الرئيس السابق ميشال عون يلقي كلمة بعد القسم الدستوري
د. الياس ميشال الشويري
لطالما كان لبنان نموذجًا للتنوع الديني والثقافي في الشرق الأوسط، حيث تتعايش مختلف الطوائف والمذاهب تحت سقف واحد. لكن، على الرغم من هذه الصورة الوردية للتعايش، فإن الواقع اللبناني يعكس حالة من الانقسام العميق والهيمنة الطائفية التي تؤثر على كل جوانب الحياة السياسية، الاجتماعية، والاقتصادية. إن الطائفية لم تعد مجرد مكون ثقافي أو ديني في لبنان، بل أصبحت نظامًا سياسيًا قائمًا على المحاصصة والتمييز، مما أوجد أزمة مستمرة في الهوية الوطنية والمواطنة. هذا البحث يتناول التعايش بين الطوائف في لبنان، متناولًا الأسباب التي تقف وراء الطائفية، تأثيراتها على المجتمع اللبناني، محاولات تجاوزها، والفرص المتاحة لبناء لبنان جديد بعيدًا عن الانقسامات الطائفية، حيث يمكن للبنانيين التوحد حول مشروع وطني جامع.
- التكوين الطائفي للبنان: سيف ذو حدين.
يعود التكوين الطائفي للبنان إلى تعاقب موجات تاريخية من الهجرات والفتوحات التي ساهمت في تشكيل نسيج ديني ومذهبي متنوع. فمنذ العهد الفينيقي، مرورًا بالعصر الروماني والبيزنطي، وصولًا إلى الفتوحات الإسلامية والصليبية، شهد لبنان تداخلاً بين الأديان والطوائف. ومع مرور الزمن، تحولت هذه الطوائف من جماعات دينية إلى كيانات سياسية-اجتماعية متجذرة، مما خلق مجتمعًا متماسكًا ظاهريًا، لكنه يحمل في طياته بذور الانقسام الطائفي العميق.
يشكّل التعدد الطائفي مصدر فخر للبعض كونه يبرز غنى لبنان الثقافي، إلا أنه في الوقت ذاته يُنظر إليه على أنه عامل ضعف مزمن. فبدلًا من أن تكون الطوائف أدوات تفاعل ثقافي، تحولت إلى خطوط تماس سياسية، حيث تتصارع للحفاظ على مكتسباتها. هذا الانقسام يجعل كل طائفة تنظر إلى الأخرى كخصم محتمل، مما يهدد الاستقرار الداخلي ويضعف فرص بناء هوية وطنية جامعة تتجاوز الحدود الطائفية.
- النظام الطائفي: من اتفاق إلى مأزق.
النظام الطائفي في لبنان بدأ كاتفاق غير مكتوب يهدف إلى ضمان تمثيل جميع الطوائف بشكل عادل. عندما وُقع الميثاق الوطني عام 1943، كان الهدف تحقيق توازن يضمن عدم هيمنة طائفة على الأخرى. تقرر أن يكون رئيس الجمهورية مارونيًا، ورئيس الحكومة سنيًا، ورئيس مجلس النواب شيعيًا، بهدف تحقيق شكل من أشكال التوازن في الحكم. غير أن هذه الصيغة سرعان ما تحولت إلى صيغة جامدة، حيث بات كل منصب مرتبطًا حصريًا بطائفة بعينها، مما أضعف المؤسسات وأدى إلى تجميد أي إمكانية للتغيير.
مع مرور الوقت، أصبحت الطائفية أداة تستخدمها النخب السياسية لتعزيز سلطتها على حساب المصلحة الوطنية. فقد أدى هذا النظام إلى ترسيخ فكرة “الولاء للطائفة” كشرط أساسي للوصول إلى السلطة، بدلاً من اعتماد معايير الكفاءة والخبرة. في ظل هذا الوضع، باتت القرارات الكبرى تُتخذ عبر توافقات طائفية، ما أدى إلى تعطيل المشاريع التنموية والإصلاحية، وتحولت الدولة إلى ساحة محاصصة تُقسم فيها المنافع بين الزعماء الطائفيين.
- الحرب الأهلية: جراح لم تندمل.
اندلعت الحرب الأهلية اللبنانية عام 1975، وكانت الطائفية في صميم الصراع. كل طائفة سعت إلى تحقيق مكاسب سياسية وعسكرية، مما أدى إلى تقسيم لبنان إلى مناطق نفوذ طائفية. الحرب التي استمرت 15 عامًا خلفت عشرات الآلاف من القتلى والجرحى، وجعلت اللبنانيين يعيشون في خوف دائم من الآخر المختلف. هذه الحرب لم تكن مجرد صراع داخلي، بل كانت ساحة لصراع إقليمي ودولي زاد من تعقيد الوضع الداخلي.
بعد انتهاء الحرب، ورغم توقيع اتفاق الطائف، إلا أن آثار الحرب لا تزال قائمة في النفوس والجغرافيا اللبنانية. فالكثير من اللبنانيين لا يزالون يحملون ذاكرة الحرب والانقسامات الطائفية التي أفرزتها. هذه الجراح غير المندملة تشكل عائقًا حقيقيًا أمام تحقيق مصالحة وطنية شاملة، حيث لا تزال بعض المناطق والمجتمعات تعيش في عزلة طائفية، ما يجعل الحديث عن التعايش مجرد خطاب نظري بعيد عن الواقع اليومي.
- الطائف: إنهاء الحرب لا الطائفية.
عند توقيع اتفاق الطائف عام 1989، كان الهدف الأساسي إنهاء الحرب الأهلية، وليس تفكيك النظام الطائفي. الاتفاق نص على إعادة توزيع السلطات وتقليص صلاحيات رئيس الجمهورية لصالح الحكومة ومجلس الوزراء، لكنه في الوقت ذاته حافظ على منطق المحاصصة الطائفية. فبدلًا من إزالة الطائفية السياسية، تم تكريسها عبر توزيع المناصب بشكل أكثر “عدالة”، وهو ما جعل الطائف أشبه بهدنة مؤقتة لا أكثر.
رغم مرور أكثر من ثلاثة عقود على توقيع الاتفاق، إلا أن الطائفية السياسية لا تزال متجذرة في مؤسسات الدولة. فالزعامات الطائفية استغلت نصوص الاتفاق لتعزيز مواقعها، وباتت تعمل على استدامة هذا النظام لأنه يضمن بقاءها في السلطة. هذه الاستدامة جعلت لبنان عرضة للأزمات السياسية والاقتصادية، حيث تعطل تشكيل الحكومات وتكررت الانهيارات الاقتصادية نتيجة غياب أي مشروع وطني شامل يتجاوز الطائفية.
التظاهرات الطائفية مضرة بالوطن
- الأزمات الاقتصادية: الطائفية كوسيلة للبقاء.
مع تفاقم الأزمة الاقتصادية التي يشهدها لبنان منذ 2019، برزت الطائفية كأداة للبقاء السياسي. ففي ظل غياب الخدمات الأساسية، بات المواطن اللبناني يعتمد بشكل متزايد على الزعامات الطائفية لتأمين احتياجاته اليومية. هذه الزعامات تحولت إلى ما يشبه “دويلات” داخل الدولة، تقدم خدماتها لأبناء طائفتها فقط، مما عمق الانقسام الاجتماعي وعزز الهيمنة الطائفية على الاقتصاد.
الأزمة الاقتصادية كشفت هشاشة النظام الطائفي وعجزه عن تقديم حلول حقيقية. فبدلاً من التركيز على إصلاح اقتصادي شامل، انشغلت الزعامات الطائفية بتعزيز نفوذها السياسي والمالي. هذا الواقع جعل كل محاولة إصلاحية تصطدم بجدار الطائفية، حيث يتم التعامل مع أي مشروع إصلاحي باعتباره تهديدًا لمصالح طائفة معينة، ما يعرقل أي إمكانية لتحقيق تغيير حقيقي على المستوى الوطني.
- الخطاب الطائفي: أداة للتحريض والانقسام.
في الأوقات الحرجة، يُستخدم الخطاب الطائفي كأداة فعالة لحشد الجماهير وضمان الولاء الشعبي. الزعماء السياسيون يلجأون إلى تأجيج المشاعر الطائفية عندما يشعرون بتهديد لمواقعهم، حيث يتم استحضار الماضي الطائفي كوسيلة لخلق حالة من الخوف والانقسام. هذا الخطاب يعزز من حالة الانقسام الداخلي، ويُعيد إنتاج الصراعات التي لم تُحل بعد انتهاء الحرب الأهلية.
وسائل الإعلام تلعب دورًا محوريًا في نشر الخطاب الطائفي، حيث تحولت بعض القنوات التلفزيونية إلى منصات للتحريض الطائفي. ورغم وجود وسائل إعلامية تدعو إلى الوحدة الوطنية، إلا أن تأثيرها يظل محدودًا مقارنة بالخطابات الطائفية التي تلقى رواجًا واسعًا بين الجمهور، ما يزيد من تعقيد المشهد اللبناني.
هوكشتاين: تدخلات خارجية
- الطائفية في الحياة اليومية: واقع معقّد.
رغم سيطرة الطائفية على النظام السياسي، إلا أن الحياة اليومية للبنانيين تعكس واقعًا مختلفًا إلى حد ما. في الأسواق والمطاعم والمؤسسات الخاصة، يعمل اللبنانيون من مختلف الطوائف جنبًا إلى جنب دون أن تشكل الطائفية حاجزًا أمام التعامل اليومي. هذا التفاعل يُظهر إمكانية التعايش بين الطوائف بعيدًا عن المصالح السياسية، حيث يتشارك اللبنانيون ذات المعاناة الاقتصادية والاجتماعية.
ومع ذلك، فإن هذا التعايش يظل سطحيًا وهشًا، حيث يمكن لأي حادث طائفي بسيط أن يعيد تأجيج مشاعر الحذر والريبة بين الطوائف. فاللبنانيون قد يتعايشون في الأماكن العامة، لكنهم يعودون في نهاية اليوم إلى أحياء ومناطق تعكس الانتماء الطائفي. التوازن بين هذا التعايش اليومي والانقسام الجغرافي-الطائفي يجعل من لبنان نموذجًا فريدًا لكنه محفوف بالمخاطر في أي لحظة تأزم سياسي.
- الزواج المدني: صراع على الهوية الطائفية.
يشكل الزواج المدني في لبنان إحدى النقاط الجوهرية التي تبرز التناقض بين الحياة المدنية والنظام الطائفي. فبينما يطالب العديد من اللبنانيين بإقرار قانون يسمح بالزواج المدني داخل البلاد، تصطدم هذه المطالب برفض قاطع من المؤسسات الدينية التي ترى فيه تهديدًا لهوية الطوائف ودورها في تنظيم الأحوال الشخصية. هذا الرفض يعكس مدى هيمنة الطوائف على حياة الأفراد، حتى في القرارات الشخصية البحتة.
ورغم أن العديد من اللبنانيين يلجأون إلى الزواج المدني خارج لبنان، إلا أن هذه الخطوة تعكس حالة الهروب من النظام الطائفي بدلًا من تغييره من الداخل. الزواج المدني يُنظر إليه كوسيلة للتقارب بين الطوائف وكسر الحواجز الطائفية، لكنه في الوقت ذاته يبرز كخطوة سياسية تهدد بإضعاف المؤسسات الدينية، ما يجعله ملفًا شائكًا تتجنبه الطبقة السياسية خوفًا من إثارة حساسيات لا ترغب في مواجهتها.
زواج مدني في قبرص
- الشباب اللبناني: جيل يتحدى الطائفية.
رغم التقاليد الطائفية الراسخة، يبرز جيل جديد من الشباب اللبناني الذي يرفض التقسيمات الطائفية ويدعو إلى بناء دولة مدنية قائمة على الكفاءة والمساواة. المظاهرات التي اندلعت في 17 تشرين الأول 2019 كانت تعبيرًا واضحًا عن هذا الوعي الجديد، حيث هتف الشباب بشعارات وطنية تجاوزت الحدود الطائفية. هذا الجيل نشأ في ظل انهيار اقتصادي وسياسي جعله يرفض الزعامات التقليدية، مطالبًا بدولة قانون لا طائفة.
لكن رغم قوة هذا الحراك، إلا أن الشباب اللبناني يواجه عقبات كبيرة تتمثل في بنية النظام الطائفي العميقة. فالنخب السياسية تستغل الانقسامات الطائفية لإضعاف أي محاولة تغيير، وتعمل على تفتيت الحراك عبر استقطاب جزء منه وإخضاع الآخر للضغوط الاقتصادية والاجتماعية. ومع ذلك، يبقى الأمل معقودًا على هذا الجيل الذي يمثل نافذة حقيقية للخروج من دوامة الطائفية.
- المجتمع المدني: رافعة التغيير.
يلعب المجتمع المدني اللبناني دورًا حيويًا في تعزيز التعايش الطائفي ومحاولة تجاوز الأزمات السياسية. المنظمات غير الحكومية والجمعيات الخيرية تعمل في مجالات عدة، من التعليم والصحة إلى حقوق الإنسان والتنمية الاقتصادية، وتسعى إلى توفير حلول عملية بعيدة عن المحاصصة الطائفية. هذه المؤسسات أصبحت ملاذًا للبنانيين الذين فقدوا الثقة في الدولة، حيث تقدم خدمات كانت في الأصل من مسؤوليات الحكومة.
لكن المجتمع المدني يواجه تحديات كبيرة، أبرزها التضييق السياسي ومحاولات السلطة تقييد نشاطه عبر قوانين وتشريعات تحد من استقلاليته. كما أن بعض المؤسسات المدنية متهمة بالانحياز لطوائف معينة، ما يعيد إنتاج الطائفية بشكل غير مباشر. ورغم هذه التحديات، يظل المجتمع المدني الأمل الأكبر في خلق فضاء مشترك يجمع اللبنانيين تحت راية واحدة تتجاوز الانقسامات التقليدية.
- الإعلام ودوره في تعميق الانقسام أو تحقيق الوحدة.
الإعلام في لبنان يُعد منبرًا رئيسيًا يعكس الانقسامات الطائفية أو يسهم في تخفيفها. فالعديد من وسائل الإعلام اللبنانية تدار من قبل جهات سياسية وطائفية، وتعمل على تعزيز خطاب التحريض والانقسام. البرامج الحوارية التي تُبث في أوقات الأزمات تتحول إلى ساحات معارك كلامية تعكس التوترات الطائفية، ما يساهم في تأجيج الأوضاع بدلاً من تهدئتها.
ورغم هذا الواقع، توجد وسائل إعلامية تحاول أن تلعب دورًا توحيديًا، مسلطة الضوء على القضايا الوطنية المشتركة مثل الفساد والبطالة والانهيار الاقتصادي. هذه المنابر تعمل على تعزيز ثقافة المواطنة وتقديم خطاب جامع يُركز على الحلول بدلًا من تأجيج الصراعات. ومع ذلك، فإن تأثير هذه الوسائل يبقى محدودًا مقارنة بالوسائل الطائفية التي تحظى بدعم مالي وسياسي كبير.
- تدخل القوى الإقليمية: وقود الطائفية.
لا يمكن فهم الطائفية في لبنان دون النظر إلى التدخلات الإقليمية التي تعزز الانقسامات الداخلية. فكل طائفة تقريبًا ترتبط بجهة إقليمية توفر لها الدعم السياسي والمالي، ما يجعل لبنان ساحة لصراع النفوذ بين دول كإيران والسعودية وتركيا وفرنسا. هذه التدخلات تزيد من تعقيد المشهد اللبناني، حيث تتحول الخلافات الداخلية إلى امتداد لصراعات خارجية لا علاقة لها بمصلحة لبنان.
التدخل الإقليمي لم يعد يقتصر على الدعم السياسي فقط، بل بات يشمل الجوانب الاقتصادية والعسكرية، ما أدى إلى ظهور كيانات مسلحة مرتبطة بأجندات خارجية. هذا الواقع يجعل أي محاولة لبناء دولة قوية ومستقلة أمرًا بالغ الصعوبة، حيث تصطدم المشاريع الإصلاحية بمصالح دولية تستخدم لبنان كساحة لتصفية حساباتها.
- الدين والتديّن: بين الطقوس الروحية والانتماء السياسي.
الدين في لبنان يشكل ركنًا أساسيًا في الهوية الفردية والجماعية، لكنه يتحول في كثير من الأحيان إلى أداة سياسية تُستغل لتعزيز الانقسام الطائفي. في الأزمات السياسية، يُلاحظ ازدياد التمسك بالرموز الدينية والخطابات الطائفية التي تُوظف لحشد الجماهير. هذا التديّن السياسي يُضعف من الروحانية الحقيقية للدين، ويجعل المؤسسات الدينية طرفًا في الصراع السياسي بدلاً من أن تكون عامل توحيد وتهدئة.
لكن رغم هذا الاستغلال، يبقى التديّن الفردي في لبنان تجربة روحية شخصية تتجاوز الحواجز الطائفية. فالمناسبات الدينية الكبرى، مثل عيد البشارة الذي يُحتفل به من قبل المسلمين والمسيحيين على حد سواء، تُظهر إمكانية أن يكون الدين عنصرًا جامعًا وليس مفرقًا. كما أن الكثير من اللبنانيين يشاركون في أنشطة دينية تعزز القيم الإنسانية والأخلاقية، بعيدًا عن الطائفية السياسية.
من الحرب الاهلية اللبنانية
- التعليم ودوره في تعزيز الطائفية أو تجاوزها.
النظام التعليمي في لبنان يُعتبر انعكاسًا واضحًا للانقسام الطائفي. فالمدارس الخاصة تتبع في الغالب طوائف معينة، وتُدرس مواد تعكس هوية تلك الطائفة، ما يساهم في تكريس الانتماء الطائفي منذ سن مبكرة. حتى الكتب المدرسية غالبًا ما تتجنب ذكر فصول معينة من التاريخ اللبناني بسبب حساسيتها الطائفية، ما يخلق جهلًا متعمدًا لدى الأجيال حول قضايا وطنية مشتركة.
لكن في المقابل، تُشكل الجامعات الوطنية وبعض المدارس العلمانية فضاءً مشتركًا للطلاب من مختلف الطوائف، حيث يتعلمون جنبًا إلى جنب بعيدًا عن التفرقة. هذه المؤسسات تُعتبر نموذجًا يُظهر إمكانية بناء نظام تعليمي موحد يعزز المواطنة والهوية الوطنية بدلًا من الطائفية. ومع ذلك، يبقى هذا النموذج محدودًا مقارنة بالنظام التعليمي الطائفي السائد، الذي يعيد إنتاج الانقسامات بدلًا من معالجتها.
- الهوية الوطنية: بين الوحدة والانقسام
اللبنانيون يتشاركون في هوية ثقافية غنية تتميز بتنوعها وعمقها التاريخي، لكن هذه الهوية تتعرض باستمرار للاختزال ضمن قوالب طائفية تُضعف الشعور بالانتماء الوطني. في الأحداث الكبرى، مثل العدوان الإسرائيلي أو الكوارث الطبيعية، يظهر اللبنانيون بوحدة وطنية لافتة، لكن هذه الوحدة سرعان ما تتلاشى عند العودة إلى الحياة السياسية اليومية التي تكرس الانقسام.
الهوية الوطنية تظل مشروعًا غير مكتمل في لبنان، حيث تتنافس الهويات الطائفية مع الهوية الجامعة. ومع ذلك، فإن الكثير من الحركات الثقافية والفنية والشبابية تسعى إلى تعزيز مفهوم المواطنة الجامعة من خلال الفن والموسيقى والأدب والمسرح. هذه الجهود تساهم في إعادة صياغة الهوية الوطنية كهوية جامعة تتسع لكل اللبنانيين بمختلف طوائفهم وانتماءاتهم.
- الأزمات الاقتصادية ودورها في توحيد اللبنانيين أو تقسيمهم.
الأزمة الاقتصادية التي يمر بها لبنان منذ 2019 كشفت عن وحدة المعاناة بين اللبنانيين من مختلف الطوائف. انهيار العملة وفقدان القدرة الشرائية دفع الجميع إلى الشارع بغض النظر عن انتماءاتهم، حيث بات الفقر والعوز قاسمًا مشتركًا يوحد اللبنانيين في مواجهة الفساد وسوء الإدارة.
لكن رغم هذه الوحدة الظاهرة، فإن الحلول المقترحة للخروج من الأزمة غالبًا ما تتأثر بالانقسام الطائفي. فالأحزاب الطائفية تقدم حلولًا تخدم مصالح طوائفها أولًا، ما يعرقل أي مشروع وطني جامع للخروج من الأزمة. وهكذا، تصبح الأزمات الاقتصادية فرصة للتوحد على مستوى الشارع، لكنها تظل رهينة المصالح الطائفية عند الانتقال إلى مستوى الحلول السياسية.
دور القضاء اساسي
- القضاء ودوره في تكريس الطائفية أو محاربتها.
يُفترض بالقضاء أن يكون أداة لتحقيق العدالة بعيدًا عن الانتماءات الطائفية، لكنه في لبنان يُعتبر جزءًا من نظام المحاصصة. تعيين القضاة غالبًا ما يخضع لموازين القوى الطائفية، ما يضعف استقلالية القضاء ويجعله تابعًا للسلطة السياسية والطائفية. هذا الواقع يُضعف ثقة المواطنين بالقضاء، ويجعلهم يلجأون إلى زعامات طوائفهم لحل النزاعات بدلًا من اللجوء إلى المؤسسات القضائية.
رغم هذا الواقع، هناك قضاة مستقلون يعملون بجدية على مواجهة الفساد والطائفية من داخل النظام، محاولين تعزيز مفهوم العدالة بعيدًا عن الطائفية. هؤلاء القضاة يُشكلون أملًا في بناء سلطة قضائية مستقلة تُساهم في تحقيق العدالة للجميع، لكنهم يواجهون ضغوطًا كبيرة من الأحزاب الطائفية التي تسعى للحفاظ على نفوذها داخل السلطة القضائية.
- دور المغتربين اللبنانيين في تخفيف الطائفية.
المغتربون اللبنانيون يشكلون جزءًا حيويًا من النسيج الوطني، ويُعتبرون عاملًا أساسيًا في الاقتصاد اللبناني من خلال التحويلات المالية. لكن الأهم من ذلك هو أن المغتربين غالبًا ما يكونون أقل تأثرًا بالطائفية، حيث يعيشون في بيئات غير طائفية تجعلهم ينظرون إلى لبنان كوطن واحد بدلًا من كونه مجموعة طوائف.
رغم تأثيرهم الإيجابي، إلا أن المغتربين يواجهون صعوبات في التأثير على الداخل اللبناني بشكل مباشر بسبب النظام السياسي الطائفي الذي يحد من مشاركتهم في الحياة السياسية. ومع ذلك، يعمل الكثير من المغتربين على دعم مشاريع تنموية وطنية بعيدًا عن الحسابات الطائفية، ما يُساهم في تعزيز الوحدة الوطنية والمساهمة في بناء لبنان مدني ومستقل.
- الفن والثقافة: أدوات لتجاوز الطائفية.
الفن والثقافة في لبنان يمثلان فضاءً حراً يساهم في تعزيز الهوية الوطنية المشتركة بعيداً عن التقسيمات الطائفية. المسرح، السينما، والموسيقى اللبنانية تعكس همومًا وطنية تتجاوز الخطابات السياسية الطائفية. شخصيات فنية مثل زياد الرحباني وماجدة الرومي وآخرين يقدمون أعمالاً تجسد معاناة اللبنانيين ككل، رافضين التقسيمات الضيقة، ما يجعل الفن أداة توحيد تُبرز لبنان كوحدة ثقافية وإنسانية.
العديد من المهرجانات الثقافية والفنية في لبنان تجمع مشاركين من مختلف الطوائف، وتساهم في خلق مساحة للتفاعل والتواصل بين اللبنانيين، ما يعزز التعايش والتفاهم المتبادل. ورغم الأزمات السياسية، تظل هذه الأنشطة مصدر أمل وإلهام لشباب يسعى لتغيير الواقع عبر الثقافة والفن كوسيلة لبناء مستقبل خالٍ من الطائفية.
- الرياضة: ميدان للالتقاء أو الانقسام.
الرياضة في لبنان تُعد من المجالات القليلة التي توفر فرصة للقاء اللبنانيين على اختلاف طوائفهم. البطولات الرياضية، خصوصاً كرة القدم وكرة السلة، تشهد تفاعلاً جماهيرياً مشتركاً من مختلف الطوائف، حيث يتوحد المشجعون خلف فرقهم بعيداً عن الطائفية. ومع ذلك، تظهر في بعض الأحيان أحداث شغب ذات خلفيات طائفية تعكس توترات قائمة في المجتمع.
الاتحادات الرياضية اللبنانية تواجه تحديات في منع التمييز الطائفي داخل الأندية والفرق، حيث يبرز النفوذ السياسي والطائفي في عمليات التعيين والإدارة. إلا أن النجاح الذي تحققه الفرق الوطنية في البطولات الخارجية يُسهم في تعزيز الشعور بالانتماء الوطني ويبرز قدرة اللبنانيين على الوحدة خلف علم واحد عندما تتاح لهم الفرصة.
- الأدب والشعر: مرآة لمعاناة اللبنانيين ومصدر للأمل.
الأدب والشعر اللبناني يعكسان صورة حقيقية عن لبنان بمختلف طوائفه. كُتّاب مثل جبران خليل جبران، سعيد عقل، وميخائيل نعيمة قدموا أعمالاً تعبر عن الإنسان اللبناني بعيداً عن هويته الطائفية، ما جعلهم رموزاً للهوية الثقافية اللبنانية. هذه الأعمال تُرسخ فكرة أن الطائفية ليست جزءاً أصيلاً من الهوية اللبنانية، بل هي عائق مصطنع يحول دون تحقيق الوحدة الوطنية.
في العقود الأخيرة، برزت أقلام أدبية جديدة تُحاكي الوضع الطائفي الراهن وتنتقده، مسلطة الضوء على التناقضات التي يعيشها المجتمع اللبناني. الأدب اللبناني الحديث يُشكل منصة لفتح نقاش حول ضرورة تجاوز الطائفية وبناء مجتمع أكثر انفتاحاً، ما يجعل الكلمة أداة فعالة في مواجهة الانقسامات الطائفية والتأسيس لثقافة المواطنة الحقيقية.
- الحركات النسوية: كسر الحواجز الطائفية.
الحركات النسوية في لبنان تُعتبر من أبرز القوى التي تسعى إلى تجاوز الطائفية من خلال التركيز على قضايا المرأة كمجال موحد لجميع اللبنانيين. المطالبة بحقوق المرأة في التعليم، العمل، والمساواة القانونية تجمع نساء من مختلف الطوائف في جبهة واحدة ضد التمييز الاجتماعي والسياسي. هذا الحراك يُسهم في كسر الحواجز الطائفية وخلق جبهة نضال مشتركة تركز على قضايا إنسانية ووطنية.
ورغم النجاحات التي تحققها الحركات النسوية، إلا أن بعض القوى الطائفية تسعى إلى استقطاب هذا الحراك وتطويعه بما يخدم مصالحها السياسية. إلا أن الوعي المتزايد بين النساء اللبنانيات يساهم في الحفاظ على استقلالية هذا الحراك، ويؤكد على أهمية التركيز على الحقوق المشتركة كمدخل لتجاوز الطائفية.
- الإعلام الجديد ووسائل التواصل الاجتماعي: سلاح ذو حدين.
وسائل التواصل الاجتماعي باتت تلعب دوراً محورياً في تشكيل الرأي العام اللبناني، حيث توفر منصة للتعبير عن الآراء بعيداً عن القيود الطائفية التقليدية. الحركات الاحتجاجية التي اندلعت عام 2019 اعتمدت بشكل كبير على وسائل التواصل لنشر أفكارها وجمع اللبنانيين تحت شعارات وطنية موحدة، ما جعلها وسيلة فعالة لتعزيز التفاعل الوطني وكسر هيمنة الأحزاب الطائفية على الإعلام التقليدي.
لكن في المقابل، تُستخدم وسائل التواصل أيضاً كمنصة لنشر خطاب الكراهية والتحريض الطائفي، حيث تستغل بعض الأحزاب والمنصات الإلكترونية هذه الوسائل لتعزيز الانقسام بدلاً من توحيد اللبنانيين. ورغم هذا التحدي، تبقى وسائل التواصل الاجتماعي أداة قوية يمكن استثمارها في تعزيز الهوية الوطنية الجامعة وتشكيل وعي جماعي جديد يتجاوز حدود الطائفية.
السياحة الدينية لم تعد مقتصرة على السعودية
- السياحة الدينية: فرصة للتقارب أو أداة للانقسام؟
السياحة الدينية في لبنان تجمع بين المسلمين والمسيحيين، حيث يزور المؤمنون من مختلف الطوائف الأماكن المقدسة التي تحمل رمزية دينية مشتركة، مثل مقام النبي يحيى في البقاع وكنيسة مار شربل في عنّايا. هذه الأماكن تُعتبر نقاط التقاء تُظهر الجانب الروحي المشترك بين اللبنانيين وتُعزز الروابط الإنسانية التي تتجاوز الفروقات الطائفية.
لكن في بعض الأحيان، تُستخدم السياحة الدينية كوسيلة لتعزيز الانتماءات الطائفية، حيث يُروج لها على أساس طائفي يعزز الفصل بدلاً من الوحدة. ومع ذلك، تبقى السياحة الدينية فرصة لتعزيز الحوار بين الأديان وتقريب وجهات النظر، ما يُساهم في بناء مجتمع أكثر تماسكاً وانفتاحاً على الآخر.
- الأمل بالمستقبل: طريق طويل لكنه ممكن.
رغم التحديات الكبيرة التي يواجهها لبنان، يظل الأمل قائماً ببناء دولة مدنية تُحقق العدالة والمساواة لجميع مواطنيها. الشباب اللبناني، المجتمع المدني، والمثقفون يُشكلون القوى الحية التي تسعى إلى تجاوز الطائفية وخلق مستقبل أكثر إشراقاً.
رحلة لبنان نحو التخلص من الطائفية طويلة ومعقدة، لكنها ليست مستحيلة. فالتاريخ اللبناني مليء بالمحطات التي أظهرت قدرة الشعب اللبناني على الوحدة في أصعب الظروف. ويظل العمل على تعزيز ثقافة المواطنة، وتكريس العدالة الاجتماعية، وبناء مؤسسات قوية، هو السبيل الوحيد لضمان مستقبل يُحقق طموحات اللبنانيين في وطن خالٍ من الطائفية والانقسامات.
- الاقتصاد اللبناني: تحديات محلية وآفاق التنمية.
الاقتصاد اللبناني يواجه تحديات كبيرة نتيجة للأزمة الاقتصادية التي ضربت البلاد في السنوات الأخيرة. هذه الأزمة تترافق مع تضخم غير مسبوق، تدهور العملة الوطنية، وارتفاع نسبة البطالة. ولكن رغم ذلك، يبقى الاقتصاد اللبناني مرنًا في بعض مجالاته مثل السياحة، المغتربين، والخدمات المالية، ما يعكس قدرة الشعب اللبناني على التكيف مع الأزمات.
لكن من الصعب على الاقتصاد اللبناني أن يزدهر دون إصلاحات جذرية في النظام السياسي الذي يعتمد على المحاصصة الطائفية. الاقتصاد يحتاج إلى استقرار سياسي ومؤسساتي لتحسين بيئة الأعمال واستقطاب الاستثمارات. أي حلول اقتصادية تستند إلى استمرار الطائفية ستكون محكومة بالفشل، حيث أن القضاء على الفساد والمفسدين يتطلب تغييرًا جذريًا في طريقة إدارة البلاد بعيدًا عن الطائفية.
- تأثير النزاعات الإقليمية على لبنان: بين التدخلات والمصالح الوطنية.
لبنان يقع في قلب منطقة مضطربة، حيث تتداخل مصالح القوى الإقليمية والدولية في تحديد مصيره. التدخلات الخارجية تؤثر على الوضع السياسي اللبناني بشكل كبير، سواء من خلال دعم بعض الأحزاب الطائفية أو محاولة فرض مصالح خارجية على حساب الاستقرار الداخلي. هذه التدخلات لا تساعد على بناء الدولة اللبنانية كما يجب، بل تزيد من تعميق الانقسامات الطائفية وتعقيد المشهد السياسي.
لكن في المقابل، يمكن للبنان الاستفادة من موقعه الجغرافي والسياسي إذا تمكن من بناء علاقات متوازنة مع جيرانه والعالم، من خلال سياسة حيادية تقوم على المصالح الوطنية المشتركة. التركيز على تعزيز السيادة الوطنية وتوحيد الصفوف بين اللبنانيين حول قضايا وطنية بعيدًا عن الانقسامات الطائفية سيسهم في تعزيز استقرار لبنان على المستوى الإقليمي والدولي.
- الشباب اللبناني: جيل يتحدى الطائفية.
جيل الشباب اللبناني هو الجيل الذي شهد فشل النظام الطائفي في تلبية تطلعاتهم، وبات أكثر إصرارًا على تغيير الوضع الراهن. في ثورة 2019، لعب الشباب دورًا محوريًا في التحرك ضد الفساد والطائفية، مجسدين رؤية جديدة للبنان بعيدًا عن الانقسامات الطائفية. هؤلاء الشباب يسعون إلى بناء دولة مدنية تتجاوز الهوية الطائفية لصالح الهوية الوطنية.
رغم التحديات الكبيرة التي يواجهها الشباب اللبناني، مثل الهجرة والبطالة، إلا أنهم يبقون أمل لبنان في المستقبل. من خلال التعليم، التفاعل عبر منصات التواصل الاجتماعي، والمشاركة في الحركات الاجتماعية، يظهر الشباب اللبناني القدرة على تجاوز الخطابات الطائفية وبناء مجتمع قائم على العدالة والمساواة.
- الحلول المقترحة: بناء لبنان المدني.
من أجل بناء لبنان مدني ومستقر، يجب أولًا القضاء على نظام المحاصصة الطائفية من خلال سلسلة من الإصلاحات السياسية. هذه الإصلاحات يجب أن تشمل تشكيل حكومة كفاءات مستقلة تعمل على تنفيذ خطط إصلاحية تشمل كافة المجالات: من مكافحة الفساد، إلى تحسين التعليم والصحة، وصولاً إلى تعزيز الحريات العامة والمساواة أمام القانون.
على الرغم من صعوبة هذا التحول، إلا أن هناك إمكانية لتحقق هذا الحلم إذا اتحد اللبنانيون حول هدف واحد: بناء دولة تضمن العدالة والمساواة لجميع مواطنيها. التغيير يبدأ من القاعدة الشعبية من خلال التربية على المواطنة والهوية الوطنية، ثم يمتد إلى أعلى حيث يتم إصلاح النظام السياسي والمؤسسات بشكل شامل.
- الخاتمة: لبنان بين الأمل والتحديات.
لبنان، هذا البلد الذي أُهدر الكثير من إمكانياته بسبب الانقسامات الطائفية، يمتلك من المقومات ما يجعله قادرًا على بناء دولة مدنية حديثة. الحلم الذي يراود اللبنانيين هو أن يعيشوا في بلد يتجاوز الطائفية إلى المواطنة الكاملة، حيث يصبح التنوع مصدر قوة وليس سببًا للصراع.
رغم التحديات التي يواجهها لبنان، إلا أن الأمل يبقى في الشباب اللبناني، في المثقفين، وفي الحركات الشعبية التي تسعى إلى تحويل لبنان إلى دولة مدنية قائمة على العدالة والمساواة. التغيير، وإن كان صعبًا، يمكن أن يتحقق إذا تمكن اللبنانيون من تجاوز انتماءاتهم الطائفية والتوحد حول مصلحة وطنية واحدة، تضمن لجميع المواطنين مستقبلًا مشرقًا.