أساليب الفساد لا حصر لها
د. الياس ميشال الشويري
تُعدّ السيادة الركيزة الأولى لقيام الدول الحديثة، فهي الإطار الذي تُمارس فيه المؤسسات شرعيتها، وتُبنى من خلاله هيبة الدولة وحقها الحصري في إدارة الشأن العام. غير أنّ السيادة في لبنان لم تكن يومًا معطى ثابتًا، بل كانت ولا تزال ساحة صراع بين مشروع الدولة ومشروع اللا–دولة، وبين سلطة القانون وسلطة الفساد. فالدولة اللبنانية التي يفترض أن تكون مركز القرار، تحوّلت مع السنين إلى مجرّد واجهة تزيّنها الشعارات فيما سلطة الفساد تمسك بمفاصلها، تستنزف مواردها، وتعيد تشكيلها بما يخدم مصالحها. إنها معركة وجودية بين هويتين: لبنان الذي يريد أن يكون دولة طبيعية، حديثة، قادرة، ذات قرار مستقل، ولبنان الذي يُراد له أن يبقى ساحة مفتوحة للميليشيات والمصالح والطوائف والنافذين. في هذا المقال، نتناول التناقض العميق بين سيادة لبنان كما نصّ عليها الدستور وكما يتطلع إليها اللبنانيون، وبين سلطة الفساد التي نشأت في قلب النظام السياسي نفسه، مستفيدة من كل هشاشة وكل فراغ وكل تسوية، لتمسك برقاب الناس والمؤسسات وتغتال كل فرصة للنهوض.

1. السيادة اللبنانية بين النظرية الدستورية وواقع التفكك المؤسساتي
يشكّل مفهوم السيادة في الدستور اللبناني حجر الزاوية لفهم طبيعة الدولة، إذ تُكرّس المواد الأساسية حق الدولة الحصري في بسط سلطتها على أراضيها وشعبها ومؤسساتها. لكن السيادة في لبنان بقيت مفهومًا نظريًا جميلًا معلّقًا في الهواء، إذ لم تستطع الدولة تاريخيًا فرض احتكارها الشرعي للعنف، ولا حماية حدودها، ولا ضبط قرارها السياسي بعيدًا عن التدخلات الخارجية. فالتعددية الطائفية التي تُفترض أن تكون مصدر غنى تحوّلت إلى فخ، حيث اعتبرت كل طائفة نفسها «دولة ضمن الدولة»، ولم تتخلّ يوماً عن منطق الزعامة الذي يتقدّم على منطق الدولة. وهذا التصدّع البنيوي جعل السيادة هشّة في جذورها قبل أن تصبح منتهكة في ظاهرها. ومع مرور الزمن، أصبح تغوّل القوى غير الشرعية على القرار الوطني أمرًا طبيعيًا، وباتت «فكرة الدولة» نفسها مهددة، بينما اللبنانيون يعيشون في وطن بلا سيادة فعلية، يتقاسمه الخارج، وينهشه الداخل.
وفي قلب هذا التصدّع، برزت ظاهرة الانقسام بين السيادة الشكلية والسيادة الفعلية، فالدستور يُعلن أنّ الدولة وحدها تملك السلاح، لكن الواقع يُظهر أنّ هناك «جيوشًا داخل الجيش»، و«سياسات خارج السياسة»، و«قرارات تتخذ في غرف مظلمة» بعيدة عن مؤسسات الشرعية. هذا الانفصال بين النص والواقع كرّس ازدواجية ماكرة جعلت الدولة تُشبه جسدًا حيًا تُدار بعض أعضائه بأوامر خارج العقل الذي يمثلها، ما أدى إلى شلل سياسي وأمني واقتصادي. فالسيادة في معناها العميق ليست شعارًا، بل قدرة على اتخاذ القرار الحر، والقدرة هذه في لبنان مصادرة منذ عقود، أحيانًا باسم المقاومة، وأحيانًا باسم التوازنات، وأحيانًا باسم الحماية الطائفية، وفي المحصلة يبقى الوطن خاسرًا.
وما هو أخطر من ذلك أن المجتمع الدولي نفسه اعتاد التعامل مع لبنان ككيان منقوص السيادة، ما سهّل تدخل القوى الإقليمية والدولية في شؤونه الداخلية. وهكذا، أصبحت السيادة ملفًا تفاوضيًا، تُباع وتُشترى في صفقات خارجية، بينما الطبقة السياسية تهلل لـ«الاستقرار» الذي لا يعني إلا شيئًا واحدًا: ضمان استمرارها في الحكم ولو على حساب الدولة نفسها. وفي هذا المناخ، برز الفساد كسلطة موازية، تُبرر وجودها بضعف الدولة، وتُعمّق هذا الضعف حتى تبقى هي صاحبة القرار.

2. سلطة الفساد ككيان قائم بذاته يلتهم الدولة ويعيد تشكيلها
لم يعد الفساد في لبنان مجرّد سلوك أو حالات فردية، بل تحوّل إلى «نظام حكم» مترسخ في بنية الدولة. إنه منظومة مترابطة تتكوّن من سياسيين ورجال أعمال وميليشيات وموظفين كبار، تتشابك مصالحهم في شبكة محكمة تجعل المحاسبة مستحيلة، وتحوّل كل محاولة إصلاح إلى معركة خاسرة قبل أن تبدأ. فالدولة التي يُفترض أن تكون المؤسسة الناظمة للفساد والقادرة على ضبطه، أصبحت هي نفسها خاضعة له، بل تتحرك بإيقاعه وتدار عبر آلياته. والنتيجة أن المؤسسات العامة لم تعد تعمل وفق القانون، بل وفق منطق «الحصص»، حيث ينتهي أي مشروع إصلاح عند السؤال: لمن تكون المكاسب؟
هذا النظام الفاسد لم يكتفِ بتقويض السيادة السياسية للدولة، بل اخترق سيادتها المالية والاقتصادية. فقد أُفرغت الخزينة على مدى عقود عبر صفقات مشبوهة، ومناقصات وهمية، وتلزيمات لا تخضع لأي رقابة، وتهريب منظم للمال العام إلى جيوب الميليشيات والأحزاب والشركاء. ومع الوقت، صار الاقتصاد نفسه رهينة لشبكة مصالح تحرسها الطوائف وتحميها القوى المسلحة، فتلاشت الشفافية، وتفجّر الدين العام، وانهار القطاع المصرفي، وانكشف الشعب أمام أكبر عملية نهب في تاريخ لبنان الحديث.
لكن السلطة الفعلية للفساد لا تتجلى فقط في المال، بل في القدرة على تعطيل القضاء. فالقضاء الذي يُفترض أن يكون حصن السيادة الأخير، تحوّل إلى ساحة صراع بين القوى السياسية، تُعطّل التعيينات فيه عندما تشعر أنه قد يقترب من ملفاتها، وتُهدّد القضاة عندما يحاولون الاقتراب من الحقيقة. لقد أصبح الفساد في لبنان «دولة موازية» بكل معنى الكلمة، لها مؤسساتها، وقوتها، وحمايتها، ومواردها، وقدرتها على معاقبة من يجرؤ على مواجهتها. وهنا تظهر العلاقة العضوية بين الفساد وانتهاك السيادة: فكلما ضعفت الدولة في الدفاع عن سيادتها، ازدادت قوة الفساد، وكلما اشتد الفساد، تآكلت السيادة أكثر، في حلقة جهنمية لا يستطيع كسرها إلا صدام حقيقي بين مشروع الدولة ومشروع المافيا.
وما يزيد خطورة هذه المعادلة أن الفساد في لبنان لم يعد محليًا فقط، بل بات مدعومًا من شبكات إقليمية ودولية تغذّيه وتحميه مقابل خدمات سياسية وأمنية. وهكذا، تحوّلت الدولة اللبنانية إلى كيان «مُستعمَر داخليًا» عبر طبقة سياسية تعمل لمصلحة الخارج، ومستعمَر «خارجيًا» عبر منظومة فساد تعمل من الداخل لتقويض كل فرصة لبناء وطن مستقل. هذا الارتباط بين الفساد وفقدان السيادة يشكل اليوم التهديد الأكبر لمستقبل لبنان واستمراره كدولة.

3. السيادة المفقودة في الواقع اللبناني اليوم ومعركة استعادتها من براثن المنظومة
في المشهد الحالي، يبدو لبنان نموذجًا حيًا لدولة فقدت سيادتها على مراحل، حتى باتت السلطة الفعلية بيد المنظومة التي تتقاسم النفوذ والمال والقرار. فالمواطن اللبناني يعيش اليوم في دولة لا تستطيع حماية حدودها، ولا ضبط سلاحها، ولا إدارة اقتصادها، ولا محاسبة فاسديها، ولا حتى تنظيم أبسط شؤونها العامة من كهرباء وماء وقضاء. كل ذلك ليس نتيجة «حظ عاثر» كما تزعم السلطة، بل نتيجة مسار متعمد بُني على شراكة عميقة بين الفساد والسلاح والمحميات الطائفية.
فالسيادة اليوم مرتهنة لعوامل ثلاثة: السلاح غير الشرعي الذي يختطف قرار الدولة الخارجي، المنظومة الفاسدة التي تختطف قرارها الداخلي، والطائفية التي تمنع أي إصلاح بنيوي يعيد للدولة وحدانيتها. هذه العوامل جعلت لبنان ساحة مفتوحة، يتدخل فيها الخارج وفق مصالحه، بينما الداخل يتفكك تحت ضربات الأزمة الاقتصادية والاجتماعية. ومع ذلك، يصرّ حكّام لبنان على إنكار الواقع، ويواصلون أداء أدوارهم كأنّ شيئًا لم يحدث، بينما اللبنانيون الذين فقدوا أموالهم ومستقبلهم وسيادة وطنهم يعيشون في جحيم لا نهاية له.
إن استعادة السيادة ليست شعارًا عاطفيًا، بل مسارًا شاقًا يتطلب تغييرًا جذريًا في البنية التي تحكم لبنان. يبدأ هذا المسار من استعادة استقلالية القضاء كي يصبح قادرًا على محاسبة الفاسدين، ويستكمل ببناء اقتصاد منتج حر غير رهين للمحاصصات، ويترسخ في النهاية عبر حصرية السلاح بيد الدولة وعودة القرار السياسي إليها دون وصاية أو تهديد. غير أن هذا الطريق لن يُفتح إلا عندما يدرك اللبنانيون أن الدولة ليست ملكًا للطوائف ولا للأحزاب ولا للميليشيات، بل هي ملكهم هم، وأن السيادة ليست شعارًا بل «حياة أو موت» لوطن يريد أن يعيش.
وفي مواجهة هذه المعركة، يظهر الشعب اللبناني كقوة وحيدة قادرة على فرض معادلة جديدة. فوعيه المتزايد بسقوط الفكرة الطائفية، وتمرده على الطبقة السياسية، واستعداده لمواجهة الفساد، كلها عناصر تجعل من المستقبل مفتوحًا على تحولات كبرى. لكن هذا الوعي يصطدم دائمًا بجدار القوة التي تمتلكها المنظومة، والتي أثبتت قدرتها على القمع، وعلى شراء الوقت، وعلى إنتاج نفسها مهما تغيّرت الظروف. ومع ذلك، فإن التاريخ يُظهر أن كل منظومة فساد تُبنى على حساب سيادة الدولة مصيرها الانهيار مهما طال الزمن، لأن الشعوب التي تُظلم وتُهان قد تصمت لكنها لا تستسلم.

4. الخاتمة
إن العلاقة بين سيادة لبنان وسلطة الفساد ليست مجرد تناقض بين مفاهيم سياسية، بل صراع وجودي بين مشروعين متعارضين: مشروع الدولة التي تسعى إلى بسط سيادتها على أرضها وشعبها ومؤسساتها، ومشروع المنظومة الفاسدة التي تسعى إلى إبقاء الدولة ضعيفة ومشلولة لكي تبقى هي الحاكم الحقيقي. لقد أثبتت التجربة اللبنانية أن الفساد ليس مجرد خلل، بل هو الاحتلال الأخطر، لأنه يأتي من الداخل، ويتسلل إلى كل بنية، ويحوّل الدولة إلى جثة متحركة. لذلك، فإن استعادة السيادة تبدأ من هدم سلطة الفساد نفسها، ومن إعادة بناء الدولة على أسس العدالة، والقانون، والاستقلالية، والشفافية. وفي النهاية، يبقى السؤال الحاسم: هل يختار لبنان أن يكون دولة سيّدة حرّة مستقلة، أم يواصل الانحدار نحو دولة تُدار من الخارج، وتُنهب من الداخل، وتُقتل سيادتها كل يوم؟ الجواب لم يعد في نصوص الدستور، بل في إرادة الشعب، وفي قدرته على كسر الحلقة الجهنمية التي تربط بين الفساد وضياع السيادة.
























































