للاعلام دور
د. الياس ميشال الشويري
يقول جبران خليل جبران: “لا تستغرب أن وجدت الشر في المكان الذي زرعت فيه الخير، فهناك أراضٍ لا تصلح للزراعة“! تعكس هذه المقولة رؤية فلسفية واجتماعية عميقة حول العقبات التي تواجه التغيير الإيجابي، خصوصًا في المجتمعات التي يغلب عليها الفساد والانحطاط الأخلاقي. في السياق اللبناني، تبدو هذه الحكمة أكثر صلة بالواقع من أي وقت مضى، حيث نجد أن محاولات الإصلاح والنهضة تصطدم بجدران المحسوبية والطائفية والانتهازية السياسية.
في هذا المقال، سنناقش أبعاد هذه المقولة عبر ثلاثة محاور رئيسية: أولًا، البعد الفلسفي والنفسي للحكمة وتأثيرها على السلوك الإنساني؛ ثانيًا، انعكاسها على الواقع اللبناني سياسيًا واجتماعيًا؛ وأخيرًا، الاستراتيجيات الممكنة لنشر الخير في بيئة تبدو معادية له.

- البعد الفلسفي والنفسي لحكمة جبران
أ-مفهوم الخير والشر في الفكر الفلسفي وعلاقته بالواقع اللبناني. تناول الفلاسفة الكبار مثل أفلاطون، أرسطو ونيتشه، مفهوم الخير والشر، حيث رأى أفلاطون أن الخير مرتبط بالحقيقة والمعرفة، بينما ركّز نيتشه على نسبية الأخلاق وتأثرها بالقوة والسلطة. في لبنان، نجد أن الخير كثيرًا ما يكون ضحية لميزان القوى، حيث تفرض المصالح السياسية والاقتصادية واقعًا يعرقل انتشار القيم الإيجابية، وكأن الأرض اللبنانية غير مهيأة لاستقبال الإصلاح.
ب-الأثر النفسي لعدم تقدير الخير في لبنان. من الناحية النفسية، يعاني اللبنانيون الذين يحاولون نشر النزاهة والشفافية من الإحباط بسبب ردود الفعل السلبية التي يواجهونها. يشير علم النفس الاجتماعي إلى أن التعرّض المتكرّر للفساد والظلم قد يؤدّي إلى ظاهرة “العجز المكتسب“، حيث يشعر الأفراد بعدم جدوى المحاولة، ممّا يساهم في ترسيخ الوضع القائم بدلاً من تغييره.
ج-هل الفساد في لبنان فطري أم مكتسب؟ يطرح البعض تساؤلًا مهمًا: هل الفساد والانتهازية اللذان تسودا المشهد اللبناني هما جزء من طبيعة المجتمع، أم أنهما مكتسبان نتيجة ظروف سياسية واقتصادية معينة؟ يشير علماء الاجتماع إلى أن الفساد ليس صفة أصيلة، بل هو نتاج بيئة مهيمنة على الأفراد، حيث يتّم تعزيز السلوك الانتهازي عبر شبكات المحسوبية والزبائنية السياسية، ممّا يجعل محاولات نشر الخير تصطدم بتربة عقيمة غير قادرة على استيعابه.
- انعكاسات الحكمة على الواقع اللبناني
أ-المجتمع اللبناني بين التقبّل والرفض للقيم الإيجابية. لطالما كان لبنان بلد التناقضات، فهو يضم أفرادًا يطمحون إلى التغيير والتقدّم، لكنه في الوقت ذاته يخضع لنظام سياسي مبني على الطائفية والمحسوبيات. في هذه البيئة، يُنظر غالباً إلى أصحاب المبادئ على أنهم مثاليون أو ساذجون، بينما يزدهر الانتهازيون، ما يجعل الخير في كثير من الأحيان غير مُقدّر أو مرحّب به.
ب-لماذا لا تنجح مشاريع الإصلاح في لبنان؟ على مر العقود، شهد لبنان مبادرات إصلاحية عديدة، سواء عبر حركات مدنية، أو شخصيات سياسية حملت لواء التغيير. لكن في كل مرة، يتم إحباط هذه المحاولات بسبب مقاومة المنظومة الحاكمة الفاسدة، التي تعمل جاهدة للحفاظ على نفوذها من خلال تعطيل أي مسار إصلاحي. هذه الحالة تعكس بالضبط مقولة جبران، حيث يبدو أن الخير لا يمكن أن ينمو في تربة مسمومة بالفساد والطائفية.
ج-هل يمكن تغيير “التربة اللبنانية”؟ رغم التحديات، يبقى السؤال مطروحًا: هل يمكن تهيئة لبنان ليصبح أرضًا صالحة لاستقبال التغيير؟ الجواب ليس بسيطًا، لكن التجارب التاريخية تشير إلى أن المجتمعات يمكن أن تتغيّر عندما تتوفر الإرادة الشعبية والتوعية المستمرة. قد يكون الحل في تبنّي استراتيجية طويلة الأمد تعتمد على تثقيف الأجيال الجديدة وتعزيز قيم النزاهة والمساءلة.

- استراتيجيات نشر الخير رغم التحديات في لبنان
أ-الانتقائية في العطاء والتأثير. عوضًا عن إضاعة الجهود في بيئات غير مهيأة للتغيير، يمكن التركيز على الفئات القابلة للتحول، مثل الشباب والطلاب والمجتمعات المدنية التي لم تتلوث بعد بفساد النظام السياسي. يمكن أن يكون لهذه الفئات تأثير مضاعف إذا تم تمكينها بالمعرفة والموارد اللازمة.
ب-بناء مجتمعات صغيرة داعمة للخير في لبنان. بدلًا من انتظار تغيير شامل يصعب تحقيقه، يمكن للمصلحين ورواد التغيير بناء شبكات صغيرة من الأفراد الملتزمين بالنزاهة. هذه “الواحات الأخلاقية” قد تنمو تدريجيًا وتتحول إلى نواة تغيير أكبر، ما يسمح بزراعة الخير في بقع أكثر خصوبة داخل المجتمع اللبناني.
ج-دور التعليم والإعلام في تغيير الذهنية اللبنانية. يبقى التعليم والإعلام من أهم الأدوات في إعادة تشكيل وعي المجتمع اللبناني. يجب أن تركز المناهج التعليمية على تعزيز التفكير النقدي وروح المسؤولية المدنية، بينما يتوجب على الإعلام أن يتبنى خطابًا يكرّس النزاهة والشفافية بدلًا من تكريس واقع الفساد والمحسوبيات.

- الخاتمة
تعد مقولة جبران خليل جبران مرآة تعكس واقعًا مريرًا يعيشه لبنان اليوم، حيث تواجه محاولات التغيير والإصلاح عقبات متجذرة تجعل من الصعب تحقيق التقدّم. إلا أن هذا لا يعني الاستسلام، بل يستوجب التفكير بذكاء في كيفية زراعة الخير في الأماكن المناسبة، وتجنّب إضاعة الجهود في بيئات معادية له. يمكن أن يكون المستقبل أكثر إشراقًا إذا تم توجيه الطاقات نحو الفئات القادرة على التغيير، والاستثمار في التعليم والإعلام كأدوات لإعادة تشكيل المجتمع اللبناني على أسس أكثر نزاهة وعدالة.
في النهاية، قد لا تكون كل الأراضي صالحة للزراعة، لكن هذا لا يعني أن نتوقف عن البحث عن التربة الخصبة حيث يمكن للخير أن ينمو ويزدهر.