الهجرة تبدو و كإنها آخر الدواء :الكي
د. الياس ميشال الشويري
حين كتب الشاعر والأديب السوري محمد الماغوط عبارته الصادمة: “ما من جريمة كاملة في هذا العصر سوى أن يولد الإنسان عربياً“، لم يكن يمارس لعبته الشعرية الساخرة فحسب، بل كان يضع إصبعه على جرحٍ غائر في الوعي الجمعي العربي. فالولادة التي يفترض أن تكون فاتحة حياة، ونافذة على الأمل، تتحول في العالم العربي إلى تهمةٍ مبكّرة وعقوبةٍ مستمرة، حيث يجد الإنسان نفسه منذ اللحظة الأولى أسيراً لجغرافيا ملغّمة بالاستبداد، ومجتمعات مكبّلة بالتقاليد العمياء، وأنظمة تحترف سحق المواطن بدل رعايته. إنّ الجريمة التي تحدّث عنها الماغوط ليست حدثاً جنائياً يُرتكب في الخفاء، بل هي جريمة علنية، تشهد عليها الشوارع المهملة، والمدارس المتداعية، والمستشفيات الفاسدة، والإعلام المزيّف، والسياسات المعلّبة.
في هذه العبارة يختزل الماغوط قروناً من الانكسارات والهزائم التي تحوّلت إلى قدرٍ ملازم للعربي، فلا يولد إلا ليُحاصر بالفقر والبطالة والفساد، وليعيش في ظل أنظمة تجرّده من كرامته وتتركه نهباً للغربة أو للموت البطيء. إنّها جريمة “كاملة” لأنها لا تترك للإنسان خياراً، ولا تسمح له بالنجاة حتى لو حاول، فالمصير مرسوم مسبقاً على لوح السلطة والقدر. ومع ذلك، تبقى هذه المقولة أيضاً صرخة احتجاج، لا تعني الاستسلام، بل تدعو إلى الوعي بحجم الكارثة من أجل التفكير في سُبل التحرّر منها.
ولعلّ لبنان، في سياقه الخاص، يمثّل المثال الأوضح على هذه المأساة. فالولادة في هذا البلد الصغير، الذي كان يُسمّى يوماً “سويسرا الشرق“، لم تعد بشارة حياة بل إعلاناً عن بداية رحلة عذاب داخل وطنٍ ينهشه الفساد والطائفية والوصايات المتعددة. يولد اللبناني ليجد نفسه محكوماً بسلسلة من الانهيارات الاقتصادية والسياسية والأمنية، وكأنّ انتماءه بحد ذاته هو حكمٌ بالسجن المؤبد. من هنا، تأتي أهمية مقولة الماغوط كمنطلقٍ لبحثٍ عميق يتناول أبعاد هذه “الجريمة الكاملة” التي تلازم كل إنسان عربي، وكيف يمكن تحويلها من لعنة وجودية إلى فرصة للتفكير والنهوض.

1. الجريمة الوجودية ومعنى الولادة في الجغرافيا العربية
حين كتب محمد الماغوط مقولته الشهيرة، لم يكن يقصد المبالغة الشعرية فقط، بل عبّر عن واقعٍ مأساويّ عاشه الإنسان العربي منذ نشأته في بيئةٍ جغرافية وسياسية محكومة بالفوضى، والحرمان، والخيبة المستمرة. إنّ الولادة هنا ليست مجرّد حدث بيولوجي، بل هي دخولٌ قسري في دائرة من الأزمات الوجودية التي لا فكاك منها. فالعربي يولد في مكانٍ يفتقد إلى أبسط مقومات العدالة، حيث السلطة لا تعترف بالإنسان إلا كرقمٍ في سجلّ الولادات أو كأداةٍ لتكريس حكمها. ومنذ اللحظة الأولى، يجد نفسه محكوماً بجريمةٍ لا ذنب له فيها، هي انتماؤه لجغرافيا وكيان سياسي فقد كل أدوات النهضة والتقدّم، فتحوّلت الحياة إلى عقوبة جماعية أشبه بالسجن الكبير.
إنّ توصيف الماغوط للولادة العربية على أنها “جريمة كاملة” لا يخلو من مرارةٍ فلسفية عميقة، فالمجتمعات الأخرى تُولد على أمل الغد الأفضل، بينما العربي يولد على خيبة الأمس والحاضر والمستقبل معاً. فالأرض التي وُصفت بأنها مهد الحضارات والأديان، أصبحت اليوم مقبرةً للأحلام والأوطان، حيث تلتهمها الحروب الداخلية، والطغيان السياسي، والتدخلات الأجنبية، والانقسامات الطائفية. الولادة هنا ليست بدايةً للحياة، بل بدايةً لرحلة عذاب، حيث تتكرّر دورة القمع من المهد إلى اللحد. هكذا يتحوّل العربي إلى سجينٍ في وطنه، يطارده الخوف والبطالة والتهميش، وكأنّ القدر يحمّله ذنب جريمةٍ لم يرتكبها.
لبنان، كجزء من هذا الواقع العربي، يُقدّم نموذجاً فاضحاً لهذه “الجريمة“. فالطفل اللبناني يولد مثقلاً بدينٍ عام لم يساهم في صنعه، ومهدداً بانهيارٍ اقتصادي وسياسي ليس له فيه يد. يولد في بلدٍ تحكمه زعامات ورثت السلطة كما يُورّث العقار، فحوّلت الوطن إلى شركة خاصة. بدل أن تكون الولادة بدايةً لحلمٍ وطني، تصبح إعلاناً عن انضمام ضحية جديدة إلى لائحة طويلة من ضحايا الفساد والخذلان. بهذا المعنى، يتجلّى كلام الماغوط كأنه وصف دقيق للبنان، حيث الإنسان يولد محكوماً بعقوبةٍ سابقة لوجوده.
2. الدولة العربية كمنتج للقهر والإحباط
إذا كانت الولادة في الجغرافيا العربية “جريمة كاملة“، فإن الدولة العربية هي أداة تنفيذ هذه الجريمة. الدولة هنا لا تقوم بوظيفتها الطبيعية كحامٍ للحقوق وضامنٍ للكرامة، بل تتحوّل إلى سلطةٍ أمنية متغوّلة، تُطارد الفرد وتُحاصره في لقمة عيشه ورأيه وحتى في أحلامه. العربي منذ طفولته يتربّى على الخوف: خوف من السلطة، من الرقيب، من الجوع، من المستقبل. بينما المواطن في الغرب يواجه تحديات التنمية والابتكار، المواطن العربي يواجه تحديات البقاء المجرّد، وكأنّ وجوده عبء على الدولة التي يفترض أن تحتضنه.
النظام العربي، في معظم صوره، قائم على إنتاج الإحباط الجماعي. التعليم لا يُخرّج عقولاً حرّة بل أدوات طيّعة. الإعلام لا يكشف الحقيقة بل يكرّس الزيف. الاقتصاد لا يُوزّع الثروة بل يُكرّس الفقر. كل ذلك يخلق حالةً من الانكسار النفسي تجعل العربي يشعر أن حياته ليست إلا سلسلة متواصلة من الهزائم، حتى بات يولد الإنسان العربي وهو يحمل في داخله شعوراً مبكّراً بالخذلان. وهنا يظهر عمق تعبير الماغوط: الجريمة ليست حدثاً معزولاً، بل هي منظومة متكاملة، تبدأ مع الولادة وتستمر مع كل تفصيلة من تفاصيل العيش.
في لبنان، تجسّدت هذه المنظومة بأبشع صورها. فالطبقة السياسية حوّلت الدولة إلى “إقطاعيات” طائفية. المواطن اللبناني يولد محكوماً بانتماء طائفي يسبق مواطنيته، ويعيش رهينةً بين محسوبيات الزعماء، وانهيار الخدمات، وانسداد الأفق. الجامعات تُخرّج آلاف الشباب الذين يهاجرون بحثاً عن وطنٍ بديل، فيما الأرض التي أنجبتهم تحكم عليهم بالتيه. هكذا تصبح الدولة اللبنانية مثالاً صارخاً على “الجريمة الكاملة“: فهي تقتل أحلام أبنائها ببطء، وتحوّلهم إلى غرباء في وطنهم.

3. الهوية العربية بين العبء والتحرّر
الانتماء العربي الذي كان يُفترض أن يكون مصدر فخرٍ واعتزاز، تحوّل مع مرور الزمن إلى عبءٍ ثقيل. الماغوط حين وصف الولادة العربية كجريمة، لم يقصد نفي الهوية الثقافية أو اللغوية، بل انتقد تحوّل هذه الهوية إلى سجنٍ يُكبّل العقل ويمنع التقدّم. فالعربي محاصر بين خطاب ماضوي يقدّس الأوهام، وسلطة مستبدة تستغّل هذا الخطاب لإدامة سيطرتها، ومجتمع يجلد ذاته ويخشى التغيير. الهوية التي كان يمكن أن تكون جسرًا نحو الحداثة، تحوّلت إلى جدارٍ عازل يرسّخ العزلة ويُكرّس الهامشية.
غير أنّ الجريمة الكاملة لا تعني استحالة التحرّر. فوعي المأساة هو أول خطوة نحو الخلاص. الماغوط حين كتب، لم يكن يستسلم للخذلان بل كان يصرخ في وجه القبح ليوقظ الناس. إنّ إدراك أنّ الولادة العربية تضع الإنسان في موقع الضحية لا يجب أن يقود إلى الاستسلام، بل إلى إعادة تعريف الهوية على أسس جديدة: هوية إنسانية، نقدية، منفتحة على العالم، قادرة على تجاوز قيود الطغيان والجهل. فالتحرّر من الجريمة لا يكون بإنكارها، بل بمواجهتها والبحث عن سُبل لتفكيك بنيتها.
في لبنان، حيث الصراع بين الهوية الطائفية والهوية الوطنية بلغ ذروته، تبدو الحاجة أكثر إلحاحاً إلى إعادة تعريف الانتماء. اللبناني المولود في زمن الانهيار ليس محكوماً بأن يعيش ضحية إلى الأبد. رغم كل شيء، ثمة نوافذ أمل: في الشباب الذين يصرخون ضد القمع، في المثقفين الذين يكسرون جدار الصمت، في المبادرات الفردية التي تحاول إعادة بناء ما دمّرته السلطة. هنا يصبح كلام الماغوط جرس إنذار، لكنه أيضاً دعوة إلى النهوض: نعم، الولادة في العالم العربي قد تبدو جريمة، لكن بإمكان اللبناني أن يحوّل هذه الجريمة إلى حافز لإعادة بناء وطنٍ يستحق الحياة.

4. الخاتمة
مقولة محمد الماغوط ليست مجرّد صياغة أدبية، بل هي مرآة تعكس مأساة الإنسان العربي المعاصر، حيث الولادة ليست نعمة بل ابتلاء، وحيث الجغرافيا تتحوّل إلى قدرٍ ظالم. إنّها صرخة في وجه منظومات القمع والخذلان، التي جعلت من كل عربي مشروع ضحية منذ لحظة ميلاده. ومع ذلك، فإنّ “الجريمة الكاملة” ليست قدراً أبدياً، بل يمكن أن تتحوّل إلى بداية وعي جديد، شرط أن يجرؤ الإنسان على المواجهة والنقد والبناء. في لبنان، كما في العالم العربي، يكمن الخلاص في تجاوز الهويات القاتلة، وفي استعادة معنى المواطنة، وفي تحرير الولادة من لعنة الجريمة إلى نعمة الحياة.