم والرعاية الصحية والسكن اللائق، فإن المجتمع بأكمله يدفع الثمن. يعيش الفقراء في هوامش المدن، معزولين، مقهورين، ومُهانين، وهذا ما يُعزز الجريمة، التطرف، والهجرة. احترام كرامة الفقير يعني منحه الفرص، لا التصدق عليه. يعني إدماجه في الاقتصاد والسياسة والثقافة، لا تهميشه أو شيطنته. المجتمعات التي تضمن للفقراء كرامتهم، تضمن استقرارها وأمنها وازدهارها.
يلعب الإعلام والتعليم دورًا مركزيًا في بناء الوعي بكرامة الإنسان. الإعلام المسؤول لا يُشيطن الفئات المهمشة، ولا يُبرر الإذلال، بل يُسلّط الضوء على قضايا الإنسان الحقيقية. والتعليم الحقيقي يُربّي على التفكير الحر، لا على الطاعة العمياء. حين يُصبح الإعلام أداة سلطة، والتعليم وسيلة لإنتاج القطيع، تُغتال الكرامة من الجذور. أما حين يكونان حُرّين ومسؤولين، فهما يصنعان مواطنًا قادرًا على الدفاع عن نفسه، وعلى بناء وطن يُحترم فيه الجميع. لا نهوض بدون إعلام شريف وتعليم إنساني يُعيد للكرامة معناها ومكانتها.

4. لبنان كمثال حي على فشل احترام الكرامة
في لبنان، تُنتهك كرامة الإنسان يوميًا بطرق مباشرة وغير مباشرة، حتى باتت الإهانة جزءًا من الحياة اليومية. من ساعات الانتظار أمام محطات البنزين، إلى الذل في طوابير الخبز والدواء والمصارف، يواجه المواطن مشاهد لا تليق بإنسان. السلطة لا تكتفي بالفشل في تأمين أبسط حقوقه، بل تمارس عليه عنفًا نفسيًا واجتماعيًا متواصلًا، وكأنها تقول له: “لست مهمًا”. يُعامل المواطن كرقم في معادلة انتخابية أو كأداة للزبائنية السياسية، لا ككائن له حق بالحياة الكريمة. كل أجهزة الدولة، من الإدارة إلى الأمن إلى القضاء، تمارس اللامبالاة أو التواطؤ، وكأن الإنسان اللبناني أقل شأنًا من أن يُحترم أو يُستمع إليه. هذه الممارسات ليست عشوائية، بل تعكس ذهنية سلطة لا ترى في الناس إلا رعايا خانعين.
حين تُنتهك كرامة المواطن بشكل يومي، يتشوه وعيه وتنهار ثقته بالمؤسسات، بل بنفسه أحيانًا. يتحول الغضب إلى لا مبالاة، والتمرد إلى انسحاب، والمطالبة إلى صمت. يشعر اللبناني بأنه منسي، متروك، بلا قيمة، وهذا ما يؤدي إلى عزوف جماعي عن السياسة، ضعف المشاركة المدنية، وانتشار ثقافة “الخلاص الفردي”. يُصبح الهروب من الوطن هو الطموح الأول، لا الإصلاح. ومن يبقى، يعيش في دوامة من الإذلال اليومي، تجرده من أي إحساس بالانتماء. يُقتل الحس الجماعي، وتضعف الروابط الاجتماعية، ويغيب الشعور بالمسؤولية. بهذا المعنى، فإن انهيار لبنان لم يبدأ بانفجار المرفأ أو بانهيار العملة، بل بدأ يوم صار إذلال المواطن عادة سياسية مألوفة.
لا يمكن لأي مشروع إنقاذي في لبنان أن ينجح إذا لم ينطلق من إعادة الاعتبار لكرامة الإنسان. يجب أن يكون احترام المواطن محور كل السياسات العامة: من الصحة إلى التعليم إلى القضاء إلى الاقتصاد. لا إصلاح ممكن دون إعادة الثقة بين الدولة والمواطن، وهذه الثقة لا تُبنى بالكلام، بل بالأفعال: بتأمين الحقوق، بمحاسبة الفاسدين، بحماية الضعفاء، وبتكريس القانون لا الطائفية. يجب أن تتحول الكرامة من شعار إلى ممارسة، من بند في الدستور إلى ثقافة حاكمة. إن النهوض الحقيقي لا يتم إلا حين يشعر اللبناني بأنه محترم، مسموع، قادر، وحر. عندها فقط نستطيع القول إن لبنان بدأ طريقه نحو الاستقرار، لأن كرامة المواطن ليست تفصيلًا، بل حجر الزاوية لأي وطن.
5. الدين والمجتمع الأهلي في لبنان – بين حماية الكرامة وتكريس الإذلال
رغم أن الدين في جوهره رسالة رحمة وتكريم للإنسان، إلا أن الواقع اللبناني يُظهر كيف تحوّل الخطاب الديني أحيانًا إلى وسيلة لضبط الجماهير وتبرير القهر. الكثير من القيادات الدينية وقعت في فخ التحالف مع السلطة، وأصبحت تُسوّق للذل بوصفه “صبرًا”، وللخضوع بوصفه “رضا”. وبدل أن تكون منابرها صدى لآلام الناس، أصبحت منصات تبرير للعجز والفساد، أو دعامات لمنظومات طائفية تقتل كل ما هو إنساني وحر. الخطير أن بعض المؤسسات الدينية تغلّف خطابها بعبارات مقدّسة تخدّر العقول، وتمنع المواطن من الاحتجاج وكأن الثورة على الظلم كفر. وبينما يُفترض أن الدين يُعلي من كرامة الإنسان، يُستغل أحيانًا لإخماد أي روح تحررية، مما يجعل المواطن يشعر بأن الإهانة “مكتوبة عليه” باسم القدر أو المشيئة. وهنا يتشوه الدين وتُهان الكرامة معًا.
يلعب المجتمع الأهلي في لبنان دورًا مهمًا في التخفيف من معاناة الناس والدفاع عن حقوقهم، لكنه لا يزال عاجزًا عن إحداث التغيير البنيوي المطلوب. عشرات الجمعيات تتحدث عن حقوق الإنسان، تنظم حملات دعم للفقراء، وتُطلق شعارات ضد الفساد، لكنها محكومة بتمويل خارجي أو محدودة التأثير ضمن نطاقات ضيقة. بعض هذه الجمعيات أيضًا تحوّلت إلى واجهات لمشاريع سياسية أو طائفية، مما أفقدها صدقيتها. ومع ذلك، فإن الدور التوعوي لبعض الحركات المدنية – خصوصًا بعد انتفاضة 17 تشرين – أعاد النقاش حول كرامة الإنسان إلى الواجهة. إلا أن غياب التنسيق، ضعف الاستقلالية، ومحدودية النفوذ السياسي، يجعل تأثير هذه المبادرات غير مستدام. ومع أن المجتمع المدني هو أمل حقيقي، إلا أن هذا الأمل يحتاج إلى بيئة تشريعية وحقوقية تحميه ليتمكن من الدفاع الفعلي عن كرامة المواطن اللبناني.
لا يمكن استرجاع كرامة الإنسان في لبنان إلا من خلال شراكة فعلية بين القوى الدينية الواعية، والمجتمع المدني الحقيقي، والمواطن المُبادر. يجب على القيادات الدينية أن تستعيد وظيفتها الأصلية: حماية الإنسان من الظلم، لا تبريره. ويجب أن تتوقف عن تبرئة السلطة وإدانة الضحية. في المقابل، يجب على المجتمع المدني أن يخرج من منطق الإغاثة الطارئة إلى مشروع سياسي أخلاقي متكامل، يتصدّى للمنظومة التي تهين الناس يوميًا. أما المواطن، فعليه أن يرفض كل سلطة تُذله، دينية كانت أو سياسية، وأن يطالب بحقه في العيش الكريم من دون خجل أو خوف. فاستعادة الكرامة ليست مهمة طبقة أو فئة، بل مشروع تحرر شامل يحتاج إلى وعي جماعي، شجاعة، وتضامن. فقط عندما تتحد هذه القوى الثلاث، يمكن للبنان أن ينهض من رماده، ويبني وطنًا يحترم الإنسان كإنسان.
6. الخاتمة: من الذل إلى النهضة – خيار الكرامة أو الفناء
لقد بيّن هذا المقال، عبر محاوره المتعددة، كيف أن غياب احترام كرامة الإنسان لا يؤدي فقط إلى انتهاك فردي لحقوق المواطنين، بل إلى انهيار شامل لمنظومة الدولة والمجتمع. لبنان، بتجربته المأساوية، يُجسّد بدقة ما قصده سولجنيتسين: فحين تتآكل كرامة الإنسان بفعل الفقر، الفساد، الطائفية، والاحتقار المنهجي من قبل السلطة، ينهار الاقتصاد، وتُفكك المؤسسات، وتتفسخ القيم، ويهرب الإنسان من وطنه أو من نفسه. الحل لا يكمن في ترقيع السياسات أو استبدال وجوه بوجوه، بل في تغيير جذري لمنظومة القيم التي تُنظم العلاقة بين الدولة والمواطن. يجب أن تصبح كرامة الإنسان هي المعيار الأول في كل قرار، والخط الأحمر الذي لا يُمس. وعليه، فإن طريق الخلاص في لبنان لا يبدأ من صندوق الاقتراع فقط، بل من لحظة وعي جماعي بأن لا حياة بلا كرامة، ولا وطن لمن يُذل أهله. إما أن نعيد الاعتبار للإنسان، أو نستمر في سقوطنا نحو القاع.