من حرب 1975
د. الياس ميشال الشويري
لبنان يجسد تعقيدات الهوية والانتماء في منطقة متشابكة بالتاريخ والثقافة والسياسة. منذ استقلاله عام 1943، وجد لبنان نفسه في قلب الصراعات الإقليمية، ليس فقط بسبب موقعه الجغرافي، ولكن أيضًا نتيجة لتعدّد طوائفه الدينية وتياراته السياسية المتباينة. في هذا السياق، برزت العروبة كمشروع سياسي وثقافي يسعى لتحقيق الوحدة العربية والتكامل بين دول المنطقة. إلاّ أن هذا المشروع واجه في لبنان عقبات كبيرة، فبينما كانت العروبة تمثّل حلمًا لبعض اللبنانيين، أصبحت مصدرًا للتوتّر والانقسام لدى آخرين. هذا المقال يهدف إلى تسليط الضوء على مأساة لبنان مع العروبة، وتبيان التداعيات السياسية، الاجتماعية، والثقافية التي أثرت في تاريخ ومستقبل هذا البلد.
- السياق التاريخي للعروبة في لبنان.
-الجذور التاريخية للعروبة في لبنان. العروبة كفكرة سياسية وقومية بدأت في الظهور في أوائل القرن العشرين، حيث كانت المنطقة العربية تحت الحكم العثماني، ثم تعرّضت للاستعمار الأوروبي. المفكرون العرب في تلك الفترة، بما في ذلك اللبنانيون، تأثروا بتوجهات النهضة الأوروبية والثورة على الاستعمار، ودعوا إلى استعادة الهوية العربية وبناء وحدة عربية شاملة. لعب المفكرون اللبنانيون دورًا بارزًا في هذه النهضة الثقافية، مع التركيز على الهوية العربية المشتركة كوسيلة للتحرّر من الاستعمار وتحقيق التنمية.
في لبنان، كانت العروبة تأخذ أبعادًا مختلفة بحسب التوجّهات السياسية والطائفية. بينما دعمت بعض الطوائف والأحزاب السياسية العروبة كجزء من الهوية الوطنية اللبنانية، كانت طوائف أخرى تخشى أن تؤدي العروبة إلى هيمنة أطراف معينة في الصراع الإقليمي. هذا الصراع في المفاهيم كان واضحًا في الخطابات السياسية والمجتمعية في لبنان.
-تأسيس الدولة اللبنانية. بعد نهاية الانتداب الفرنسي في 1943، تمّ تأسيس لبنان كدولة مستقلة بناءً على ميثاق وطني يعتمد على توافق طائفي بين المسيحيين والمسلمين. في هذا السياق، تمّ إقرار أن لبنان هو “ذو وجه عربي“، وهي عبارة تحمل مرونة في التفسير بين تيارين: الأول يرى لبنان جزءًا من الأمة العربية الكبرى، والثاني يرى فيه دولة مستقلة تحتفظ بهويتها الفريدة. التحدّي هنا كان في محاولة تحقيق التوازن بين رغبة العروبيين في تعزيز الروابط مع الدول العربية الأخرى، وبين القلق من احتمال ضياع الهوية اللبنانية المتميزة وسط مشروع الوحدة العربية.
-مرحلة القومية العربية بعد 1945. بعد تأسيس جامعة الدول العربية عام 1945، ظهر زخم كبير في الشرق الأوسط يدعو للوحدة العربية، خاصة مع صعود نجم الرئيس المصري جمال عبد الناصر الذي تبنّى فكرة القومية العربية بشغف. لبنان كان تحت تأثير هذه الحركة القومية، لكن الانقسام الداخلي بين مؤيدي العروبة ومعارضيها أخذ في التزايد. كان التيار القومي العربي بقيادة أحزاب مثل الحزب السوري القومي الاجتماعي وحركة القوميين العرب يطمح لتحقيق تكامل أوسع مع الدول العربية، فيما فضلت أطراف أخرى، خصوصًا من بعض الطوائف المسيحية، التركيز على الحفاظ على الاستقلال السياسي والثقافي للبنان.
- التداعيات السياسية لمأساة العروبة في لبنان.
-صراع الهويات السياسية. أدّت التوجهات المتباينة نحو العروبة إلى صراعات سياسية داخلية كبيرة. خلال الستينيات والسبعينيات، ظهرت حركات قومية تطالب بالتحاق لبنان بالركب العروبي الذي تقوده مصر وسوريا، فيما كانت هناك تيارات ترفض هذا الانتماء العروبي، معتبرة إياه تهديدًا للاستقلال اللبناني. صراع الهويات هذا كان أحد الأسباب الرئيسية لاندلاع الحرب الأهلية اللبنانية (1975-1990)، حيث انقسم المجتمع اللبناني بين معسكرات طائفية وسياسية متنافسة. المليشيات المختلفة التي انبثقت عن هذا الصراع سعت إلى تحقيق أجندات طائفية أو قومية ضيقة، ممّا أدّى إلى إضعاف المؤسسات الوطنية وتفتيت السلطة السياسية.
-انهيار الدولة وتفكّك مؤسساتها. خلال فترة الحرب الأهلية، فقدت الدولة اللبنانية قدرتها على إدارة شؤون البلاد، وتحولت السلطة إلى المليشيات الطائفية. كانت هذه المليشيات مدعومة في كثير من الأحيان من قبل دول عربية أو إقليمية، ممّا جعل لبنان ساحة حرب بالوكالة بين قوى إقليمية تتنافس على النفوذ. تفكّك المؤسسات الوطنية أدّى إلى حالة من الفوضى، حيث لم يعد من الممكن الوصول إلى توافق سياسي حول الدور الذي يجب أن تلعبه العروبة في الهوية اللبنانية.
-التدخلات الخارجية والتأثير الإقليمي. كانت التدخلات الخارجية في الشؤون اللبنانية إحدى أبرز نتائج الصراع حول الهوية العروبية. كل من سوريا وإسرائيل ودول الخليج وحتى إيران تدخلوا في لبنان بشكل مباشر أو غير مباشر، مستغلين الانقسامات الداخلية لتعزيز مصالحهم. هذا التدخّل الأجنبي زاد من تعقيد المشهد السياسي وأدّى إلى استمرار الصراع. فعلى سبيل المثال، اعتبرت سوريا أن الحفاظ على نفوذها في لبنان هو جزء من استراتيجيتها القومية العربية، بينما استخدمت إسرائيل النزاعات الطائفية لتحقيق مصالحها الأمنية.
- التداعيات الاجتماعية لمأساة العروبة في لبنان.
-التفكّك الاجتماعي والطائفي. مع اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية، أصبح الانقسام الطائفي أكثر وضوحًا، حيث تفكّك المجتمع اللبناني إلى مجتمعات طائفية صغيرة تتنافس فيما بينها. فقدت الفئات المختلفة الثقة ببعضها البعض، وزادت الكراهية والعداء بين الطوائف. أدّى هذا التفكّك إلى فقدان الشعور بالوحدة الوطنية، حيث باتت كل طائفة تسعى إلى تحقيق مصالحها الخاصة على حساب الهوية الوطنية الشاملة.
-الهجرة الجماعية والنزوح. الأزمات المتكررة في لبنان دفعت بالكثير من اللبنانيين إلى الهجرة بحثًا عن الأمان والفرص الاقتصادية. خلال الحرب الأهلية وبعدها، شهد لبنان هجرة جماعية للعقول والمواهب، ممّا أثّر سلبًا على التنمية الاقتصادية والاجتماعية. هذا النزيف المستمّر للموارد البشرية كان أحد أكبر التحديات التي واجهها لبنان، حيث أصبح من الصعب إعادة بناء البلد بدون هذه الكفاءات.
-تأثير النزاعات على النسيج الاجتماعي. النزاعات السياسية والعسكرية المتكرّرة في لبنان تركت أثرًا عميقًا على النسيج الاجتماعي. تراجعت روح التعايش والتعاون بين الطوائف، وحلّ محلها ثقافة العنف والانقسام. في ظل هذه الظروف، أصبح من الصعب تعزيز قيم الحوار والتفاهم بين مختلف فئات المجتمع اللبناني.
- التداعيات الثقافية لمأساة العروبة في لبنان.
-التباين الثقافي وتأثير العروبة. كان للانقسام السياسي حول العروبة تأثير كبير على الثقافة اللبنانية. بينما تبنّت بعض الطوائف الثقافة العربية كجزء من هويتها، كانت طوائف أخرى تحاول الحفاظ على خصوصيتها الثقافية. هذا التباين أدّى إلى ظهور تيارات ثقافية متضاربة، حيث حاول البعض تعزيز الهوية الثقافية العربية من خلال الأدب والفنون، فيما ركز آخرون على تعزيز الهوية اللبنانية المتميزّة والمتعددّة الثقافات.
-الفنون والإبداع في ظل الصراع. على الرغم من الفوضى السياسية والاجتماعية، شهدت لبنان في فترة ما بعد الحرب تطورًا ملحوظًا في مجال الفنون. الشعر، الموسيقى، والمسرح اللبناني أصبحت وسائل للتعبير عن مأساة الحرب والصراع، وكذلك عن الآمال والتطلعات لمستقبل أفضل. ورغم أن الفنون ساهمت في إعادة بناء بعض الجسور بين الطوائف المختلفة، إلا أنها لم تكن كافية لتوحيد الهوية الثقافية الوطنية.
-الهوية الثقافية في مواجهة العولمة. في السنوات الأخيرة، تزايدت تأثيرات العولمة على الثقافة اللبنانية، حيث بات لبنان يواجه تحديات جديدة تتعلّق بالحفاظ على هويته الثقافية في ظل الانفتاح على العالم الخارجي. هذا التحدّي يعقد المشهد أكثر في ضوء الصراعات المستمرّة حول العروبة والطائفية.
الخاتمة
تعد مأساة لبنان من العروبة مثالًا واضحًا على التحديات التي تواجه الدول التي تحاول تحقيق التوازن بين الهويات المتعددة والانتماءات الإقليمية. لقد أثرت العروبة على الهوية الوطنية اللبنانية بشكل عميق، لكنها كانت أيضًا مصدرًا للتوتر والانقسام. إن الخروج من هذه الأزمة يتطلّب تعزيز الحوار الوطني، والاعتراف بالتنوّع الطائفي والثقافي كقوة للبناء، وليس كمصدر للتفكّك. بالإضافة إلى ذلك، يجب على لبنان أن يعيد النظر في علاقاته الإقليمية والدولية بما يتناسب مع مصالحه الوطنية، وليس بما يفرضه التنافس الإقليمي والدولي.