جبرائيل مبشّرا السيدة العذراء في صورة رمزية
د. الياس ميشال الشويري
عيد البشارة هو واحد من أهم الأعياد المسيحية، إذ يشكل نقطة تحول في تاريخ البشرية، حيث تجسّد التدخل الإلهي في العالم بطريقة لم يسبق لها مثيل. ففي لحظة البشارة، لم يعد الله فكرة بعيدة أو مفهوماً غامضاً، بل صار قريباً، متجسداً في أحشاء العذراء مريم، فاتحاً باب الخلاص أمام البشرية. هذا الحدث العظيم لا يمكن فصله عن تدبير الله للخلاص، حيث شاء أن يدخل التاريخ من خلال فتاة متواضعة في الناصرة، ليبدأ تحقيق وعده للبشرية بفداء الإنسان وتجديد علاقته مع الخالق.
- البشارة كتدخل إلهي في التاريخ
تُعتبر البشارة الحدث الذي جسّد اقتراب الله من الإنسان بطريقة غير مسبوقة. فعندما أرسل الله رئيس الملائكة جبرائيل إلى العذراء مريم، لم يكن ذلك مجرّد إبلاغ برسالة، بل كان إعلاناً لبدء عهد جديد في العلاقة بين الله والإنسان. كما يوضح القديس كيرلس الإسكندري، “في لحظة البشارة، لم تعد السماء بعيدة عن الأرض، بل صارت السماء في أحشاء العذراء“. لقد أصبحت مريم جسراً بين السماء والأرض، وسرعان ما صار الإله إنساناً لكي يؤلّه الإنسان. في هذا المشهد، تتجلّى عظمة البشارة كمحطة فاصلة في مسيرة الخلاص، حيث تحقق التجسد الإلهي واندمج الإلهي بالبشري.
البشارة ليست مجرّد ذكرى أو حدث تاريخي، بل هي حقيقة مستمرة تدعونا إلى إدراك أن الله ليس بعيداً عن حياتنا، بل هو “عمانوئيل“، أي “الله معنا” (متى 1: 23). هذا الحضور الإلهي في وسط العالم لا يقتصر على زمن معين، بل يستمر عبر التاريخ، داعياً كل إنسان إلى التأمّل في مدى استعداده لاستقبال الله في حياته، كما استقبلته مريم في أحشائها الطاهرة.
- موقف العذراء مريم: الطاعة في الإيمان والثقة المطلقة بالله
إن موقف العذراء مريم في لحظة البشارة هو من أكثر المواقف الروحية التي تدهش القارئ المتأمل في النصوص المقدسة. فعندما خاطبها الملاك جبرائيل بالبشارة العظيمة، لم تسأل كيف ولماذا، ولم تضع شروطاً، بل قالت بكل تواضع وثقة: “أَنا أَمَةُ الرَّبّ فَليَكُنْ لي بِحَسَبِ قَوْلِكَ” (لوقا 1: 38). بهذه الكلمات، لم تغيّر مريم مصيرها الشخصي فحسب، بل قلبت موازين التاريخ، إذ أظهرت أعظم درجات الطاعة في الإيمان.
إن هذه الطاعة ليست مجرّد خضوع أعمى، بل هي ثقة كاملة بمشيئة الله، إدراك بأن مشيئته تحمل الخير المطلق. كما يعبّر القديس أوغسطينوس عن ذلك بقوله: “لقد حملت مريم المسيح في جسدها، ولكن قبل ذلك حملته في قلبها بالإيمان“. هذه الثقة المطلقة بالله، التي جعلت مريم تقول “ليكن لي بحسب قولك“، تضعنا أمام تحدٍّ روحي: هل نمتلك نحن أيضاً هذا الإيمان العميق، الذي يجعلنا ننفتح على دعوة الله دون خوف أو تردّد؟ أم أننا نضع شروطاً ونبحث عن ضمانات قبل أن نستجيب لنداء الله في حياتنا؟
- البشارة والتجسد: الحقيقة التي تفسر معنى الحياة البشرية
إن البشارة ليست مجرّد حدث لاهوتي عابر، بل هي إعلان عن حقيقة جوهرية تمسّ كيان الإنسان. من خلال التجسد، صار الله إنساناً لكي يعيد الإنسان إلى كرامته الأصلية، ولكي يجعله ابناً لله بالنعمة. وكما قال القديس إيريناوس: “صار ابن الله ابن الإنسان، لكي يجعلنا نحن أبناء الله“. إن هذه العبارة تختصر الهدف الأسمى للتجسّد، وهو إعادة الإنسان إلى حالة الاتحاد بالله التي فقدها بسبب الخطيئة.
هذا الحدث العظيم يدعونا إلى إعادة النظر في مفهومنا عن الحياة، فالتجسّد لم يكن مجرّد ولادة للمسيح بالجسد، بل هو أيضاً تجديد للإنسان وإعادة تشكيل هويته الروحية. من خلال البشارة، يظهر أن الله ليس منفصلاً عن البشر، بل هو القريب، المشارك في معاناتهم، والساعي إلى خلاصهم.
- البشارة كدعوة شخصية لكل مؤمن
البشارة لم تكن فقط دعوة موجهة إلى العذراء مريم، بل هي دعوة لكل إنسان لكي يكون مستعداً لاستقبال الله في حياته. إن الله لا يزال يرسل بشاراته إلى العالم، لكن السؤال الأساسي هو: هل نحن مستعدون لقبول هذه الدعوة بنفس الطاعة والإيمان اللذين أظهرتهما العذراء مريم؟
هذا الحدث العظيم يعكس حقيقة أن الله يعمل في التاريخ من خلال أشخاص بسطاء، وأنه يدعو كل واحد منا ليكون أداة في يديه من أجل تحقيق مشيئته في العالم. إن موقف مريم يعطينا مثالاً حياً عن كيفية التفاعل مع دعوة الله، بعيداً عن الشكوك أو الحسابات الشخصية.
- الخاتمة: البشارة كحدث متجدّد في حياتنا
عيد البشارة ليس مجرّد ذكرى نحتفل بها سنوياً، بل هو نداء دائم لكل مؤمن لكي يفتح قلبه لله ويقبل مشيئته بثقة كاملة. إنه حدث يدعونا إلى التأمّل في علاقتنا مع الله، وإلى التساؤل: هل نقبل مشيئته كما قبلتها مريم؟ هل نعيش إيماننا بثبات، أم أننا نضع شروطاً على استجابتنا لدعوته؟
البشارة هي إعلان عن دخول الله إلى تاريخ البشرية، لكن الأهم من ذلك هو دخول الله إلى حياتنا الشخصية. وكما حملت العذراء مريم الرب يسوع المسيح في أحشائها، نحن أيضاً مدعوون لأن نحمله في قلوبنا، وأن نجعل حياتنا شهادة حية لحضوره بيننا.