الرئس عون وبيان القسم الدستوري على المحك
د. الياس ميشال الشويري
قال الجنرال الفيتنامي ڤو نجوين جياب (Vo Nguyen Giap): “عندما تصبح الوطنية مصدر دخل، يكثُر الوطنيون“. في لبنان، أصبحت الوطنية سلاحًا بيد الساسة والمستغلين الفاسدين الذين حوّلوها إلى وسيلة لتحقيق مكاسب شخصية وسياسية. هذه الظاهرة برزت بشكل أكثر وضوحًا في ظلّ الأزمات المتكررة، من الانهيار الاقتصادي إلى الشلل السياسي، حيث تُستخدم الشعارات الوطنية لإخفاء الفساد وإجهاض أي محاولة للإصلاح.
- الوطنية والطائفية في لبنان
في لبنان، تُختزل الوطنية غالبًا في الطائفية، حيث يدّعي زعماء الطوائف أنهم يمثلون الوطن من خلال حماية مصالح طوائفهم. هذا الادعاء ليس سوى وسيلة لإدامة النظام الطائفي القائم على المحاصصة، والذي يُعزّز الانقسامات بين اللبنانيين بدلًا من توحيدهم تحت راية وطنية جامعة. الطائفية تُقدَّم على أنها ضمانة للاستقرار، لكنها في الحقيقة تمثّل أحد أهم أسباب الفشل في بناء دولة حقيقية. فبدلًا من أن تكون الوطنية جسرًا للتماسك الوطني، أصبحت أداة لإدامة الانقسام ولتكريس الزعامات الطائفية الفاسدة كجزء لا يتجزأ من الهيكل السياسي.
زعماء الطوائف يروّجون أنفسهم كحماة للوطن وسيادته، مستخدمين الوطنية كغطاء يحجب أهدافهم الحقيقية المتمثلة في الحفاظ على مواقعهم ومكاسبهم الشخصية. بدلًا من العمل على تحقيق العدالة الاجتماعية أو الإصلاح الاقتصادي، يُستهلك الخطاب الوطني في تبرير الفشل والتقصير. هذه الزعامات تُتقن استغلال الرمزية الوطنية لتعزيز مواقعها، ما يجعل الوطنية أداة تُستخدم ضد الشعب بدلًا من أن تكون وسيلة لخدمته. في هذا السياق، يصبح الولاء للوطن مرتبطًا بولاء الأفراد لزعماء طوائفهم، مما يُضعف مفهوم المواطنة ويجعل مصلحة الوطن ثانوية مقارنة بمصالح الطوائف.
كلما ظهرت مبادرات إصلاحية أو دُعيت أطراف السلطة للمحاسبة، يُستدعى الخطاب الطائفي كوسيلة لتقويض هذه الجهود. يتّم تصوير أي محاولة لإصلاح النظام الطائفي أو تهديد مصالح النخب الحاكمة الفاسدة على أنها تهديد مباشر للوطن، ممّا يُجهض أي فرصة للتغيير. هذا الخطاب الطائفي يُستخدم ليس فقط لشل المبادرات الإصلاحية، بل أيضًا لإعادة إنتاج النظام القائم باستمرار. الطائفية تصبح سلاحًا فعّالًا لإخماد أصوات التغيير، حيث يُتهم كل من يُطالب بالمحاسبة أو الإصلاح بأنه يعمل ضد مصلحة الوطن، ممّا يُعيد الدائرة المغلقة التي تمنع التقدّم.
- الوطنية والانهيار الاقتصادي
مع الانهيار الاقتصادي الذي يعيشه لبنان، تستخدم المنظومة الحاكمة الشعارات الوطنية كوسيلة لإخفاء مسؤوليتها عن الأزمة. بدلًا من مواجهة الحقائق أو الاعتراف بالسياسات الفاشلة التي قادت البلاد إلى هذه الكارثة، يتّم الترويج لنظرية المؤامرات الخارجية. يُلقى اللوم على أطراف دولية وجهات خارجية يُتهمون بالتآمر على لبنان، في محاولة لصرف الانتباه عن أخطاء الداخل. هذا الخطاب لا يُقنع إلا من لا يريد مواجهة الواقع أو المستفيد أو المنتهز أو الجاهل، حيث أن الأزمة الاقتصادية هي نتاج مباشر لعقود من الفساد وسوء الإدارة والهدر، وليس نتيجة تدخلات خارجية كما يتّم تصويره.
في خضّم الانهيار، تُطرح مشاريع تُسمى “وطنية” و”إنقاذية” بغرض استعادة الثقة. لكن هذه المشاريع، في جوهرها، ليست سوى واجهات لنهب المال العام. يتّم الإعلان عن خطط كبرى لإصلاح الاقتصاد أو تحسين الخدمات، لكنها تُدار بشكل يضمن تحويل الأموال المخصصة لها إلى جيوب الطبقة الحاكمة وشركاتها التابعة. هذه “المشاريع الوطنية” تُستخدم لشرعنة الفساد، حيث يتم تمريرها تحت ستار تحقيق المصلحة العامة بينما تستغّل كوسيلة لتوسيع شبكات المحسوبية والإثراء غير المشروع. المواطن اللبناني، الذي ينتظر بفارغ الصبر حلولًا حقيقية، يجد نفسه أمام وعود فارغة تزيد من إحباطه.
كلما ارتفعت الأصوات الداخلية أو الخارجية مطالبة بالإصلاح المالي أو التحقيق في قضايا الفساد، يُستغل الخطاب الوطني لإسكاتها. يُتهم المطالبون بالمحاسبة بأنهم يعملون ضد “المصلحة الوطنية“، وكأن كشف الفساد ومحاسبة المسؤولين جريمة في حق الوطن. هذا الخطاب يعزّز ثقافة الإفلات من العقاب التي تُهيمن على المشهد اللبناني، حيث يتم تصوير أي محاولة لمساءلة المسؤولين على أنها تهديد للوحدة الوطنية أو السيادة. في ظل هذا السياق، تصبح الوطنية وسيلة لحماية الفاسدين وإدامة النظام الذي أوصل البلاد إلى الانهيار، بدلًا من أن تكون وسيلة لإصلاحه.
هل يذلّل العقبات ام…؟
- الوطنية في زمن الأزمات السياسية
خلال الاحتجاجات الشعبية أو الأزمات السياسية الكبرى، يُستدعى خطاب “الوحدة الوطنية” كوسيلة لإخماد الغضب الشعبي وتهدئة الشارع. السياسيون يدعون الناس إلى التضامن تحت مظلّة الوطنية، مشددين على أهمية الحفاظ على السلم الأهلي ومصالح الوطن العليا. في الوقت نفسه، تستمّر المنظومة الفاسدة في تجاهل مطالب الشعب، مُركزة جهودها على حماية مصالحها الخاصة بدلًا من البحث عن حلول حقيقية للأزمات. هذا الخطاب، الذي قد يبدو مبدئيًا في ظاهره، يتحوّل إلى أداة للتلاعب بالمشاعر الجماعية، حيث يُطلب من المواطنين التضحية بحقوقهم مقابل شعارات فارغة لا تحقّق أي تغيير فعلي على أرض الواقع.
كلما ظهرت مبادرات إصلاحية على المستوى السياسي أو الاقتصادي، يُستغّل الخطاب الوطني لتصويرها على أنها تهديد للوطن أو تنازل عن السيادة. يُثار الخوف من التدخّل الخارجي أو الانحياز لمصالح أجنبية، ويتّم تصوير أي إصلاح جذري كأنه خيانة وطنية. هذه الحجّة تُستخدم لإرجاء الإصلاحات الضرورية أو حتى رفضها بالكامل، بينما يظّل المواطن اللبناني ضحية للسياسات الفاشلة. بدلًا من مواجهة المشكلات البنيوية التي تعصف بالبلاد، يتّم توظيف الوطنية كغطاء لحماية المصالح القائمة، ممّا يعمّق الأزمات ويمنع أي تقدّم نحو بناء دولة مؤسسات حقيقية.
في فترات الأزمات الحادة، سواء كانت اقتصادية أو سياسية، يستغّل السياسيون حالة الفوضى لتمرير قوانين وصفقات تعزّز نفوذهم وسلطتهم. يتّم تصوير هذه التحركات على أنها ضرورية للحفاظ على الاستقرار الوطني، لكن في الواقع، تُستخدم الوطنية كغطاء لتبرير هذه السياسات المشبوهة. بدلاً من إيجاد حلول للأزمات أو العمل على تحسين أوضاع المواطنين، تُدار الأزمات بطريقة تُتيح للمنظومة الحاكمة تحقيق مكاسب إضافية. هذا النهج لا يؤدي فقط إلى تفاقم المشكلات القائمة، بل يعزّز الإحباط الشعبي ويُضعف الثقة في أي دعوات مستقبلية للإصلاح أو الوحدة الوطنية.
- الخاتمة: الحاجة إلى الوطنية الحقيقية
لبنان يعاني من أزمة وطنية حقيقية، حيث تحولت الوطنية من قيمة جامعة ومصدر فخر إلى أداة تُستخدم لتبرير الفساد واستغلال الشعب. النخب السياسية الفاسدة تحوّلت إلى تجار للوطنية، ترفع الشعارات الوطنية عند الحاجة لإخفاء أزماتها وتعميق مكاسبها الشخصية. المواطن اللبناني يجد نفسه محاصرًا بين خطاب وطني فارغ من المضمون وأفعال سياسية لا تمت للوطنية بصلة. هذه الأزمة ليست وليدة اللحظة، بل هي نتاج سنوات طويلة من السياسات الفاسدة التي اختزلت الوطنية في شعارات تخدم قلة حقيرة من السفلة على حساب الأغلبية.
لمواجهة هذه الأزمة، لا بد من بناء نظام يرتكز على الشفافية والمحاسبة. القضاء المستقل والإدارة النزيهة هما المفتاح لإعادة الثقة بين الدولة والمواطن. يجب وضع حد لثقافة الإفلات من العقاب التي سمحت للفاسدين باستخدام الوطنية كدرع يحميهم من المساءلة. المشاريع الوطنية الكبرى يجب أن تُدار بشفافية تضمن أن تكون في خدمة الشعب، لا وسيلة لإثراء المتنفذين الحقيرين. إصلاح المؤسسات، خصوصًا تلك المعنية بمراقبة الإنفاق العام، هو خطوة ضرورية لتحقيق وطنية حقيقية تُعلي مصلحة الوطن فوق المصالح الضيقة.
المظاهرات عند الطلب معظم الاحيان
الوعي الشعبي هو العنصر الأساسي في مواجهة هذه الأزمة. على المواطن اللبناني أن يدرك أن الوطنية ليست مجرّد شعارات أو رموز، بل هي التزام يومي بحقوقه وواجباته. لا بد من تعزيز ثقافة المواطنة التي تقوم على العدالة والمساواة، بعيدًا عن الطائفية التي تُستخدم لتشويه مفهوم الوطنية. وسائل الإعلام المستقلة، ومؤسسات المجتمع المدني، والضغط الشعبي، هي أدوات يمكن أن تُستخدم بفعالية لتفكيك هذا النظام القائم على استغلال الوطنية. الشعب اللبناني بحاجة إلى رؤية وطنية جديدة تركّز على بناء مستقبل مشترك، لا على تعزيز الانقسامات.
لبنان يحتاج إلى العودة إلى روح الوطنية الحقيقية التي تتجاوز الشعارات الفارغة. الوطنية هي التضحية من أجل الصالح العام، هي العمل الجاد على تحسين حياة المواطنين، وهي الوقوف في وجه الفساد والظلم. هذه الروح يمكن استعادتها من خلال قيادة صادقة تعمل من أجل نهضة لبنان ككل، بعيدًا عن الحسابات الطائفية والمصالح الشخصية. مشروع وطني جامع يقوم على العدالة والمساواة هو ما يحتاجه اللبنانيون للخروج من أزمتهم الحالية وبناء وطن يليق بطموحاتهم.
رغم كل التحديات، يملك لبنان مقومات للنهوض إذا ما توافرت إرادة حقيقية للتغيير. الشعب اللبناني أثبت مرارًا قدرته على التكاتف في وجه الأزمات، وهو القوة الحقيقية التي يمكن أن تحرّك عجلة التغيير. الوطنية الحقيقية ليست مجرد كلمات تُقال في المناسبات، بل هي أفعال ملموسة تؤدّي إلى تحسين حياة الناس وتحقيق العدالة الاجتماعية. لبنان يستطيع أن يستعيد مكانته إذا تضافرت الجهود لتحقيق رؤية وطنية صادقة تخدم الجميع دون استثناء.