همه التقاط مشهد لا مساعدة الضحية
د. الياس ميشال الشويري
في عالم متسارع التغيرات، تتكرر ظاهرة إخفاء الفشل خلف ستار من الأوهام والتبريرات، لتصبح هذه الأوهام ملاذًا مؤقتًا للمجتمعات التي تعاني أزمات متفاقمة. لبنان كنموذج واضح لهذه الظاهرة، حيث تنزلق الدولة والمجتمع في دوامة من الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، بينما يغلف الضحك والسخرية واقع السقوط المستمر. هذا البحث يسعى إلى تحليل آليات إخفاء الفشل وراء الأوهام، والجانب النفسي والاجتماعي لهذا التواطؤ الجماعي مع الانهيار، مع استكشاف سبل الخروج من هذه الحالة المؤلمة. نستند في ذلك إلى رؤية الشاعر والكاتب الفرنسي شارل بودلير ― “العالم الحقيقي دائمًا ينزلق نحو الجحيم، بينما نضحك ونعيش في سقوط دائم” ― التي تذكرنا بأن العالم الحقيقي ينزلق دائمًا نحو الجحيم، حتى ونحن نضحك ونتهكّم على أنفسنا.
1. أوهام النجاح كقناع للفشل — آلية الهروب من الواقع في الدول المتعثرة
في العديد من دول العالم، ومنها لبنان، تمارس الأنظمة الحاكمة سياسة الهروب إلى الأمام عبر صناعة الأوهام وبيعها للناس، فتُصدَّر مشاريع وأحلام لا تجد مكانًا في الواقع إلا كعناوين براقة تخفي وراءها عجزًا بنيويًا وفشلًا ذريعًا في إدارة شؤون البلاد. نرى هذه الأوهام في الوعود المتكررة بـ”الإنقاذ الاقتصادي”، و”الإصلاحات الكبرى”، و”ثورة البنى التحتية”، في حين تغرق البلاد أكثر فأكثر في مستنقعات الدين والعجز والفساد. يتحول الإعلام إلى أداة تلميع، فيُضخ خطاب تفاؤلي مزيف يبني قصورًا على الرمال، بينما يبقى الواقع مثقلاً بأزمات يومية لا تجد حلًا، بل تتفاقم عامًا بعد عام.
هذا النمط من إدارة الفشل عبر الوهم ليس مقصورًا على لبنان وحده، بل يتكرر في دول عديدة حيث تستخدم الحكومات أدوات الإعلام والدعاية والسياسات الشعبوية لصرف أنظار الشعوب عن الأزمات الحقيقية. ففي ظل هذا النهج، تتحول المشاريع الوطنية الكبرى إلى مسرحيات استعراضية، وتُضخ أموال طائلة في مؤتمرات واحتفالات وتدشينات لا تغيّر شيئًا في بنية الأزمات المتراكمة. لبنان مثلًا، بدلًا من معالجة جذور أزماته الاقتصادية والاجتماعية، انشغل طويلاً بتسويق أوهام مثل “تحويل لبنان إلى مركز مالي عالمي” و”جذب الاستثمارات الكبرى”، فيما كان الاقتصاد الحقيقي ينهار بفعل السياسات الريعية والفساد والمحسوبيات.
إن الخطير في هذه الأوهام أنها تصبح مع الوقت أداة لإسكات المعترضين وتخدير الوعي الجماعي. فحين تُقنع الشعوب أن هناك خطة إصلاحية أو معجزة اقتصادية على الأبواب، تتضاءل قدرتها على المطالبة بحقوقها ومحاسبة الفاسدين، لأن الأمل الموهوم يُغلق باب النقد. في لبنان، لعبت هذه الأوهام دورًا خطيرًا في تدمير قدرة الناس على الفعل الجماعي، إذ تحول الحلم بإنقاذ البلاد إلى ورقة يرفعها السياسيون كلما اشتدت الأزمات، بينما يتفرغ المواطنون لتبرير الفشل بأسباب خارجية أو بانتظار “الحل القادم” الذي لا يأتي أبدًا.

2. الضحك والسخرية كآليات دفاعية في المجتمعات المتأزمة — قراءة في مقولة بودلير
مقولة شارل بودلير تلخص ببلاغة مذهلة حال المجتمعات التي تغرق في أزماتها بينما تتعاطى مع مآسيها بالسخرية والضحك المرير. في لبنان، صار الضحك أداة مقاومة للخوف، لكنه في ذات الوقت تحول إلى قناع يخفي العجز الجماعي. نضحك على انقطاع الكهرباء، على انهيار الليرة، على النفايات التي تملأ الشوارع، على السياسيين الذين يسرقون بلا خجل، وكأننا نحاول تحويل الجحيم إلى مسرح ساخر نمارس فيه طقوس العيش وسط الرماد.
غير أن هذا الضحك، مهما بدا ظاهريًا كوسيلة للتنفيس، هو في الحقيقة أحد أعراض الإنكار الجمعي، حيث يتم ترويض العقول على التعايش مع اللامعقول. السخرية اللبنانية ليست دائمًا علامة وعي، بل أحيانًا تصبح حائطًا وهميًا يعزل الناس عن مواجهة الواقع بجدية. بدلًا من أن تتحول هذه السخرية إلى محفز للفعل الجماعي، تصبح أداة تبرير، تقول ضمنيًا: “ما دام كل شيء سخيفًا، فلا جدوى من المقاومة.” هنا يتحقق قول بودلير بكل دقة، إذ نجد أنفسنا نضحك في لحظة السقوط بينما تسحقنا الأزمات، ونشارك جميعًا، بوعي أو دونه، في هذا الانزلاق نحو الجحيم.
في السياق اللبناني، لعبت هذه الثقافة الساخرة دورًا مزدوجًا. فمن جهة، ساعدت الناس على الصمود النفسي في مواجهة العبث والفوضى، لكنها من جهة أخرى، أعاقت بناء حركة شعبية جدية قادرة على التغيير. فالمواطن الذي يسخر من الانهيار بدلًا من مقاومته، يصبح جزءًا من منظومة الفشل. وهذا ما نراه بوضوح في المشاهد اليومية: ضحك على الفساد بدل محاربته، نكات على انهيار المؤسسات بدل الثورة عليها، شعارات احتجاجية ساخرة لا تترجم إلى برامج عمل حقيقية. السقوط هنا ليس مجرد انهيار اقتصادي أو سياسي، بل هو سقوط في الوعي الجمعي، حيث تتحول الكارثة إلى مادة ترفيه، ويصبح الضحك بديلاً عن الفعل.
3. لبنان كنموذج للمجتمع الذي يعيش وهم الإنجاز وسقوطه في الهاوية
لبنان هو تجسيد حي لفكرة “السقوط الباسم“، حيث يعيش المجتمع في حالة من الإنكار شبه التام لحجم الانهيار الحاصل. فمنذ انتهاء الحرب الأهلية وحتى اليوم، تتكرر في الخطاب الرسمي والشعبي لازمة “لبنان بلد العجائب”، “لبنان فينيق يقوم من تحت الرماد”، “لبنان سيعود أفضل مما كان”، بينما الحقيقة أن الدولة تتفكك والاقتصاد ينهار والبنى التحتية تنهار بشكل كارثي. هذا الخطاب الذي يخلط بين الأسطورة والواقع يبني وهماً جماعياً بأن لبنان استثناء لا تنطبق عليه قواعد السقوط مثل سائر الدول، في حين أن الواقع يؤكد أن لبنان، للأسف، قد يكون نموذجًا متطرفًا لفشل الدولة الحديثة.
من اللافت أن هذه الحالة اللبنانية ليست مجرد مصادفة، بل هي نتيجة تراكمات ثقافية وسياسية عميقة. فالخطاب الطائفي، والولاء الأعمى للزعماء، واستسهال التبرير والتصفيق بدل المحاسبة، كلها أسهمت في خلق هذا الواقع المشوه. اللبنانيون يعيشون في دائرة مفرغة: أزمة تلو أزمة، انهيار تلو انهيار، وفي كل مرة، يتم إنقاذ النظام وليس الشعب، لأن الأوهام التي تُباع لهم – بأن الحل قريب، وأن “الزعيم سيجد مخرجًا” – تجعلهم أسرى لهذا الفشل المتكرر. وما يزيد المأساة أن هذه الأوهام لم تعد تُسوق فقط من قبل السياسيين، بل صارت جزءًا من ثقافة يومية تُبنى في المنازل والمدارس والإعلام، حتى أصبحت طريقة تفكير سائدة.
إن الخطر الأكبر في هذه الحلقة المفرغة من الأوهام والفشل هو أنها تعيد إنتاج ذاتها. فكلما ضحك الناس على مأساتهم، كلما زادت قدرتهم على التكيف مع الانهيار، وكلما طال عمر الأزمة. لبنان اليوم ليس فقط بلدًا غارقًا في الأزمات الاقتصادية والاجتماعية، بل هو بلد يعيش على أوهام ماضٍ مجيد لم يعد موجودًا، وعلى أكاذيب قادة يبيعون الناس أوهامًا كاذبة لمستقبل أفضل. الخروج من هذا النفق المظلم يتطلب كسر هذه الحلقة عبر وعي جمعي جديد، يتجاوز الضحك المرير والسخرية العقيمة إلى الفعل والمحاسبة وإعادة بناء الدولة على أسس العدالة والشفافية والكفاءة، بدل البقاء أسرى أوهام لا تقود إلا إلى الجحيم.

4. الجانب النفسي والاجتماعي للتواطؤ الجماعي مع الفشل — لبنان كنموذج
في عمق التجربة اللبنانية، يمكننا تلمس ملامح حالة نفسية جماعية تشكلت عبر عقود من الأزمات والحروب والصدمات المتتالية، وهي حالة مركبة من الإنكار، والخضوع، والتبرير، والاعتياد على الفشل كأنه قدر محتوم. من الناحية النفسية، يعيش اللبناني في ما يشبه “متلازمة ستوكهولم”، حيث يصبح ضحية الفساد والجوع والانهيار، لكنه في ذات الوقت يبرر لمن تسببوا في معاناته، بل ويدافع عنهم أحيانًا. هذا التواطؤ مع الفشل ليس مجرد موقف عابر، بل هو حالة نفسية جماعية تبرر البقاء في دوامة التراجع بدل البحث عن خلاص حقيقي. يتجلى ذلك في الأمثال الشعبية مثل “هيك البلد”، “الله بيستر”، “شو بدنا نعمل؟”، وكأن القبول بالكارثة خيار لا مفر منه.
أما على المستوى الاجتماعي، فإن هذا التواطؤ يُترجم إلى سلوكيات يومية تعيد إنتاج الأزمات بشكل لا واعٍ. فالفرد اللبناني، رغم إدراكه حجم الأزمة، يعيش وكأن الانهيار أمر طبيعي، فيُمارس الغش في التعاملات، والاحتيال في العمل، ويدفع الرشاوى لتسيير معاملاته، ثم يعود ليشكو من الفساد. كما تنتشر ظواهر خطيرة مثل اللامبالاة بمصير الدولة، وتفشي مبدأ “كلن يعني كلن… بس زعيمنا غير”، مما يعمق الانقسام الطائفي والمناطقي، ويمنع أي توافق على مشروع وطني جامع. هذا التناقض العجيب بين الشكوى المستمرة من الوضع وبين الاستمرار في السلوكيات التي تعزز الفشل يخلق حالة من الشلل الاجتماعي، حيث يتوقف الناس عن الإيمان بإمكانية التغيير، ويعيشون في دائرة من السخرية واللامبالاة.
من جهة أخرى، يُسهم الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي في تكريس هذا التواطؤ عبر تحويل الكوارث إلى مادة للتندر والفكاهة، حتى يصبح الانهيار نفسه شكلاً من أشكال الترفيه. فبدل أن تتحول صور الطوابير أمام محطات الوقود أو الصيدليات إلى شرارة للغضب الجماعي والمطالبة بالتغيير، تتحول إلى “ميمز” ومقاطع فيديو ساخرة تنتشر كالنار في الهشيم، ليضحك الجميع عليها لدقائق ثم يعودون إلى حياتهم العادية، كأن شيئًا لم يكن. هذه اللامبالاة الجماعية تُغلف الإحساس بالفشل بغلاف ساخر يخفف وطأته نفسيًا، لكنها في الحقيقة تمنع أي مواجهة حقيقية للأزمة. لبنان، بهذا المعنى، ليس فقط بلدًا يعاني من أزمات اقتصادية واجتماعية، بل هو أيضًا مجتمع يعاني من أزمة وعي نفسي وجمعي، حيث يصبح الضحك على المأساة وسيلة للهروب منها، وليس أداة لتحفيز الفعل والتغيير.
5. آليات الخروج من حالة التواطؤ النفسي والاجتماعي مع الفشل — نحو وعي جمعي جديد في لبنان
الخروج من حالة التواطؤ النفسي والاجتماعي مع الفشل في لبنان يبدأ أولًا بالاعتراف بالمشكلة، وكسر حلقة الإنكار التي تسيطر على الخطاب الجماعي. لا يمكن لأي مجتمع أن ينهض ما لم يواجه الحقيقة بجرأة، حتى لو كانت مؤلمة. المطلوب هو الاعتراف بأن لبنان ليس بلدًا استثنائيًا، وأن الأزمات ليست مجرد قدر محتوم، بل هي نتيجة خيارات بشرية خاطئة وتواطؤ جماعي طويل الأمد. هذا الاعتراف يجب أن يُترجم إلى مراجعة نقدية عميقة للثقافة السائدة، التي تُعلي من شأن الزعيم على حساب الوطن، وتُبرر الفساد تحت شعار “كلنا منغلط”، وتُخدر الوعي بالضحك والتندر بدلًا من المواجهة الفعلية. الاعتراف بالمشكلة هو الخطوة الأولى لتفكيك البنية النفسية التي تجعل اللبناني يقبل العيش في الهاوية وهو يبتسم.
أما الخطوة الثانية فتتمثل في إعادة بناء الوعي الجمعي عبر التربية والتعليم والإعلام. المطلوب هنا ثورة معرفية تبدأ من المناهج التعليمية، بحيث تُزرع في الأجيال الجديدة قيم النقد الذاتي، والمساءلة، والمواطنة الفاعلة، بدلًا من ثقافة الطائفية والانتماء الأعمى. يجب أن تتحول المدرسة إلى مساحة تدريب على التفكير النقدي، لا مجرد مؤسسة لتلقين المعرفة الجافة. وفي الإعلام، لا بد من كسر نمط الترفيه القاتل الذي يختزل الأزمات في “طرائف”، وتطوير خطاب إعلامي جاد يعيد للناس إحساسهم بالمسؤولية والقدرة على الفعل. كذلك، يمكن للمبادرات الثقافية والفنية أن تلعب دورًا في إعادة تشكيل المخيلة الجماعية، من خلال أعمال تحفز على التفكير والتغيير بدل الاستسلام للواقع.
أخيرًا، لا يمكن لأي تغيير أن يتحقق دون تفعيل الفعل الجماعي المنظم. الخروج من هذه الحالة النفسية والاجتماعية يتطلب أن يتحول الغضب والسخرية إلى حراك فعلي، منظم، وواعٍ. المطلوب إنشاء حركات اجتماعية قادرة على تجاوز الانقسامات الطائفية والمناطقية، والتجمع حول قضايا جامعة مثل محاربة الفساد، وإصلاح القضاء، وتحقيق العدالة الاجتماعية. هذه الحركات يجب أن تُبنى على أسس معرفية واضحة، وأهداف واقعية قابلة للتحقيق، لا على شعارات عامة عابرة. كما أن خلق مساحات آمنة للحوار بين اللبنانيين حول قضاياهم المصيرية هو أمر ضروري لإعادة بناء الثقة بين مكونات المجتمع. وحده هذا الفعل الجماعي يمكن أن يُخرج لبنان من حلقة التواطؤ مع الفشل، ويفتح الباب نحو مشروع وطني حقيقي يعيد للدولة معناها، وللمواطن كرامته، وللشعب إيمانه بقدرته على التغيير.

6. الخاتمة
تؤكد هذه الدراسة أن أزمة الفشل في لبنان ليست مجرد نتائج مآسٍ اقتصادية وسياسية، بل هي أزمة وعي نفسي واجتماعي عميقة، تكاد تحكم علاقة اللبنانيين مع واقعهم بكل أشكال الإنكار والتواطؤ. الأوهام التي تبيعها الأنظمة السياسية والمجتمعية، والسخرية التي يتعاطى بها الناس مع مآسيهم، جميعها عوامل تعمق هذا السقوط ببطء. ومع ذلك، يظل الطريق للخروج من هذه الأزمة ممكنًا، لكنه يتطلب إقدامًا على مواجهة الحقيقة، وتغييرًا جذريًا في ثقافة الوعي الجمعي من خلال التربية والإعلام، وإعادة بناء فعل جماعي منظم يتجاوز الانقسامات ويطالب بإصلاح حقيقي. في نهاية المطاف، لن يكون الإنقاذ سوى بوعي جديد يرفض الانقياد للأوهام، ويختار المواجهة والعمل من أجل وطن يستحق العيش بكرامة وحرية.