الخذلان اقرب الى المنطق
د. الياس ميشال الشويري
تُعدّ الانتخابات البلدية والاختيارية في لبنان محطة ديمقراطية ضرورية يُفترض أن تعكس إرادة الشعب وتحقيق التغيير على مستوى الإدارة المحلية، إلا أن هذه المحطة غالبًا ما تتحول إلى مرآة تعكس عجز النظام السياسي الطائفي، وترسيخ النفوذ الزبائني، وإعادة إنتاج الطبقة الحاكمة التي ساهمت في خراب البلدات وتغيير ديموغرافيتها. وبين فرح الناس بفوز من خدم بلدته بصدق، وخيبة أملهم من فوز من تجب محاسبته، تنكشف مفارقة حادة: كيف لصندوق الاقتراع أن يجمع بين رموز الإصلاح ورموز الفساد في لحظة واحدة؟ هذه الإشكالية تقودنا إلى تحليل عميق لماهية الانتخابات المحلية في لبنان، وطبيعة الخيارات المطروحة أمام المواطنين، وحدود المحاسبة الشعبية في ظل نظام سياسي مختلّ.
1. الفرحة المشروعة – حين ينتصر من حافظ على البلدة
حين يُعاد انتخاب شخصيات خدمت بلداتها بإخلاص، وحرصت على نظافتها وتطويرها، يشعر الناس بأن أصواتهم لم تذهب سُدى. فالفائز هنا لا ينجح فقط في الصناديق، بل في قلوب الناس، لأنه أثبت التزامه بمصلحة المواطن لا بمصلحة الزعيم. وتشكّل هذه النماذج أملًا في أن التغيير ممكن على المستوى المحلي، وأن هناك من لا يزال يضع البلد فوق الطائفة والمصلحة. ففي بلدة ما، نُظر إلى فوز رئيس بلدية شريف كمكافأة طبيعية على سنوات من العطاء، حيث حافظ على بيئة البلدة، ورفض تهجير أبنائها أو العبث بتركيبتها السكانية، وصمد في وجه ضغوطات سياسية ومالية لإدخال تعديلات مشبوهة على الخريطة الديموغرافية.
هؤلاء الفائزون الحقيقيون يبرهنون أن الوجوه النظيفة يمكن أن تحقّق الفوز من دون شراء أصوات أو الاستقواء بالعصبيات. كما يبعثون برسالة أمل إلى الجيل الشاب بأن التغيير يبدأ من القاعدة، وأن بناء لبنان الجديد لا يحتاج إلى معجزات، بل إلى رجال ونساء مخلصين، نزيهين، لا يتاجرون بآلام الناس. فالفوز في هذه الحالة لا يكون مجرّد حدث انتخابي، بل بداية لمسار تنموي قائم على النزاهة والشفافية.
ومع ذلك، فإن هذه النجاحات الفردية تبقى محدودة الأثر إذا لم تترافق مع إرادة وطنية جامعة لتغيير ثقافة الحكم على المستوى المحلي، ومحاربة الفساد البنيوي المتجذّر في المجالس البلدية عبر عقود من المحاصصة والتحالفات المشبوهة.
2. الحزن المشروع – حين يفوز من يستحّق السجن لا الصندوق
في المقابل، تتجلّى المأساة حين يُنتخب من أساء إلى بلدته، وشارك في تخريبها، أو غيّر وجهها السكاني والديموغرافي عبر صفقات بيع الأراضي أو إسكانات مشبوهة بدافع الربح أو خدمة مشاريع سياسية كبرى. فكيف لمواطن عادي أن يقبل بعودة وجهٍ لطالما ربط اسمه بالصفقات، والتعديات، ونهب الموارد البلدية؟ هذا السؤال الصادم لا يُطرح فقط على الفائز بل على من انتخبه، ما يكشف عن خلل عميق في الوعي الانتخابي، أو في القدرة على الاختيار الحر في ظل الضغوط والابتزازات.
الذين فازوا على أنقاض بلداتهم، هم أنفسهم الذين رفضوا الشفافية، وعطّلوا عمل المجالس، وخضعوا لأجندات سياسية على حساب الصالح العام. وهنا يصبح فوزهم إهانة لا فقط للعمل البلدي، بل لذاكرة الناس التي عانت من ممارساتهم. والأسوأ من ذلك، أن بعضهم متورّط في ملفات فساد علني، ومع ذلك يدخلون الانتخابات كأن شيئًا لم يكن، لأن القضاء غائب، والمحاسبة معدومة.
هذا النوع من “العودة” لا يمكن فصله عن تحالفات القوى التقليدية، التي تستخدم المال الانتخابي، وتُفعّل شبكات الزبائنية، وتلعب على العصبيات الطائفية، لضمان فوز ممثليها، حتى ولو كانوا أدوات لتدمير المجتمعات المحلية. وهكذا تتحوّل صناديق الاقتراع إلى غطاء قانوني لإعادة إنتاج الفساد وتطبيعه، بدلًا من أن تكون وسيلة لتطهير الحياة العامة منه.

3. الخلل في ثقافة المحاسبة والاختيار الديمقراطي
تكشف نتائج الانتخابات البلدية والاختيارية في لبنان عن أزمة عميقة في فهم العمل البلدي وأدبيات المحاسبة الديمقراطية. فغالبًا ما يُختزل المرشح في انتمائه الطائفي أو العائلي، لا في سجله الإنمائي أو سلوكه الأخلاقي. وفي غياب معايير واضحة للمساءلة، يصبح الناخب شريكًا في إعادة الفاسدين إلى الحكم. هذا ما حصل في العديد من القرى التي تجاهل فيها الناس تاريخ مرشحيهم، واختاروا على أساس الولاء أو المال أو الخوف من الآخر.
الخلل لا يكمن فقط في الناخب بل في البنية السياسية العامة، التي تمنع البدائل الجديدة من النمو، وتحاصر المستقلين، وتحرمهم من الدعم المالي أو التغطية الإعلامية. وهكذا يُدفع المواطن للاختيار بين “الأقل سوءًا“، لا بين الأفضل والأنقى. وما يزيد الطين بلّة، هو استخدام بعض الجهّات فزّاعة “التغيير الديموغرافي” أو “الخطر الطائفي” للتلاعب بمشاعر الناس وتخويفهم من التبديل أو المحاسبة.
وفي ظلّ هذا المشهد المعقّد، تغيّب الديمقراطية الحقيقية، وتتحوّل الانتخابات إلى مسرحية لتأكيد السيطرة لا لتجديد الشرعية. وإذا لم يُكسر هذا النمط من خلال حركة مدنية متماسكة، ووعي شعبي ناضج، وإصلاحات قانونية واضحة، فستبقى المجالس البلدية مختبرًا لإعادة تدوير الفشل لا لتحقيق التنمية.

4. الخاتمة
الفرح بفوز الشرفاء، والحزن لنجاح الفاسدين، ليسا مشاعر متناقضة بل واقع يصف تمامًا الحالة اللبنانية المعقدة. فالانتخابات لا تحسم فقط بالأرقام بل بالأخلاق، ولا تنتهي بنجاح المرشح بل تبدأ بمحاسبته. ومن هنا تبرز ضرورة العمل على رفع وعي المواطن، وإعادة تعريف مفهوم العمل البلدي كخدمة عامة لا كوسيلة للهيمنة. لا خلاص للبنان إلا بقيام مجتمع محلي واعٍ، يرفض الصفقات، ويحاسب على الأداء، ويكافئ المخلص، ويقصي الفاسد مهما كان اسمه أو انتماؤه. فصندوق الاقتراع ليس فقط أداة اختيار، بل سلاح تغيير.