د. الياس ميشال الشويري
لا يمكن لأي دولة أن تدّعي امتلاكها سيادة كاملة دون أن تكون هذه السيادة شاملة لكلّ أوجه الحياة الوطنية، ولا سيما السيادَتَيْن الاقتصادية والمالية. فالاكتفاء بالاستقلال السياسي أو الخطاب السيادي لا يكفي، إذا كانت مقدرات الدولة تُدار من خارج مؤسساتها، وإذا كانت هناك كيانات موازية تُقرض الناس، وتستثمر، وتتحكّم بالسيولة النقدية، خارج سلطة مصرف لبنان ووزارة المالية. من هنا، تبرز ظاهرة “القرض الحسن” كأحد أبرز الإشكاليات التي تُظهر بوضوح غياب السيادة الاقتصادية والمالية في لبنان، وتُسلّط الضوء على عمق الأزمة البنيوية في الدولة.
- مفهوم السيادة ومكوّناتها
أ-السيادة السياسية: وهي الأساس الذي تُبنى عليه الدول المستقلة. إنها تعني قدرة الدولة على اتخاذ قراراتها الداخلية والخارجية بحرية تامة، دون أي تدخل خارجي أو ضغوط إقليمية أو دولية. في الحالة اللبنانية، ورغم انسحاب الاحتلالات المباشرة، فإن التدخلات الإقليمية ما زالت مؤثرة، والقرار السياسي في كثير من الأحيان يُتخذ خارج المؤسسات الدستورية، ما يثير تساؤلات جوهرية حول مدى تحقق السيادة السياسية الحقيقية التي لا تقتصر فقط على الدفاع أو العلاقات الخارجية، بل تشمل أيضًا قدرة الدولة على فرض القانون، حماية حدودها، وإدارة شؤونها الداخلية من دون نفوذ أو سلاح غير شرعي. فإذا كانت هناك قوى داخلية تمتلك أدوات ضغط مادية وعسكرية تفوق الدولة، فإن ذلك يفرغ السيادة من مضمونها.
ومن هنا، تصبح الحاجة ملحة لإعادة الاعتبار للشرعية الدستورية، وتقوية المؤسسات، وتثبيت احتكار الدولة لاستخدام القوة، كشرط أساسي لتحقيق السيادة السياسية الفعلية.
ب-السيادة الاقتصادية: السيادة الاقتصادية هي قدرة الدولة على التحكّم بمواردها الاقتصادية، وتوجيهها نحو التنمية المستدامة والعدالة الاجتماعية. وهي تقتضي وجود مؤسسات مالية قوية، وسياسات ضريبية عادلة، ومشاريع إنتاجية وطنية. في لبنان، يُعاني الاقتصاد من هيمنة الريع، والفساد، وغياب التخطيط المركزي، ما يُفقد الدولة سيطرتها على مفاصل الاقتصاد.
ان تفكك الاقتصاد اللبناني بعد الحرب الأهلية، والتحول إلى اقتصاد استهلاكي وخدمَتَيْ يعتمدان على التحويلات الخارجية والديون، مما جعله عرضة للصدمات الخارجية والداخلية على حد سواء. غياب الرؤية الاقتصادية الوطنية، واعتماد الاقتصاد على المصالح الحزبية والطائفية، جعلا من السيادة الاقتصادية شعارًا لا مضمون له.
ولا يمكن إعادة بناء السيادة الاقتصادية من دون إصلاح جذري في البنية الاقتصادية، يشمل تحديث القطاعات الإنتاجية، وإرساء الشفافية والمحاسبة، وتعزيز دور الدولة الرقابي والتنظيمي.
ج-السيادة المالية: تُشكّل السيادة المالية البُعد الأخطر في السيادة الوطنية، إذ تعني قدرة الدولة على إدارة نظامها المالي والنقدي بكفاءة وشفافية. ويشمل ذلك وضع السياسات المالية، تنظيم القطاع المصرفي، فرض الضرائب، وضبط حركة الأموال. في لبنان، الدولة فاقدة السيطرة على هذه الجوانب، حيث تنتشر مؤسسات مالية غير رسمية، وتُستخدم الأموال السياسية والطائفية في التحكم بالمجتمع.
مصرف لبنان، الذي يُفترض أن يكون الجهة المستقلة التي تضبط السياسات النقدية، تورّط في تغطية العجز والفساد، وأصبح جزءًا من الأزمة بدل أن يكون جزءًا من الحل. كما أن تراجع الرقابة على التحويلات المالية، وظهور مؤسسات مالية غير مرخصة، ساهما في ضرب السيادة المالية بشكل مباشر. لذلك، فإن استعادة السيادة المالية تتطلب إعادة هيكلة النظام المصرفي، إخضاع المؤسسات المالية لرقابة مشددة، ووضع سياسات نقدية شفافة تعيد الثقة إلى النظام المالي الرسمي.
- غياب السيادة الاقتصادية والمالية في لبنان
أ-الفوضى في النظام المصرفي: شهد لبنان في السنوات الأخيرة انهيارًا غير مسبوق في القطاع المصرفي، حيث حُجزت ودائع الناس دون مسوغ قانوني واضح، وانكشف تورّط المصارف في تمويل الدولة وسد العجز من ودائع الناس. هذه الفوضى المصرفية دمرت الثقة بالنظام المالي، وأدت إلى خلق بيئة مثالية لظهور مؤسسات مالية بديلة تعمل خارج الرقابة الرسمية.
غياب الحوكمة داخل المصارف، وتواطؤ بعض مجالس إداراتها مع الطبقة السياسية، ساهما في تهريب أموال الكبار وحرمان صغار المودعين من حقوقهم. في ظل هذه الأوضاع، لا يمكن الحديث عن سيادة مالية، طالما أن النظام المصرفي الرسمي نفسه لا يعمل وفق أسس قانونية ومحاسبية سليمة.
إن استعادة الثقة بهذا القطاع تمرّ عبر محاسبة الفاسدين، تطبيق المعايير الدولية في الشفافية، وفصل السياسة عن القطاع المصرفي بشكل نهائي.
ب-تراجع دور مصرف لبنان: مصرف لبنان لم يعد يمارس دوره كسلطة نقدية مستقلة، بل تحوّل إلى أداة طيعة بيد الطبقة السياسية. فقد استخدم لتمويل السياسات الريعية، وتغطية العجز المتراكم، وتثبيت سعر صرف غير واقعي لليرة لعقود، ما أدى إلى تآكل احتياطاته، وانهيار قدرته على التدخل في السوق.
غياب الشفافية عن ميزانيات المصرف المركزي، ورفضه فتح دفاتره للتدقيق الجنائي، يُعدان من أبرز الأدلة على سقوط السيادة المالية. فكيف يمكن لدولة أن تسيطر على مالها، إذا كانت تجهل حتى حجم خسائر مصرفها المركزي؟
إن استعادة هذا الدور تتطلب استقلالية حقيقية لمصرف لبنان، وتحديث إدارته، وربطه بخطط تنموية لا سياسات شعبوية.
ج-اقتصاد موازٍ خارج الرقابة: في ظل تراجع الدولة، برز اقتصاد غير رسمي قوي يشمل شبكات تهريب، تحويل أموال غير شرعية، ومؤسسات إقراض تعمل خارج القانون، مثل “القرض الحسن”. هذا الاقتصاد المزدوج يُفرّغ السياسات المالية والضريبية من فعاليتها، ويخلق حالة من التفاوت الاجتماعي العميق.
الاقتصاد الموازي لا يُهدد فقط المالية العامة، بل يُقوّض شرعية الدولة، لأنه يعيد توزيع الثروة بشكل غير عادل، ويُغذّي الولاءات الطائفية بدل الانتماء الوطني. كما أن هذا النوع من الاقتصاد يُستخدم لتمويل مشاريع تتعارض أحيانًا مع السيادة الوطنية.
مكافحة الاقتصاد الموازي تمرّ عبر تطبيق القانون، وتوسيع القاعدة الضريبية، وتوفير فرص عمل ضمن الاقتصاد الرسمي.
- القرض الحسن كنموذج لغياب السيادة
أ-ما هو “القرض الحسن”؟ هو مؤسسة مالية غير رسمية يُقال إنها تعمل وفق الشريعة الإسلامية، أي بمنطق إسلامي، دون فوائد، وتُقدّم قروضًا ضمن بيئة اجتماعية محددة. إلا أن هذه المؤسسة تُمارس نشاطًا ماليًا واسعًا من دون أن تكون خاضعة لرقابة مصرف لبنان أو وزارة المالية، ما يجعلها كيانًا موازيًا للنظام المالي الرسمي.
تكمن الخطورة في أن “القرض الحسن” لا يُفصح عن ميزانياته، ولا يُعرف مصدر أمواله، ولا كيف تُستخدم هذه الأموال. وبالتالي، فهي ليست فقط مؤسسة إقراض، بل أداة نفوذ سياسي وأمني، تتحرك بمنأى عن سلطة الدولة.
وجود مؤسسات كهذه يُشكّل انتهاكًا صريحًا لمفهوم السيادة، لأنها تحلّ محل الدولة في وظيفة سيادية بامتياز: إدارة المال والإقراض.
ب-الأثر على السيادة المالية: بسبب عملها خارج النظام الرسمي، تُساهم مؤسسة “القرض الحسن” في إضعاف المصارف اللبنانية، وخلق بيئة مالية غير متوازنة. فهي تستقطب الودائع، تُقرض الأفراد، وتُشارك في تمويل مشاريع، دون أي التزام بالقوانين أو المعايير المصرفية المعتمدة.
كما أنها تُمارس دورًا اقتصاديًا داخل بيئة محددة طائفيًا، ما يُعزّز الانقسام المجتمعي، ويُقوّض فكرة الدولة الواحدة. والأسوأ أنها تخلق نوعًا من “الاعتمادية” لدى أفراد المجتمع الذين يلجأون إليها بدلًا من الدولة، ممّا يُضعف العقد الاجتماعي.
ولا يمكن بناء دولة حديثة إذا لم تكن جميع المؤسسات المالية تحت رقابة واحدة، وتخضع للقانون ذاته.
ج-الخطر على النسيج الوطني: أخطر ما في وجود مؤسسات مالية موازية، مثل “القرض الحسن“، هو أنها تُكرّس مبدأ اللامساواة بين المواطنين، وتُعيد بناء الانتماء على أساس الولاء لا المواطنة. وهذا يُعيدنا إلى منطق “الدويلات داخل الدولة“، وهو ما دمّر لبنان تاريخيًا.
كل مؤسسة مالية تُدار على أساس طائفي أو سياسي هي قنبلة موقوتة تهدد وحدة الدولة. فالمواطن الذي يحصل على تمويل من مؤسسة حزبية، سيرى في هذه الأخيرة المرجع، لا الدولة. وهذا يُضعف الدولة من داخلها، ويمنع تطورها الطبيعي.
الحل ليس بمحاربة هذه المؤسسات فقط، بل بخلق بديل رسمي قوي وعادل، يُلبي حاجات الناس دون تمييز.
- السيادة الاقتصادية شرط للسيادة الوطنية
أ-الازدواجية في مفاهيم السيادة: يُعدّ الحديث عن السيادة في الخطاب السياسي اللبناني مليئًا بالتناقضات. فالبعض يُطالب بسيادة سياسية بينما يدعم مؤسسات مالية خارج سلطة الدولة. هذه الازدواجية تُضعف الخطاب الوطني، وتُفقده مصداقيته، لأنها تفصل ما لا يُفصل: السياسة عن الاقتصاد.
لا يمكن التحرّر من الاحتلال أو النفوذ الخارجي، إذا كانت الدولة رهينة اقتصادية لقوى داخلية أو خارجية تتحكّم بمواردها. السيادة الاقتصادية ليست ترفًا، بل أساس كل سيادة أخرى، وبالتالي، يجب أن يكون مشروع السيادة في لبنان مشروعًا اقتصاديًا-ماليًا بالدرجة الأولى، قبل أن يكون مجرّد شعار سياسي.
ب-بناء السيادة يبدأ من الاقتصاد: كل تجارب الدول الناجحة أثبتت أن السيادة تُبنى من خلال اقتصاد قوي، منتج، مستقّل، يُحقّق الاكتفاء الذاتي. في لبنان، حيث يتّم استيراد معظم المواد الأساسية، ويعتمد الاقتصاد على التحويلات والديون، تصبح السيادة مجرّد شعار بلا مضمون.
على الدولة أن تستعيد دورها كمنظم للاقتصاد، لا كمجرّد متفرّج. ويجب إطلاق خطة اقتصادية وطنية تُشارك فيها كل القوى، وتُعيد التوازن بين المناطق، وتُحفّز الإنتاج. فقط عندها يمكن الحديث عن سيادة وطنية حقيقية.
ج-تجاوز الشعارات إلى البناء الفعلي: اللبنانيون تعبوا من الشعارات الفارغة، ويريدون حلولًا ملموسة. استعادة السيادة لا تكون عبر المنابر، بل عبر بناء مؤسسات قوية، شفّافة، وعادلة. والسيادة الاقتصادية والمالية هي المدخل الحقيقي لذلك. من هنا على الحكومة أن تُبادر إلى تنظيم القطاع المالي، ومحاسبة المخالفين، ووقف المؤسسات غير المرخصة، وتقديم خدمات عادلة لكل المواطنين، بغض النظر عن انتماءاتهم.
فقط عبر دولة قوية اقتصادًا وماليًا، يمكن للبنان أن يُثبت سيادته، ويستعيد موقعه بين الأمم.
- الخاتمة
في لبنان، السيادة المزعومة لا تتعدّى كونها شعارات مفرغة من مضمونها إذا لم تُترجم إلى سيطرة حقيقية على الاقتصاد والمال. طالما أن هناك “قرضًا حسنًا” يُوزّع المال وفق أجندة غير وطنية، وطالما أن الدولة تغض الطرف عن الكيانات الموازية، فإن الحديث عن السيادة يبقى وهمًا. السيادة تبدأ من بناء الدولة العادلة، والقوية، والموحدة، التي تفرض القانون على الجميع، وتدير اقتصادًا يخدم الناس لا الأحزاب.