متظاهرون و لكن دون محاسبة
د. الياس ميشال الشويري
يعيش لبنان اليوم أزمة مركبة تتجاوز حدود السياسة والاقتصاد، لتطال البنية النفسية والاجتماعية للمجتمع اللبناني ذاته. فالمعادلة لم تعد محصورة بين طبقة سياسية فاسدة وشعب مظلوم، بل تتسع لتشمل خللاً عميقاً في العلاقة بين المواطن والدولة، وبين الواقع والمطالبة، وبين الحقوق والواجبات. هذا الخلل يُعبّر عن نفسه في خطاب عام متشنج، وسلوكيات فردية وجماعية تعيق إمكانية التغيير البنّاء. من هنا، لا يمكن فهم الأزمة اللبنانية بمعزل عن الذهنية الاجتماعية التي تفرزها، وعن السياق الإقليمي الذي يؤطرها، وعن طبيعة النظام السياسي الذي يعيد إنتاج نفسه باستمرار. يتناول هذا البحث في ثلاثة محاور متداخلة: خصائص السلوك الشعبي اللبناني، موقع لبنان في المشهد الإقليمي، وأزمة الدولة كإطار ناظم للحياة العامة، في محاولة لفهم التداخل بين هذه العوامل وتحليلها نقدياً.
1. السمات السلوكية للمجتمع اللبناني وأثرها على الأزمة
السمات السلوكية للمجتمع اللبناني وأثرها على الأزمة يتميّز السلوك الجمعي في لبنان بسمات متناقضة تُسهم في تفاقم الأزمات بدل حلّها. فاللبناني، كفرد، يبدو ملحاحاً في مطالبه، سريع التقلّب في مواقفه، متأثراً بالشعارات، غير عقلاني في مقاربته للأحداث، ويُظهر استعداداً دائماً لنكران الجميل. في لحظة واحدة، يُمكن أن يتحوّل من مدافع عن قضية إلى منكر لها، ومن مشارك في حراك شعبي إلى ناقد ساخر منه. هذا النمط من السلوك لا يولّد ضغطاً إصلاحياً منظماً، بل يُنتج مزيداً من الفوضى وتراكم المشكلات التي تُغذّي الاستعصاء السياسي القائم.
هناك ميل واضح في المجتمع اللبناني نحو التذمّر المستمر والمبالغة في تصوير حجم المعاناة، دون مقاربة واقعية للموارد المتاحة وظروف البلد. كما أن الفرد اللبناني يميل إلى تحميل الآخر كامل المسؤولية: السياسي، الطائفة الأخرى، الجهة الخارجية. نادراً ما يتمّ الاعتراف بدور الفرد في اختياراته الانتخابية أو سكوته عن الفساد في محيطه الضيق، وهو ما يعكس نوعاً من الإنكار الجماعي للذات. هذا الإنكار يخلق بيئة من السلبية والتخاذل ويُضعف من زخم أي حراك تغييري حقيقي.
الخطير في الأمر أن هذا السلوك الجماعي يُعيد إنتاج البنية السياسية نفسها. ففي كل انتخابات، يُعيد المواطن نفسه اختيار من يشكو منه، وفي كل أزمة يرفع صوته دون أن يراجع سلوكه. لا يوجد استمرارية في الضغط، ولا قدرة على تشكيل حراك طويل النفس، قادر على التفاوض أو طرح بدائل. بدلاً من ذلك، نرى موجات احتجاجية انفعالية تنطفئ بسرعة، وتتحوّل إلى مناسبة لتبادل الاتهامات. بذلك، تُجهَض محاولات الإصلاح في مهدها، وتستمر الأزمة في الدوران في حلقة مفرغة.
2. لبنان في سياقه الإقليمي: نعمة الاستقرار المنسيّة
لبنان في سياقه الإقليمي: نعمة الاستقرار المنسيّة رغم حجم الأزمات التي يعانيها لبنان، لا يمكن تجاهل موقعه النسبي في خريطة الانهيارات الإقليمية. فعلى عكس بلدان كالعراق، سوريا، ليبيا أو اليمن، لا يشهد لبنان حرباً أهلية مفتوحة، ولا سيطرة لتنظيمات إرهابية على أراضيه، ولا نزوحاً جماعياً داخلياً أو خارجياً على نطاق الكارثة. هذا الاستقرار النسبي يُعد مكسباً غير معلن، قد لا يشعر به المواطنون بسبب وطأة الأزمات اليومية، لكنه يشكّل عاملاً حيوياً يجب البناء عليه.
هذه المقارنة لا تهدف إلى تقليل حجم المعاناة، بل إلى تسليط الضوء على حقيقة أن لبنان لا يزال يحتفظ ببعض مقومات الدولة، وأن الاستقرار النسبي يشكّل قاعدة لا بد من الحفاظ عليها للبناء المستقبلي. مع ذلك، يتجاهل الخطاب الشعبي هذا الواقع، ويركّز على تصوير لبنان كبلد منهار بالكامل، ما يفتح المجال أمام خطاب شعبوي عدمي لا يعترف بأي إنجاز ولا يقبل بأي مقاربة تدريجية للإصلاح. هذا الخطاب، وإن بدا صادق النية، يُغلق أبواب التغيير الحقيقي لأنه يشيطن كل مؤسسة وكل مبادرة.
تجاهل السياق الإقليمي يُضعف الرؤية الاستراتيجية لدى المجتمع اللبناني. فالمطالب المحقة، كالحصول على الكهرباء والماء وخدمات الدولة، يجب أن تُطرح ضمن قراءة واقعية للقدرات والإمكانات، لا بمنطق المطلقات. وإلا تحوّلت المطالب، مهما كانت مشروعة، إلى أدوات لنزع الشرعية عن الدولة بالكامل. كما أن تجاهل التهديدات الأمنية، والضغط الديموغرافي الناتج عن اللجوء السوري، يُضعف من قدرة الدولة على إدارة مواردها. هنا تكمن أهمية بناء وعي عام يُوازن بين المطالب المحقة، والواقع الإقليمي المعقّد، بحيث يتم تجنّب الوقوع في فخ المقارنات العدمية أو الشعبوية التي لا تُنتج حلولاً.

3. الدولة الغائبة ومأزق الطبقة السياسية
الدولة الغائبة ومأزق الطبقة السياسية تُشكّل أزمة الدولة في لبنان جوهر الأزمة العامة. فغياب الدولة كمرجعية محايدة، فاعلة، وخادمة للمواطن، يجعل من كل محاولة إصلاحية مغامرة محفوفة بالتطييف والتسييس. الطبقة السياسية، من جهتها، أثبتت فشلها المزمن في إدارة البلد، لا بسبب الفساد فقط، بل لانعدام الرؤية، وضعف الكفاءة، واحتكار القرار من خلال المحاصصة والطائفية. أصبحت الدولة إطاراً شكلياً لا يمارس سيادته فعلياً، بل يُدار من خلال شبكات مصالح ضيقة.
لقد تراكمت الأزمات نتيجة لتحالف بين سلطة لا تُحاسَب، وشعب لا يُطالب بشكل منظم. وما انفجار النفايات، وانهيار الكهرباء، وشلل المؤسسات، إلا مظاهر لأزمة أعمق تتعلّق بانهيار العقد الاجتماعي الذي يُفترض أن يربط المواطن بالدولة. هذا العقد لم يُعدّل منذ الطائف، بل تمّ استخدامه كأداة لترسيخ المحاصصة بدل تجاوزها. وهكذا، أصبحت الدولة رهينة توازنات داخلية وخارجية، وعاجزة عن القيام بوظائفها الأساسية.
ما شهده لبنان من انتفاضات شعبية مؤخراً، يعكس صحوة سياسية غير مسبوقة لدى جزء كبير من الشباب اللبناني. إلا أن هذه الانتفاضات ما زالت مهددة بالاحتواء أو التمييع إذا لم تُترجم إلى مشروع سياسي واضح يطالب بدولة مدنية عادلة، مستقلة عن الولاءات الطائفية، وقادرة على فرض القانون. المشروع البديل يجب أن يكون مبنياً على رؤية وطنية شاملة، تُخاطب المواطن كفرد لا كعضو في طائفة، وتُعلي من شأن المصلحة العامة على حساب الزبائنية.
4. الخاتمة
لبنان يعيش اليوم على مفترق طرق. فإما أن يستمر في الغرق في دوامة الإنكار، حيث يلوم الشعب طبقته السياسية دون مساءلة الذات، وتستمر الطبقة السياسية في احتقار الناس دون أن تتغيّر، أو أن تخرج من رحم الأزمة فرصة لبناء دولة عادلة، تقوم على المواطنة، والمحاسبة، وتوزيع عادل للسلطة والثروات. لا خلاص للبنان إلا عبر بناء دولة حقيقية، وهذا يتطلب توازناً بين الوعي الشعبي والقدرة المؤسسية، وبين الحلم بالعدالة والاعتراف بواقع الجغرافيا والتاريخ. إن تحقيق هذا الهدف يحتاج إلى جهد جماعي، وإرادة سياسية، وقيادة وطنية تُدرك حجم التحديات وتعمل على تجاوزها لا استثمارها. وحده الشعب الواعي يمكنه فرض هذا التحوّل، إذا امتلك أدوات التنظيم، والرؤية، والقدرة على الضغط المستدام، ضمن مشروع وطني يتجاوز الطوائف إلى بناء جمهورية حقيقية.