د. الياس ميشال الشويري
خطاب القسم في أي دولة هو إعلانُ التزام علني وأخلاقي وقانوني أمام الناس، تعِد فيه السلطة بحماية حقوق المواطنين وصون كرامتهم وضمان أمنهم الاقتصادي والاجتماعي. في لبنان، كان هذا الخطاب دائماً محملاً بوعود كبيرة: احترام الدستور، حماية الملكية الفردية، صون العملة الوطنية، وتأمين مصالح الشعب. لكن الانهيار المالي منذ عام 2019 وما تلاه من حجز قاسٍ على أموال المودعين، جعل سؤالاً جديداً يُطرح: ماذا تبقّى من ذلك الخطاب؟ وما الذي بقي من قسمٍ تعهد بحماية المجتمع فإذا به يتركه ضحيةِ منظومة مالية وسياسية متشابكة؟ هذا المقال يحاول تفكيك العلاقة بين خطاب القسم وواقع المودعين، من خلال ثلاثة محاور كبرى توضح التناقض بين الوعد والواقع، وترصد أثر الانهيار وسبل الخروج منه، بطريقة منهجية متماسكة كما في أبحاثنا السابقة.
- البعد الرمزي والأخلاقي لخطاب القسم وانهياره أمام المودعين
القسم في الفلسفة السياسية ليس مجرد تعبير لفظي، بل هو عقد ثقة يُبنى عليه استقرار مجتمع كامل. حين يقف رئيس أو مسؤول أو حاكم مصرف أمام الشعب ليقسم على حماية الحقوق، يصبح كل مودع شريكاً ضمنياً في هذا الالتزام. الودائع ليست مجرد أرقام في حسابات، بل هي ثمرة تعب وعرق وادخار سنوات طويلة، ولذلك فإن حماية المال هنا ليست واجباً قانونياً فقط بل واجب معنوي يشكل أساس العقد الاجتماعي. انهيار هذا الالتزام أخلاقياً ينعكس مباشرة على إحساس المواطن بالأمان وعلى علاقة الثقة التي تُعدّ شرطاً لأي نشاط اقتصادي طبيعي.
في لبنان، تَحوّل خطاب القسم إلى طقوس شكلية منفصلة عن الواقع. المسؤولون يُرددون وعود حماية الودائع، بينما النظام السياسي والمصرفي يتصرف خارج أي مرجعية أخلاقية. المودع يسمع مسؤوليه يطمئنونه في العلن، لكنه يرى أمواله تُنهب في السر عبر تهريب الأموال إلى الخارج، وسوفته المحاصصة السياسية، وتغوّل المصارف على حقوق الناس. ومع كل تصريح جديد، كانت الفجوة بين القول والفعل تتسع، إلى أن فقد القسم قيمته الرمزية باعتباره ضمانة معنوية للحقوق.
سقوط القسم على المستوى الرمزي أدى إلى أزمة ثقة حادة شلت الاقتصاد والمجتمع. المواطن الذي يرى النظام يتنصل من وعوده يفقد القدرة على الانخراط في أي شكل من أشكال المشاركة الوطنية. لذلك نمت ثقافة الانسحاب: سحب الودائع عند أول فرصة، تحويل الأموال إلى الخارج، التخلي عن الاستثمار في الداخل، وتوسيع الفجوة بين المواطن والمؤسسة. انهيار القسم هنا كان انهياراً للمعنى نفسه، واستبدالاً لثقافة الحقوق بثقافة النجاة الفردية.
- البنية القانونية والمؤسسية — كيف فشل النظام في ترجمة القسم إلى حماية فعلية للمودعين؟
كان يفترض بالقانون اللبناني أن يكون الدرع الحامي للمودعين، إلا أن الواقع كشف هشاشة بنية الحماية. فالقوانين المصرفية التي وُضعت قبل عقود لم تُحدّث ولم تُفعّل بما يكفي، ومصرف لبنان لم يمتلك صلاحيات واضحة أو لم يفعّل ما لديه من صلاحيات، بينما بقيت الرقابة المصرفية شكلية. لم يكن هناك إطار قانوني يفرض حماية صارمة للودائع أو يضمن حقوق المودع عند الأزمات، ما جعل أي خطاب قسَم يصدر عن المسؤولين بلا سند حقيقي.
تداخل المصالح السياسية مع المؤسسات المالية ضرب الاستقلالية المطلوبة لتحويل القسم إلى ممارسة واقعية. الهيئات الرقابية خضعت للتوازنات الطائفية والمصالح الحزبية، والقضاء المالي لم يكن مستقلاً بما يكفي ليحاسب المرتكبين. المصارف نفسها كانت محمية من قبل سياسيين، والسياسيون كانوا محميين من قبل المصارف، ما كوّن شبكة مصالح لا تُخترق. في هذا السياق، يصبح القسم مجرد إعلان بلا قدرة تنفيذية، ويتحول المودع إلى الحلقة الأضعف التي يُضحّى بها عند أول أزمة.
غياب الرؤية العلمية لإدارة الانهيار المالي فاقم الوضع. كان من المطلوب خطة طوارئ واضحة تُنظم التعامل مع الأزمة وتحمي الودائع الصغيرة على الأقل. لكن ما حصل هو العكس تماماً: إجراءات مرتجلة، قيود على السحوبات بلا قانون، قرارات متضاربة، وتأجيل ممنهج لأي حل نهائي. كل ذلك جعل القسم السياسي يبدو كأنه خطاب موجه للاستهلاك الإعلامي فقط، بينما الواقع العملي يسير باتجاه معاكس تماماً.

- النتائج الاقتصادية والاجتماعية للانهيار وواقع المودعين اليوم
المودعون دفعوا الثمن الأكبر. كثير منهم فقدوا كل ما ادخروه طوال عشرات السنين، وكثيرون عاجزون عن تأمين طبابتهم وتعليم أولادهم وتغطية حاجاتهم الأساسية. وقد تحول وجود الودائع في المصارف من عنصر أمان إلى عامل تهديد، إذ أصبح المودع يعيش يومياً ضغط الخوف من ضياع ما تبقى. ومع هذا الضغط، خسر الاقتصاد اللبناني دوره الطبيعي: تراجعت القدرة الشرائية، وانخفض الناتج المحلي، واشتد الركود نتيجة غياب الثقة.
على المستوى الاجتماعي والسياسي، انفجرت أزمة القسم في الشارع. لم يعد الناس يثقون بمؤسسات دولتهم، وتحوّلت المطالب من إصلاح إلى مساءلة، ومن مساءلة إلى غضب، ومن غضب إلى نزعات انفصالية أو طائفية أو هجرة جماعية. هذا الانهيار في الثقة العامة أعاد العلاقات داخل المجتمع اللبناني إلى مرحلة ما قبل الدولة، أي مرحلة الانتماءات الأولية لا الانتماء الوطني، وذلك لأن القسم الوطني لم يعد له معنى في ظل سقوط مؤسسات الدولة.
رغم الصورة القاتمة، فإن الخروج ممكن لكن بشروط صعبة: إعادة صياغة النظام المالي بالقوانين الحديثة، اعتماد قوانين واضحة لحماية الودائع، تحرير الهيئات الرقابية من التسييس، اعتماد خطة إعادة هيكلة شاملة وشفافة، ملاحقة المرتكبين مهما علا شأنهم، واستعادة الثقافة الوطنية حول العقد الاجتماعي. وحدها هذه الخطوات يمكن أن تعيد للقسم معناه، وللمودع جزءاً من كرامته، وللبنان إمكانية العودة إلى دولة تحترم حقوق مواطنيها لا أن تحوّلهم إلى رهائن لمنظومة تحمي نفسها فقط.

- الخاتمة
ما تبقى من خطاب القسم بالنسبة للمودعين في لبنان هو ظلّ بعيد لمعنى كان يجب أن يكون أساسياً في حياة الدولة. فالقسم الذي كان يُفترض أن يحمي حقوق المواطنين تحوّل إلى خطاب بلا مضمون، ووعود بلا تنفيذ، وقيم بلا مؤسسات. الانهيار المالي لم يكشف فقط سوء الإدارة، بل كشف انهيار المنظومة الأخلاقية والسياسية التي كان يفترض أن تتمسك بمعنى القسم. ومع ذلك، يبقى القسم قابلاً للاستعادة إذا توفرت إرادة سياسية وقانونية جريئة تُعيد للقانون هيبته وللمودع حقه وللدولة دورها. وإلا سيبقى خطاب القسم مجرد نص يُتلى في احتفالات رسمية، بينما يظل المودع اللبناني يواجه يومياً انهيار وطن لم يستطع مسؤولوه الحفاظ على أبسط وعوده.























































