من يتناولن في غيبتهّن؟
د. الياس ميشال الشويري
حين كتب الأديب المصري البارز مصطفى لطفي المنفلوطي عبارته الشهيرة: “الغيبة رسول الشر بين البشر“، لم يكن يطلق حكمة عابرة أو جملة إنشائية بل كان يضع إصبعه على جرحٍ أخلاقي خطير يتجاوز حدود الأفراد ليصيب المجتمعات بكاملها. فالغيبة ليست مجرد فعل لغوي، بل هي ممارسة تهدم الثقة، وتزرع الكراهية، وتشعل نار الفتن بين الناس. وإذا كان الشر في صورته المادية يقوم على الاعتداء والنهب وسفك الدماء، فإن الغيبة تمثل الشرّ المعنوي الذي يسبق كل تلك الجرائم ويهيئ لها التربة الخصبة. فالغيبة أشبه برسول خبيث يتنقّل بين العقول والقلوب لينقل الأخبار المشوّهة، ويحرّض على العداوة، ويزرع الشكوك، حتى يصبح المجتمع هشًّا، ممزّقًا، عاجزًا عن بناء أي منظومة أخلاقية أو سياسية متينة. ولعلّ لبنان مثالٌ صارخ على ذلك، إذ تحوّل المجتمع اللبناني في كثير من مراحله إلى ساحة مفتوحة للغيبة والتشهير والنميمة، فأصبح الفاسد يختبئ خلف الشائعات، والخائن يحتمي بالكلام المسموم، بينما المواطن البريء يُحاكم بلسان الآخرين قبل أن يُحاكم أمام القضاء. من هنا تبرز أهمية البحث في الغيبة ليس فقط كقضية أخلاقية دينية، بل كمعضلة اجتماعية وسياسية لها تداعياتها المباشرة على حاضر لبنان ومستقبله.
1. الغيبة كأداة لتدمير الثقة بين الأفراد
الغيبة، في جوهرها، فعل هدّام يقوم على انتهاك حرمة الإنسان في غيابه، حيث يصبح صوته غائبًا عن الدفاع عن نفسه بينما تتكاثر حوله الألسن التي تنهش عرضه وسمعته. هذا الفعل يُعتبر من أخطر أدوات تدمير الثقة بين الأفراد، لأن العلاقة الإنسانية السليمة تقوم على صدق الكلمة وأمانة الحديث. فعندما يفقد الإنسان الأمان حتى في غيابه، تتلاشى إمكانية بناء روابط متينة قائمة على الاحترام المتبادل. وفي لبنان، حيث تعيش الطوائف والمذاهب والجماعات في بيئة سياسية واجتماعية متشابكة، تتحول الغيبة إلى وسيلة دائمة للتحريض وإثارة الشكوك بين الناس. فالجار لا يثق بجاره لأنه يسمع عنه في المجالس ما يسيء إليه، والموظف لا يثق بزميله لأن الشائعات تحاصره في مكتبه، والمواطن لا يثق بالسياسي لأن الألسن سبقت إلى تشويه صورته أو تضخيم فساده. وهكذا يصبح المجتمع عبارة عن شبكة من العلاقات المهترئة التي يغيب عنها الصدق والشفافية، وتطغى عليها أجواء الريبة والعداء.
لقد أدرك علماء الاجتماع أن الغيبة ليست مجرد خطيئة فردية، بل هي ظاهرة جماعية تحمل آثارًا خطيرة على البنية المجتمعية. فهي تزرع في النفوس ثقافة الشك، وتجعل كل فرد متوجسًا من الآخر، فلا يُقدِم على التعاون، ولا يبادر إلى التضامن، لأن في ذهنه دائمًا احتمال أن يُطعن في ظهره إذا غاب. هذا المناخ يقتل روح المبادرة، ويعزّز العزلة، ويجعل كل فرد ينكفئ على نفسه بدلاً من أن يندمج في نسيج اجتماعي صحي. في لبنان، تُترجم هذه الظاهرة بشكل صارخ في الحياة السياسية، حيث يُبنى كثير من الخطاب على تشويه الخصوم من خلال الغيبة والتشهير، أكثر مما يُبنى على البرامج والإصلاحات. وهكذا تتآكل الثقة بين المكوّنات اللبنانية المختلفة، ويصبح من المستحيل إقامة دولة حقيقية تقوم على التعاون والاحترام المتبادل، لأن أساسها الأخلاقي قد انهار منذ زمن بعيد.

إن تدمير الثقة عبر الغيبة لا يقتصر على العلاقات الفردية أو السياسية، بل يمتد إلى القيم الأخلاقية نفسها، فيحوّلها إلى شعارات فارغة. فحين يسمع الشاب اللبناني أن الكذب والغيبة والافتراء هي الوسائل الأسرع للوصول إلى المناصب أو لحماية المصالح، فإنه سيفقد إيمانه بقيمة الصدق والنزاهة، وسيتحوّل بدوره إلى ناقل للشائعات وممارس للغيبة دون أي إحساس بالذنب. وبذلك تتكرس في المجتمع ثقافة الانحطاط الأخلاقي، حيث يتربى جيل كامل على أن الكلام المسموم أداة شرعية للنجاح. هذا ما يفسر كيف أنّ لبنان، على الرغم من كثافة خطاباته عن الحرية والديمقراطية، لا يزال عاجزًا عن تحقيق الحد الأدنى من العدالة والشفافية، لأن الثقة بين أبنائه قد نُسفت منذ زمن بعيد على يد الغيبة ورسائلها الشريرة.
2. الغيبة كسلاح بيد الحثالة الاجتماعية في لبنان
في أي مجتمع، هناك فئة من الناس تُعرف بالحَثالة الاجتماعية، وهي تلك التي تعيش على الهامش الأخلاقي والقيمي، وتقتات من استغلال الآخرين وتشويه سمعتهم. هذه الفئة لا تملك مشروعًا بناءً ولا قدرة على الإبداع، لذلك تلجأ إلى أسهل وسيلة لتدمير غيرها: الغيبة. في لبنان، أصبحت هذه الظاهرة جزءًا من المشهد اليومي، حيث تتحول بعض وسائل الإعلام، ومجالس السياسة، وحتى الجلسات العائلية إلى ساحات لنقل الإشاعات وتشويه السمعة. إن الحثالة الاجتماعية تستمد قوتها من قدرتها على إطلاق الكلام الكاذب وترويجه حتى يصبح وكأنه حقيقة، فتصيب من تشاء بالوصمة الاجتماعية أو السياسية دون أن تكلّف نفسها عناء البرهان. وهكذا تصبح الغيبة بالنسبة لهذه الفئة سلاحًا فتاكًا يستخدمونه لابتزاز الشرفاء وحماية مصالح الفاسدين.

الأخطر في الأمر أن هذه الحثالة الاجتماعية لا تعمل بمعزل عن المنظومة السياسية والاقتصادية، بل تشكل جزءًا لا يتجزأ منها. فكم من سياسي في لبنان يحتمي بجيوش من المغتابين والمشوّهين الذين يتولون مهمة الدفاع عنه ليس بالحجج والإنجازات، بل بالافتراء على خصومه وتشويه صورتهم. وكم من رجل أعمال أو صاحب نفوذ يحافظ على مكانته من خلال شراء الألسنة التي تهاجم كل من يكشف فساده أو يقف في وجه طغيانه. في هذا السياق، تتحول الغيبة من مجرد خطيئة أخلاقية إلى أداة ممنهجة في خدمة الفساد والاستبداد، حيث يصبح الشرّ متجذرًا في البنية الاجتماعية والسياسية معًا. إن المجتمع اللبناني يدفع ثمنًا باهظًا لهذه الظاهرة، إذ يرى نفسه محاصرًا بدوامة من الأكاذيب والافتراءات، فلا يعرف أين تكمن الحقيقة، ولا يميز بين الشريف والفاسد، فيفقد بوصلته الأخلاقية والسياسية على حد سواء.

ما يزيد خطورة الغيبة في يد الحثالة الاجتماعية هو قدرتها على تدمير الشخصيات الوطنية أو الفكرية التي يمكن أن تقدم بدائل حقيقية للمجتمع. فكثير من المثقفين والأحرار الذين حاولوا أن يرفعوا صوتهم في وجه الفساد وجدوا أنفسهم ضحية حملات من الغيبة والتشهير التي استهدفت سمعتهم وحياتهم الخاصة لتشويه صورتهم أمام الناس. وهكذا يتحقق هدف الشر: إقصاء الكفاءات والأصوات الحرة، وإبقاء الفضاء العام تحت سيطرة الفاسدين وأتباعهم. في لبنان، يكفي أن يرفع أحدهم صوته بالحق حتى تنهال عليه ألسنة السوء بالافتراءات، فيُعزل ويُحاصر ويُقتل معنويًا قبل أن يُقتل جسديًا. ومن هنا ندرك أن الغيبة ليست مجرد خطيئة دينية، بل هي أخطر أسلحة الفساد المستشري الذي حوّل لبنان إلى مسرح للفوضى والخراب.
3. الغيبة ومعركة الإصلاح الأخلاقي والاجتماعي في لبنان
إذا كانت الغيبة رسول الشر بين البشر، فإن مواجهتها ليست أمرًا فرديًا فحسب، بل هي معركة مجتمعية شاملة. فالمجتمع الذي يريد أن ينهض لا بد أن يبدأ أولاً بتحرير لسانه من الكذب والتشهير، وأن يزرع في أفراده ثقافة الصدق والاحترام. في لبنان، حيث بلغت الأزمات ذروتها، يصبح الإصلاح الأخلاقي واجبًا ملحًا، لأن أي محاولة للإصلاح السياسي أو الاقتصادي ستفشل إذا بقي المجتمع غارقًا في ثقافة الغيبة. فالألسن المسمومة التي تقتل سمعة الناس وتشوّه الحقائق ستظل قادرة على إجهاض أي مشروع إصلاحي، ما لم يتم اجتثاثها عبر التربية والوعي والمحاسبة. إن معركة مواجهة الغيبة هي في حقيقتها معركة لحماية الحقيقة وإعادة الثقة بين الناس، وهي معركة لا تقل أهمية عن مواجهة الفساد المالي أو السياسي.

غير أن هذه المعركة ليست سهلة، لأن الغيبة قد تجذّرت في الثقافة اللبنانية حتى أصبحت وسيلة للتسلية وملء الفراغ، فضلًا عن كونها أداة سياسية واجتماعية خطيرة. فكم من مجلس في لبنان يبدأ بحديث عابر وينتهي بفضيحة مختلقة عن هذا الشخص أو ذاك، دون أن يملك أحد الجرأة على التحقّق أو الدفاع عن الغائب. ولذلك فإن أي إصلاح حقيقي يجب أن يبدأ من المدرسة والعائلة، حيث يتعلم الجيل الجديد أن الكلمة قد تقتل أكثر مما يقتل السلاح، وأن نشر الإشاعة خيانة للمجتمع، وأن الغيبة ليست مجرد خطيئة شخصية بل جريمة بحق الأمة كلها. إذا نجح لبنان في إعادة بناء ثقافة تحترم الصدق وتحمي الغائب، فإنه يكون قد قطع نصف الطريق نحو استعادة كيانه الوطني.
إن مواجهة الغيبة أيضًا تتطلب شجاعة فردية، لأن كل إنسان في لبنان مدعو لأن يقف في وجه الألسن المسمومة، وألّا يسمح لنفسه بأن يكون أداة لنقل الشر. فالمواطن الذي يرفض أن يشارك في الغيبة يصبح سدًا منيعًا أمام انتقال هذا الفيروس الأخلاقي، ويُسهم في حماية سمعة الآخرين وفي بناء مجتمع أكثر نقاءً. وفي المقابل، فإن استمرار الصمت عن هذه الممارسات يجعل الجميع شركاء في نشر الشر وتكريسه. لذلك فإن لبنان اليوم بحاجة إلى ثورة أخلاقية حقيقية تبدأ من الفرد لتصل إلى الدولة، ثورة تجعل من الكلمة مسؤولية ومن الصدق قيمة عليا. وعندها فقط يمكن للبنان أن ينهض من ركام أزماته، وأن يثبت أن مواجهة الغيبة ليست معركة خاسرة، بل بداية لطريق الخلاص.

4. الخاتمة
لقد كان مصطفى لطفي المنفلوطي محقًا حين وصف الغيبة بأنها “رسول الشر بين البشر“، لأنها بالفعل تحمل الشرّ حيثما حلت، وتدمر الثقة، وتفتك بالمجتمعات من الداخل قبل أن تسقطها الأزمات من الخارج. وفي لبنان، حيث تتشابك الأزمات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، لعبت الغيبة دورًا مركزيًا في تعميق الانقسام وزرع العداء وإجهاض محاولات الإصلاح. فهي السلاح المفضل لدى الحثالة الاجتماعية التي تتغذى على التشهير والكذب، وهي الحاجز الأخطر أمام بناء دولة حقيقية قائمة على الشفافية والعدالة. غير أن مواجهة هذا الشر ممكنة إذا أدرك اللبنانيون أن الكلمة أمانة، وأن حماية الغائب مسؤولية، وأن بناء وطن جديد يبدأ من إصلاح الألسن قبل إصلاح المؤسسات. عندها فقط يمكن للبنان أن يخرج من دائرة الشر المغلقة، وأن يحوّل لسانه من رسول للغيبة إلى رسول للحق والخير.