التمسّك بالعلم اللبناني فقط
د. الياس ميشال الشويري
لبنان، ذاك الوطن الذي كان يُطلق عليه “سويسرا الشرق“، بات اليوم ساحة لصراخ الغوغاء، وشاشة مفتوحة لبهرجة سياسية لا تنتهي، واستعراضات إعلامية مفرغة من أي مضمون فعلي. كل فئة تدّعي أنها الأحق، وكل طائفة تلوّح بخطابها كأنه المعيار الأوحد، وكل زعيم يعيش على البهورة والاستعراض بينما تنهار الدولة. في زمن الأزمات الخانقة، لا يحتاج الوطن إلى منابر عالية ولا الى خطابات نارية، بل إلى عقلانية، توازن، وإرادة جدية في إعادة بناء ما دمرته العقليات الفوضوية والشعبوية التي سرقت الحاضر وأفقدت الأمل بالمستقبل. في هذا البحث، سنناقش جذور “البهورة” اللبنانية، دور الغوغائية في الانهيار، والحاجة إلى التحول نحو عقلانية سياسية وإدارية تعيد بناء الوطن.
- البهورة السياسية والإعلامية في لبنان
البهورة ليست مجرّد مبالغة في الخطاب أو استعراض إعلامي فارغ، بل هي ثقافة سياسية مزمنة في لبنان، تطغى على جوهر العمل الوطني الجاد. يتبارى الزعماء في إطلاق التصريحات الرنانة التي تستدرج التصفيق اللحظي، دون أن يكون خلفها أي مشروع إصلاحي فعلي. تحوّل الإعلام إلى ساحة للمزايدات بدلاً من أن يكون أداة للمحاسبة والشفافية. وبدلاً من أن يتحدث المسؤولون بلغة الأرقام والخطط، يغرقون في لغة الشتم والتخوين والتحدي الشخصي. هذه “البهورة” تستنزف الزمن السياسي وتُخدّر الرأي العام.
الإعلام اللبناني أصبح في كثير من الأحيان شريكًا في هذه البهورة، إذ يضخّم أصوات الغوغاء، ويكرّس النمطيات الطائفية، ويفسح المجال لمن لا مشروع لديهم سوى الصراخ والشعبوية. يُروَّج للجدال بدل الحوار، وللصدام بدل الحلول، فيما يغيب التحقيق الجدي، والمساءلة الرصينة. الإعلام، بتمويله المسيس وتوجهاته، أسهم في خلق طبقة سياسية لا تعيش إلا على الضوء، لا على الإنجاز. وهكذا، ضاعت القضايا الأساسية في ضجيج البهرجة.
في عمق الظاهرة، تشكل البهورة قناعًا يخفي العجز السياسي والإداري. فمن لا قدرة له على التغيير الفعلي، يلوذ بالمواقف الصادمة واللغة النارية لحشد الجماهير وإشغالهم. هذا التعويض بالكلام عن غياب الفعل هو جزء من الانهيار اللبناني. كل أزمة تمر، يتحول المسرح السياسي إلى استعراضات إنقاذ وهمية، لكن الواقع يزداد انهيارًا. والمواطن، للأسف، ينجذب أحيانًا إلى الصوت العالي أكثر من الفكرة العميقة، ما يعزز استمرار هذه الحلقة المفرغة.
- الغوغائية وتدمير مؤسسات الدولة
الغوغاء ليسوا فقط الفئات الشعبية الثائرة بلا وعي، بل هم اليوم في لبنان فئات سياسية واقتصادية وحتى دينية تستغل الانهيار لإثارة النعرات والسيطرة على المشهد العام. يُعبّؤون الناس طائفيًا، ويؤسّسون وجودهم على الانقسام والتخوين. الغوغائية تُعطل القضاء، تشلّ الإدارات، وتحول الوطن إلى مزرعة. هذا النمط من الحشد الغريزي يفتك بالدولة ويمنع نشوء أي بنية عقلانية للحكم.
في مناخ الغوغائية، تنهار سلطة القانون، ويُستهزأ بالمؤسسات، وتُستبدل العدالة بالانتقام. كل فئة تريد قضاءها، وأمنها، وإدارتها، وكأننا في دولة مكونات لا وطن. القاضي الذي يصدر حكمًا وفق ضميره يُهدد، والموظف الذي يعمل بنزاهة يُشيطن، بينما يُصفّق للوقاحة والبلطجة. الدولة لا يمكن أن تُبنى على أصوات الغوغاء بل على صوت العقل، والمؤسسات تحتاج إلى من يحترمها لا من يستقوي عليها.
الغوغائية، كما البهورة، لا توحد بل تفتت، لا تبني بل تهدم. لبنان الذي يعاني من انهيار مالي وإداري غير مسبوق، لا يمكنه أن يتحمل مزيدًا من هذا الخطاب الهستيري والتحريضي. لقد حوّلت الغوغاء الساحات إلى ميادين للصراع بدل أن تكون منصات للمطالبة بالحقوق. تحطمّت صورة الدولة، وانهار مفهوم السيادة، لأن الغوغاء دائمًا يريدون دولة على قياسهم، لا دولة جامعة. ومن هنا يبدأ التدمير الفعلي لأي وطن.

- العقلانية السياسية كطريق للإنقاذ
العقلانية السياسية لا تعني البرودة أو التخلي عن المبادئ، بل تعني إدارة الأزمات بلغة المسؤولية لا الانفعال. العقلانية تعني فهم التوازنات، تقديم المصلحة العامة على المكاسب الآنية، والابتعاد عن المغالاة. في الحالة اللبنانية، حيث الانقسامات عمودية وعميقة، تصبح العقلانية ضرورة وجودية. هي التي تضمن الاستمرارية وتحمي من الانفجار الشامل. من دونها، يبقى الوطن متأرجحًا على حافة الهاوية.
لبناء الدولة اللبنانية من جديد، نحتاج إلى مقاربة واقعية تضع خطة إنقاذ حقيقية تبدأ بإصلاح القضاء، واستعادة استقلالية المؤسسات، ومحاربة الفساد بجديّة. وهذا لا يتم بالشعارات، بل ببرامج قابلة للتنفيذ، وبشخصيات تؤمن بالتغيير أكثر من حبّها للكاميرا. تحتاج العقلانية إلى قادة لا يريدون حشد الأتباع، بل بناء المواطن. نحتاج إلى مدرسة جديدة في العمل العام، تنطلق من الإصلاح لا من الردّ على الخصوم.
لبنان لم يخلُ يومًا من شخصيات حاولت العمل بعقلانية وهدوء، لكن الغوغاء كانوا لهم بالمرصاد. ومع ذلك، فإن بروز حركات شبابية مدنية حديثة تحمل خطابًا عقلانيًا هو بصيص أمل. إن المجتمع المدني، والقطاع التربوي، وبعض الإعلاميين والمثقفين، يشكّلون طليعة مشروع عقلاني وطني. المطلوب هو حماية هذا المشروع، وعدم تركه لقمة سائغة أمام أصحاب الضجيج والبهرجة، فالوطن يُبنى على العقل، لا على الصراخ.

- الخاتمة
كفانا بهورة، كفانا صراخًا، وكفانا استعراضات سياسية تعمّق الانهيار بدل أن تنقذ الوطن. لبنان اليوم بحاجة إلى رجال دولة لا رجال سلطة، إلى خطط لا شعارات، إلى مؤسسات لا زعامات. الغوغائيون دمّروا البنية الوطنية، وأفرغوا السياسة من معناها، وجعلوا المواطن فريسة لليأس. لكن الأمل باقٍ ما دامت هناك عقول تفكر لا تصرخ، وضمائر تعمل لا تستعرض. المعركة ليست فقط ضد الأزمة الاقتصادية، بل ضد ثقافة كاملة من البهرجة والغوغائية. ولن يُبنى هذا الوطن إلا على أسس من الوعي، والنزاهة، والعقلانية.