اصفاد الفساد تكبّل لبنان
د. الياس ميشال الشويري
عبارة “وطنِي المسجون في قيد لصوص” تعبّر عن الحالة المأساوية التي يعيشها وطن يعاني من الاستغلال والفساد، كما هو واقع الحال في لبنان. هذه العبارة تحمل في طيّاتها أكثر من مجرد كلمات؛ إنها صرخة تعبيرية عن الوطن الذي يخنقه قيد الفساد الذي تمارسه سلطات سياسية فاسدة، لا تأخذ بعين الاعتبار مصلحة الشعب. إن الفساد السياسي والإداري الذي يعم العديد من الدول، وفي طليعتها لبنان، هو العامل الرئيسي الذي يعيق تقدّم هذه الشعوب ويسرق أحلام مواطنيها في العيش الكريم. في هذا البحث، سوف نغوص في معاني هذه العبارة، مع التركيز على لبنان كمثال حي على تأثير الفساد على الشعب والوطن، وكيف أن الفساد أصبح عاملًا رئيسيًا في إعاقة التنمية والتقدم.
1. مفهوم “وطنِي المسجون في قيد لصوص“
من خلال تحليل كل جزء من هذه العبارة، نكتشف أبعادًا متعددة تتعلق بالوطنية، والظلم، والقمع، والفساد.
الجزء الأول من العبارة، “وطني“، يشير إلى الانتماء العاطفي والفكري تجاه الوطن. لا يتحدث هذا الجزء عن مجرد الإقامة في هذا الوطن أو حق المواطنة، بل يتعلّق بحب المواطن لوطنه، رغم ما يمر به هذا الوطن من أزمات قاسية. إن الشعور بالانتماء لا يقتصر على الجغرافيا، بل يمتد إلى الروح الوطنية التي تحاول الصمود بالرغم من الوضع المتدهور. لكن هذا الانتماء غالبًا ما يصبح مريرًا في ظل فساد السلطة، حيث يواجه المواطن تحديات كبيرة في الحفاظ على هويته الوطنية في مواجهة الأوضاع الاجتماعية والسياسية القاسية.
الجزء الثاني من العبارة، “المسجون“، يعكس حالة من الضعف والعجز. الوطن هنا يشبه السجين الذي لا يستطيع التعبير عن إرادته أو ممارسة حريته. في هذا السياق، لا تعني السجون فقط تلك المنشآت التي تحتجز الأفراد جسديًا، بل تشير إلى القمع الاجتماعي والسياسي الذي يعاني منه الوطن. فالوطن الذي يحكمه الفساد يصبح محاصرًا بمشاكل اقتصادية واجتماعية لا يستطيع الخروج منها. من هنا، يتضح أن الوطن يعاني من حالة من “الاختناق” الذي يمنعه من تحقيق أي نوع من التقدّم أو التنمية، وكل محاولات الإصلاح تبقى محكومة بالقيود المفروضة عليه.
أما الجزء الثالث من العبارة، “قيد لصوص“، فيمثّل الفساد الذي يمارسه السياسيون وأصحاب السلطة. اللصوص في هذه الحالة ليسوا مجرد أفراد يتسللون في الظلام، بل هم مسؤولون سياسيون يتلاعبون بمقدرات الوطن. هذه القيود التي يفرضها الفاسدون تمثّل الحواجز التي تمنع المواطن من تحقيق تطلعاته في العيش الكريم، ويستمر الوطن في السير في دائرة مغلقة من الفشل والتراجع. اللصوص هنا لا يسرقون المال فقط، بل يسرقون مستقبل الأجيال القادمة من خلال سياساتهم الفاسدة.
2. الفساد السياسي في لبنان
لبنان يعتبر واحدًا من أبرز الأمثلة على تأثير الفساد السياسي في إعاقة تطوّر الوطن. الفساد ليس مجرد ظاهرة عابرة، بل هو جزء من النظام السياسي اللبناني الذي تكوّن بعد الحرب الأهلية. منذ اتفاق الطائف في 1990، لم يتوقف لبنان عن مواجهة تحديات متتالية بسبب الفساد المستشري في جميع مؤسساته الحكومية.
النظام السياسي في لبنان قائم على المحاصصة الطائفية، وهو ما يفتح المجال للمفسدين للاستفادة من الوضع. فكل طائفة تتحكّم في مؤسسات معينة، ويستفيد السياسيون منها لحماية مصالحهم الشخصية بدلاً من تقديم الخدمات الأساسية للمواطنين. في هذا السياق، نجد أن السلطة السياسية تتسم بالاستبداد والفساد في آن واحد، حيث يُمنح المسؤولون قوى كبيرة على حساب الشعب. في هذه البيئة، يتم تعيين الموظفين في المناصب الحكومية بناءً على الولاءات الطائفية، وليس بناءً على الكفاءة أو القدرة على الخدمة العامة. وهذه السياسات تؤدي إلى فشل المؤسسات العامة في تلبية احتياجات الشعب.
أما على المستوى الاقتصادي، فقد أدت السياسات الفاسدة إلى تدهور حاد في الاقتصاد اللبناني. الفساد في إدارة الأموال العامة أدى إلى تراكم الديون، وفشل في تقديم الخدمات الأساسية للمواطنين. ففي السنوات الأخيرة، أصبح لبنان واحداً من الدول التي تعاني من أزمات مالية خانقة، مع تضخّم غير مسبوق، وفقر يهدد ملايين المواطنين. الأموال التي تم تخصيصها للتنمية والإعمار بعد الحرب الأهلية تم استغلالها في مشاريع وهمية أو في جيوب الأشخاص الذين يتمتعون بعلاقات قوية مع السلطة.
3. تأثير الفساد على المجتمع اللبناني
الفساد في لبنان لم يؤثر فقط على الاقتصاد، بل أضر بشكل عميق بالبنية الاجتماعية. فالفساد في النظام السياسي اللبناني أدّى إلى انتشار الانقسام الطائفي، وهو ما جعل المجتمع أكثر هشاشة وأضعف القدرة على التوحّد لمواجهة التحديات الوطنية.
على المستوى الاجتماعي، أدّى الفساد إلى تفشّي الفقر والتفاوت الطبقي، حيث أصبحت الثروات في يد قلّة من الناس، بينما يعاني الغالبية العظمى من المواطنين من صعوبات اقتصادية متزايدة. هذا التفاوت يخلق مناخًا من الإحباط ويدفع العديد من الشباب اللبنانيين إلى البحث عن حياة أفضل خارج الوطن. ولكن الهجرة ليست الحل المثالي، إذ أن استمرار هذا الوضع سيؤدي إلى خسارة أكبر للطاقات البشرية والفكرية التي تمثّل الأمل في التغيير.
بالإضافة إلى ذلك، يزيد الفساد من تفشي الظواهر السلبية في المجتمع مثل الجريمة والعنف. حيث تصبح الثقافة السائدة هي الاستفادة الشخصية على حساب المجتمع ككل. كما أن الفساد يعزّز من تبادل المصالح بين السياسيين ورجال الأعمال، ممّا يساهم في تعطيل أي جهود حقيقية للإصلاح.
لقد أصبح الفساد، مع مرور الوقت، جزءًا لا يتجزأ من حياة المواطن اللبناني اليومية. هذا الواقع يزيد من العزلة الاجتماعية ويعزّز من الشعور باليأس، حيث يجد المواطن نفسه محاصرًا في دائرة مغلقة من الاستغلال والفساد.
4. الخاتمة
عبارة “وطنِي المسجون في قيد لصوص” تمثّل صرخة احتجاج ضد الواقع المأساوي الذي يعيشه لبنان، حيث أصبحت البلاد أسيرة للفساد السياسي والتسلّط الطائفي. الفساد ليس فقط سببًا رئيسيًا في تدهور الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، بل هو أيضًا العامل المعيق الذي يمنع أي أمل في الإصلاح أو التغيير. رغم هذه الأوضاع، لا يزال هناك أمل في التغيير من خلال العهد الجديد والحكومة الواعدة. إن تحرير الوطن من قيود اللصوص يتطلب وعيًا جماعيًا وإرادة شعبية لتحقيق التغيير، بالإضافة إلى تضافر الجهود المحلية والدولية لدعم لبنان في مرحلة ما بعد الفساد.