العميد ريمون اده
د. الياس ميشال الشويري
يمثّل العميد ريمون إدّه، أحد أعلام السياسة اللبنانية، نموذجًا فريدًا في تاريخ لبنان الحديث. ارتبط اسمه بالنزاهة والشجاعة، ولقّب بـ”ضمير لبنان” لدفاعه المستميت عن المبادئ الديمقراطية والحريات العامة، وسط أجواء سياسية مضطربة. استطاع العميد إدّه أن يساهم بشكل كبير في صياغة قوانين أعطت لبنان ميزة “سويسرا الشرق“، وكانت رؤيته الإصلاحية متقدمة لعصره.
رغم أنه أُجبر على المنفى، لم يتخلَّ عن لبنان، بل استمر في العمل السياسي كمعارض شرس للفساد، طامحًا إلى تشكيل حكومة منفى تمثّل اللبنانيين الأحرار، إلّا أن مشروعه هذا لم يكتمل بسبب الظروف السياسية المعقدة.
1-القوانين التي استصدرها العميد ريمون إدّه وأثرها على لبنان.
-قانون السرية المصرفية: الأساس لبيروت كمركز مالي. من أبرز إنجازات العميد إدّه كان قانون السرية المصرفية الذي ساهم في تحويل بيروت إلى عاصمة مالية في الشرق الأوسط. أتاح القانون جذب رؤوس الأموال من مختلف أنحاء العالم، ممّا جعل لبنان وجهة مفضلة للمستثمرين، خاصة في فترة الستينيات والسبعينيات.
-قوانين حقوق الإنسان. انطلاقًا من قناعاته بأن الديمقراطية لا تتحقّق إلا بتطبيق الحريات والعدالة، دعم العميد إدّه تشريعات تعزّز الحريات العامة وتكافؤ الفرص. شملت هذه القوانين ضمانات لحماية المواطنين من التعسّف وضمان استقلالية القضاء.
-التشريعات البيئية والثقافية. كان العميد ريمون إدّه رائدًا في تبنّي قوانين تهدف إلى حماية التراث الطبيعي والثقافي للبنان. ساهم في إقرار قوانين لحماية الغابات والشواطئ اللبنانية من الاستغلال العشوائي، بالإضافة إلى تشريعات لحماية الآثار والحفاظ على الهوية الثقافية للبلاد.
-قوانين محاربة الفساد. عمل العميد إدّه على استصدار قوانين تعزّز الشفافية والمساءلة في المؤسسات العامة، وكان من أوائل من دافعوا عن إنشاء أجهزة رقابية مستقلة لمكافحة الفساد الإداري.
2- ظروف المنفى ومشروع حكومة المنفى اللبنانية.
-التحذير من الاغتيال والنفي إلى باريس. في السبعينيات، تلقّى العميد إدّه تحذيرات جدية من الرئيس المصري أنور السادات بشأن خطر اغتياله في بيروت نتيجة لمواقفه السياسية الجريئة والمعارضة للميليشيات المسلحة والتدخلات الأجنبية. رغم عرض الرئيس السادات استضافته في القاهرة، فضل العميد إدّه باريس لتجنّب الإحراج السياسي.
-حلم حكومة المنفى. في منفاه بباريس، عمل العميد إدّه على مشروع تشكيل حكومة منفى تهدف إلى إنقاذ لبنان من قبضة القوى الطائفية والفساد المستشري. كان يسعى إلى بناء قيادة لبنانية جديدة، لكن المشروع لم يُكتب له النجاح بسبب الانقسامات الداخلية وضغوط القوى الإقليمية والدولية.
-استمرارية النضال السياسي في المنفى. رغم بعده الجغرافي عن لبنان، ظل العميد إدّه منخرطًا في الشأن اللبناني. استخدم المنصات الدولية للدفاع عن سيادة لبنان ولإدانة التدخلات الأجنبية، وخاصة السورية والإسرائيلية، التي اعتبرها تهديدًا لوحدة البلاد واستقلالها.
3- مقارنة بين جيله السياسي والجيل الحالي.
-رجال المواقف والرؤى مقابل رجال المصالح. أكد العميد إدّه أن جيله السياسي كان يتميّز بوجود شخصيات ذات مواقف واضحة، سواء في الحكم أو المعارضة. كان السياسيون يتصارعون من أجل المصلحة العامة، بينما الجيل الحالي، الفاسد بامتياز، والذي ترك الضمير في حمّامات الخارج، يغرق في حسابات المصالح الشخصية والتبعية للقوى الخارجية.
-معارضة حقيقية مقابل معارضة صُورية. كان العمل السياسي في فترة العميد إدّه قائمًا على التوازن بين حكومات فعّالة ومعارضة قوية، ممّا عزّز النقاش الديمقراطي. اليوم، أصبحت المعارضة مجرّد ديكور سياسي، والمجلس النيابي شبه معطّل بسبب سيطرة المنظومة الحاكمة الفاسدة والعقيمة!
-ضعف القرار السياسي الحديث. انتقد العميد إدّه غياب الجرأة والابتكار في قرارات السياسيين الجدد، مشبهًا إياهم بتلامذة مدارس ينتظرون التعليمات بدلاً من اتخاذ المبادرات.
4- الإرث السياسي والفكري لريمون إدّه.
-النزاهة كمعيار سياسي. شكل العميد إدّه نموذجًا يحتذى به في النزاهة السياسية. لم يُعرف عنه التورّط في أي فضيحة مالية أو سياسية، ممّا جعله “ضمير لبنان” في زمن كثرت فيه الانتهاكات، من حثالة السياسة!
-الدفاع عن سيادة لبنان واستقلاله. كان العميد إدّه من أشد المدافعين عن استقلال لبنان ورفض التدخلات الأجنبية، سواء من القوى الإقليمية أو الدولية. ظل يطالب بانسحاب القوات الأجنبية من لبنان، مؤكدًا أن السيادة لا تتحقّق إلا بالاعتماد على النفس.
-التشريعات المستدامة. رغم مرور عقود على إقرار قوانينه، لا تزال العديد منها تمثّل حجر الزاوية في النظام اللبناني، على الرغم من تراجع تطبيقها بسبب الفساد المستشري من المنظومة الحقيرة التي عاثت فساداً في أرجاء الوطن.
-إرث أخلاقي وفكري. أصبح العميد إدّه رمزًا أخلاقيًا وفكريًا يُستشهد به عند الحديث عن النزاهة والشجاعة في العمل السياسي. أظهرت مواقفه أن السياسة يمكن أن تكون أداة بناء إذا ارتبطت بالقيم والمبادئ.
5- العبر المستفادة من مسيرة العميد ريمون إدّه.
-الحاجة إلى رجال دولة حقيقيين. يثبت إرث العميد ريمون إدّه أن وجود رجال سياسة يتمتعون بالنزاهة والشجاعة هو شرط أساسي لبناء الدول.
-أهمية التشريعات الشفّافة والمستدامة. تبرز أهمية القوانين التي أصدرها العميد إدّه في جعل لبنان دولة مزدهرة، ما يثبت أن التشريعات القوية والديمقراطية يمكن أن تحمي المجتمعات من الانهيار.
-ضرورة المعارضة الفاعلة. كان العميد إدّه مثالاً على أهمية المعارضة الفاعلة التي تسهم في تصويب المسار السياسي. غياب مثل هذه المعارضة في يومنا هذا أدى إلى تراجع كبير في الحوكمة في لبنان.
6-الخاتمة: استلهام روح العميد إدّه لبناء المستقبل.
وسط الأزمات المتفاقمة التي يواجهها لبنان اليوم، يبقى إرث العميد ريمون إدّه منارة يستلهم منها السياسيون والشعب على حد سواء. يمثّل العميد إدّه نموذجًا لرجل الدولة الذي قدّم مصلحة الوطن على مصالحه الشخصية، ودفع ثمن مواقفه بنفيه عن وطنه. لبنان اليوم بأمسّ الحاجة إلى قادة على شاكلة العميد إدّه، لإحياء روح الإصلاح وبناء دولة القانون التي طالما حلم بها.
لقد آن الأوان أن يرحل عنّا الحثالة التي لم تجلب معها سوى القمل والسيبان للبنان! المسؤولية تقع علينا كشعب، فالتغيير يبدأ منّا. رحيل المنظومة الفاسدة هو الخطوة الأولى نحو استعادة لبنان الحقيقي، لبنان الثقافة والحضارة، لبنان الوحدة الوطنية والعيش المشترك، لبنان الذي يُعلي شأن أبنائه بدل أن يسحقهم.