د. الياس ميشال الشويري
لا يمكن لأي دولة في العالم أن تستعيد عافيتها أو تزرع الثقة في نفوس شعبها إذا كانت ممتلكات الفاسدين مصونة أكثر من كرامة المواطنين، وإذا كان الفاسد يتمتع بحماية طبقية وسياسية تفوق القانون، فيما الشعب ينهار تحت وطأة الفقر والبطالة والانهيار المالي. في لبنان، تحوّل نهب المال العام إلى نظام قائم بذاته، وصارت الأصول المنهوبة في الداخل والخارج رمزًا لزمن المافيا الذي حوّل الدولة إلى مزرعة، والوزارات إلى مغانم، والخزينة إلى صندوق تمويل لطبقة بارعة في الاحتيال. لذلك، بات تجميد أصول الذين جلبوا الذل والمهانة للبنان شرطًا أساسيًا، لا فقط لتحقيق العدالة، بل لإعادة بناء الوطن من جذوره. فالبلد الذي صودر مستقبله، وسُرقت مصارفه، ودُمّر اقتصاده، لم يعد يحتاج إلى شعارات إضافية، بل إلى خطوة واحدة واضحة: وقف ضخ الدم في شرايين الفساد عبر تجميد أصول من تسببوا في تدمير البلاد، تمهيدًا لاستعادتها، ومحاسبتهم، وقطع الحلقة الجهنمية التي تربط المال السياسي بالسلاح والابتزاز والطائفية.
- تجميد الأصول كمدخل لمحاسبة حقيقية في بلد هرّب ثروته و”حصّن” لصوصه
لا يمكن تصور إصلاح حقيقي في لبنان قبل وضع اليد القانونية على الثروات والأملاك المشبوهة التي تراكمت عبر عقود من التزوير والصفقات والمحميات السياسية. فالذين جرّوا البلاد إلى الذل لم يفعلوا ذلك عن جهل، بل عن وعي كامل، وبمنهجية احترافية تقوم على استنزاف المال العام وتحويله إلى حساباتهم الخاصة، بعضها ظاهر، وبعضها مخفي وراء شركات وهمية وعقارات خارج البلاد. من هنا، يصبح تجميد الأصول ليس فعلًا عقابيًا فقط، بل ضرورة لوقف استمرار الجريمة. إذ إن الذين نهبوا المليارات لا يزالون يستخدمون هذه الأموال لتدوير منظومتهم، شراء الولاءات، تمويل الإعلام المأجور، حماية السلاح غير الشرعي، تعطيل القضاء، والتلاعب بمسار الدولة. وإن عدم تجميد أصولهم يعني تركهم أحرارًا في إعادة إنتاج الكارثة نفسها التي دمّرت لبنان. ويتّضح هنا أن المسألة لا تتعلق بالانتقام بل بإيقاف سلطة المال الأسود التي تتحكم بالقرارات المصيرية.
هذا الإجراء، الذي طبّقته دول عديدة استعادة أموالها المنهوبة، يشكل في الحالة اللبنانية امتحانًا لهيبة الدولة. إذ إن غياب تجميد الأصول سمح لهؤلاء بالتهرب، وبالبقاء أقوى من القضاء، وبمنح أنفسهم حصانة مالية وسياسية. والمشكلة ليست في العثور على الأموال بل في منع يد العدالة من الوصول إليها. لذلك، يصبح تجميد الأصول ضرورة قانونية، أخلاقية ووطنية تعيد رسم خط فاصل بين دولة القانون ودولة المزرعة. فالشعب الذي جاع لا يقبل بعد اليوم أن يعيش الفاسد مترفًا، ولا أن يرى من أذلّوا البلاد يتصرفون كأسياد فوق المحاسبة. وهكذا، يشكّل تجميد الأصول الخطوة الأولى والأكثر جدية لكسر هذا التوازن المختلّ بين المواطن المنهوب واللص المحمي.
- المنظومة التي أنتجت الذل والمهانة وضرورة ضربها من نقطة المال لا من مربعات الخطابة
لقد انحدر لبنان إلى الذل ليس فقط بسبب أشخاص، بل بسبب بنية سياسية واقتصادية تقوم على مبدأ “اربح السلطة تحصل على المال، امتلك المال تبقَ في السلطة“. وهذه المعادلة كرّست عبر سنوات طويلة شبكة مصالح متداخلة بين الزعماء، المصارف، المتعهدين، أجهزة الدولة، والنافذين الذين يستخدمون المال العام كمنجم دائم. لذلك، فإن مواجهة هذه المنظومة لا تتم بالخطب ولا بالشعارات، بل بقطع شريانها الحيوي: المال. وتجميد الأصول هو السلاح الأكثر فعالية لإضعاف نفوذ هؤلاء، لأنه يضرب قدرتهم على شراء الصمت، وعلى تجنيد أدواتهم، وعلى تمويل آلة الظلم التي حكمت لبنان.

لقد جرّوا البلاد إلى المهانة حين صادروا قرار الدولة، وفرضوا هيمنة السلاح على السياسة، وحوّلوا الوزارات إلى جبهات نفوذ، وابتزّوا المجتمع الدولي، وأغرقوا لبنان في العزلة والخراب. وحين وقع الانهيار المالي، ظهر بوضوح أن من جلب الذل هو نفسه من راكم ثروات لا تتناسب مع دخل أي مسؤول شريف. فجاءت الكارثة لتكشف أن الفساد لم يكن مجرد خطأ بل كان استراتيجية حكم، وأن إذلال الشعب كان ثمناً لترف طبقة ترى نفسها فوق المحاسبة. ومن هنا، فإن تجميد الأصول لا يستهدف أفرادًا بقدر ما يستهدف قلب المنظومة التي نسجت لبنان على صورتها، ومهّدت لكل التحلل المؤسساتي الذي نعيشه.
إن تجميد الأصول يُعيد المعادلة إلى شكلها الصحيح: المال المشبوه يجمَّد، والمسؤول الفاسد يُحاسب، والدولة تستعيد ما سُرق منها، والمواطن يستعيد ثقته بأن هذا الوطن لا يُدار بعد اليوم كمغارة لصوص. وفي بلد شُلّ قضاءه عبر الضغط والتهويل، يشكل تجميد الأصول خطوة تعيد للدولة قدرتها على ضبط الإيقاع، وتضع الفاسد أمام مسؤوليته أمام القانون، ولو لأول مرة منذ عقود.
- لبنان الجديد لن يولد من دون استعادة الأموال المنهوبة وربط العدالة بكرامة الشعب
إن تجميد الأصول ليس خطوة مالية فحسب، بل هو مشروع تحوّل وطني يعيد تعريف معنى الدولة، ويضع كرامة اللبنانيين فوق مصالح الطغمة الحاكمة. لقد عاش اللبنانيون سنوات من الذل، من أمام أبواب المصارف، ومن خلال انهيار الليرة، ومن خلال إذلال المرضى، وانقطاع الكهرباء، وغياب فرص العمل، والتضخم الذي محق الطبقة الوسطى. وهذه الإهانة لم تكن قدرًا بل نتيجة مباشرة لمن نهبوا الأموال وهربوها وتركوا الشعب يختنق. ولذلك، فإن استعادة الأموال المنهوبة ليست تفصيلًا بل شرط لولادة لبنان الجديد.
وتجميد الأصول خطوة تأسيسية لأنها تفتح الباب أمام محاسبة حقيقية، وتعيد توزيع القوى داخل الدولة، وتمنع استمرار نفوذ الذين دمروا لبنان. وهي في الوقت نفسه رسالة واضحة للشعب بأن زمن الإفلات من العقاب انتهى، وأن الدولة لم تعد تخضع لابتزاز المافيات السياسية والمالية. كما أنها تمهيد لإعادة بناء المؤسسات، وتمويل الإصلاحات، ودعم القطاعات الأساسية من دون الحاجة إلى الديون التي خنقت لبنان لأجيال.
وفي السياق اللبناني، حيث الإهانة العامة تحولت إلى جزء من الحياة اليومية، يصبح تجميد الأصول فعل مقاومة حقيقي ضد المنظومة، لأن المال هو عمود القوة لدى هذه الطبقة التي جلبت الذل. والبلد الذي يريد أن يقف على قدميه لا يمكن أن يترك ثروته في جيوب من دمّروه. وهذه الخطوة، وإن كانت مؤلمة للطبقة الحاكمة، إلا أنها شرط لاستعادة التوازن بين الدولة والمواطن، وبين الحق والباطل، وبين الشرف والسرقة، وبين الكرامة والمهانة.

- الخاتمة
لن يستتب الوضع في لبنان ما لم تُجمّد أصول الذين جلبوا للبنان الذل والمهانة، لأن الفساد في هذا البلد لم يَعُد مجرد ظاهرة، بل أصبح بنية سلطة قائمة على سرقة موارد الدولة وتحويلها إلى جيوب خاصة. وإن تجميد الأصول هو الخطوة الأولى لاستعادة العدالة، وإعادة بناء الثقة، وقطع الطريق على تجدد منظومة الخراب. فاللبنانيون دفعوا ثمن الذل من صحتهم، ومدخراتهم، ومستقبل أولادهم، وحقهم في حياة كريمة. ومن غير المقبول أن يبقى الذين تسببوا بكل ذلك متمتعين بما سرقوه. ولذا، فإن تجميد الأصول ليس مطلبًا شعبياً فقط، بل ضرورة وطنية لإنقاذ لبنان، ووضع حدّ لدورة الانهيار، وفتح باب لبنان نحو دولة القانون لا دولة المافيا.























































