اللص يسرق في العتمة
د. الياس ميشال الشويري
ليس الفقر دائمًا حالة ناتجة عن قلة الموارد أو شح الإمكانات، بل كثيرًا ما يكون انعكاسًا لسياسات ناهبة وسلطات فاسدة تستنزف خيرات الأوطان باسم الشرعية والمناصب والمقاومة. المقولة “هذا البلد ليس فقيرًا ... لكنه مُبتلى بلصوص من الدرجة الأولى!” تختصر المأساة السياسية والاقتصادية التي تعيشها العديد من الدول، وعلى رأسها لبنان. فلبنان، الذي وُصف يومًا بـ”سويسرا الشرق“، يملك من المقومات الجغرافية والبشرية والاقتصادية ما يؤهله للنهضة، لكنه سُرق على أيدي من يفترض أنهم حُماته. هؤلاء اللصوص لا يحملون المسدسات بل القوانين، ولا يقتحمون المصارف بل يديرونها. في هذا المقال، سنغوص في عمق هذه الإشكالية من خلال محاور متعددة تُظهر كيف يتحوّل الفساد المقنّع بالأناقة إلى سرطان ينهش جسد الوطن.
- سرقة الأوطان تحت غطاء الأناقة السياسية
اللصوص في زمننا لم يعودوا يلبسون الأقنعة ويختبئون في الظلام، بل يظهرون على الشاشات، يبتسمون، ويتحدثون عن القيم والمقاومة والوطنية والدفاع عن الوطن … التي تُخفي وراءها وحشية النهب المنظّم. في لبنان، السياسيون ليسوا مجرد فاسدين، بل محترفين في تحويل الخيانة إلى احتراف. يستخدمون الخطابات الرنانة لتبرير النهب، وتحويل الوزارات إلى مزارع خاصة، والمناقصات إلى صفقات مشبوهة. كل هذا يحصل باسم الدولة والمؤسسات، فيما المواطن يُسحق تحت وطأة الفقر.
إنهم لا يرفعون السلاح اليوم بشكل مباشر، بل القوانين؛ لا يسرقون ليلاً، بل يشرّعون النهب نهارًا. هؤلاء الذين يدّعون تمثيل الشعب، هم في الحقيقة ممثلو مصالحهم الخاصة. في لبنان، شهدنا كيف تحوّلت الطبقة السياسية إلى طبقة مافيوية تتقن لعبة الأقنعة. المصارف أفلست بفعل هندسات مالية مشبوهة، الخزينة نُهبت باسم “التسويات”، والشعب خُدع بعناوين “الإصلاح” و”الشفافية”.

لبنان لا يفتقر إلى الثروات، بل يفتقر إلى الحُكم النزيه. فمن الغاز في بحره إلى الأرز في جباله، ومن الطاقة البشرية إلى الموقع الجغرافي، كل ذلك تحوّل إلى ضحية شراهة طبقة لا تشبع. المؤسسات باتت واجهات فارغة تُستخدم كغطاء لسلب المال العام. المسؤولون يسافرون على نفقة الدولة، ويتباهون بمناصبهم، بينما الفقير لا يجد ثمن دوائه، والعاطل عن العمل يُذل من قبل مؤسسات الدولة.

- الفساد البنيوي وغياب المحاسبة
اللصوص في لبنان ليسوا أفرادًا بل شبكة مترابطة من المنتفعين، تحتمي ببعضها البعض. القضاء مكبّل، الأجهزة تابعة، والإعلام أداة تلميع. لا يُحاسب أحد لأن الجميع متورط. وكلما ارتفعت صرخة شعبية، سُرعان ما يتم قمعها أو شراؤها عبر الزبائنية السياسية. الدولة لم تعد سلطة فوق الجميع، بل غطاء لمافيات تتقاسم النفوذ والثروة.
في الدول السليمة، يُحاكم الفاسد، ويُحاسب من يسيء استخدام السلطة. في لبنان، يُرقّى المجرم، ويُمنح الفاسد منصبًا جديدًا. السلطة القضائية أصبحت أداة سياسية، تفتح ملفات وتغلقها حسب المصالح. من ملف انفجار المرفأ إلى فضائح الكهرباء والنفط، تساقطت قضايا كبرى في مستنقع المحسوبيات. العدالة غائبة، والجرائم مزدهرة.
عندما يصبح النهب بلا محاسبة، يتكرّس كعرف. والأخطر أن الناس يُطبعون معه. في لبنان، لا أحد يستقيل رغم الكوارث، ولا أحد يُحاكم رغم الجرائم المالية. حتى الثورة الشعبية التي اندلعت في 17 تشرين فشلت في كسر هذا الجدار السميك من الحصانات. ومع الوقت، أصبح الفساد نمط حياة، والإفلات من العقاب أحد أركان النظام.

- آثار النهب السياسي على حياة المواطن اللبناني
كيف يعاني الشعب اللبناني من الجوع في بلد يمتلك مقومات الثراء؟ الجواب في جيوب السياسيين، وحساباتهم المصرفية في الخارج. التضخم، البطالة، وانهيار الليرة كلها لم تأتِ من العدم، بل من سياسات نُسجت بعناية لضمان استمرار هيمنة طبقة معينة. المواطن هو الحلقة الأضعف، يُطلب منه “الصبر“، بينما تجري الصفقات في الظلّ.
من الكهرباء والمياه إلى الطبابة والتعليم، كل شيء بات خاضعًا لابتزاز السياسيين. الكهرباء تُقطع لتُباع على شكل مولدات، والمياه أضحت رهينة لأصحاب الصهاريج، والمستشفيات تحولت إلى أبراج استثمارية، والمدارس الرسمية همّشت لصالح المؤسسات الخاصة التابعة للطوائف والأحزاب. هكذا يُجبر المواطن على شراء ما يفترض أن يكون حقّه، فيما يُنهب المال العام لتمويل هذه المنظومة الحقيرة — والفاسدة بامتياز!
مع فقدان الأمل، يغادر الشباب، لا لأنهم يكرهون الوطن، بل لأن الوطن اختطفه اللصوص، لصوص من الدرجة الأولى. الهجرة أصبحت حلمًا، والعيش في لبنان كابوسًا. الطبقة الوسطى تآكلت، والفوارق الاجتماعية اتسعت. والمفارقة أن من كان سبب الأزمة، ما زال يتصدر الشاشات ويتحدث عن “الإصلاح والإنقاذ“!
- كيف نواجه اللصوص المقنعين؟
المعركة مع الفساد لا تبدأ من القضاء أو السياسة فقط، بل من الوعي. يجب أن يُسقط الناس قناع الأناقة عن وجوه المجرمين. لا يكفي أن يكون السياسي لبقًا، بل يجب أن يكون نزيهًا. في لبنان، المطلوب ثورة فكر قبل أن تكون ثورة شارع. على الشعب أن يرفض التبعية، وأن يحاسب بصوته ووعيه لا بعاطفته الطائفية.
لا حلّ في ظل استمرار تقاسم الدولة بين زعماء الطوائف. لبنان يحتاج إلى نظام يضمن الشفافية، قضاء مستقل، محاسبة فعلية، وإدارة خالية من الزبائنية. المطلوب ليس إصلاحات سطحية بل تفكيك كامل لبنية الفساد المقونن. لا يمكن لوطن أن ينهض إذا كان مصيره بيد من يسرقونه كل صباح بنكت وابتسامات وشعارات رنّانة.
الأمل ليس ترفًا، بل ضرورة. على اللبنانيين أن يؤمنوا بأن التغيير ممكن؛ أن ينتزعوا وطنهم من بين أنياب من سرقوه. فلبنان ليس فقيرًا، بل مريض بفساد اللصوص الذين يتقنون الخطابة. والشعب وحده يملك الحق في شفاء هذا الوطن، إذا قرر أن يُسقط الأقنعة، ويرى الحقيقة كما هي.

- الخاتمة
ليس أسوأ من الفقر إلا الفقر المصطنع، وليس أبشع من اللص إلا اللص الذي يتظاهر بالشرف. في لبنان، لم يكن العجز نتيجة قدر، بل نتيجة مافيات سرقت البلد باسم الدولة. هؤلاء اللصوص المقنعون لم يحملوا السلاح بشكل مباشر، بل القلم، ولم يهاجموا الأبرياء، بل أرهقوهم بالديون والذل. واليوم، أمام هذا الواقع، لا بد من صحوة حقيقية تُعيد للبنان كرامته، ولمواطنيه حقهم في العيش الكريم.