الأنتظار القاتل
د. الياس ميشال الشويري
الأمثال الشعبية مرآة عميقة تعكس تجارب الناس ومعاناتهم وتصوراتهم للحياة. فهي ليست مجرد أقوال متوارثة، بل مخزون فكري وفلسفي يلخص مواقف وجودية عابرة للزمان والمكان. ومن بين هذه الأمثال، يبرز المثل الشعبي “عيش يا كديش لينبت الحشيش“، الذي يختصر حالة الانتظار العقيم لوعد قد لا يتحقق أبدًا. المثل يعبّر عن أوهام يصنعها الناس أو تُفرض عليهم من الخارج، فيعيشون حياتهم في دائرة مفرغة من الترقب والتمني بلا جدوى. وإذا أسقطنا هذا المثل على لبنان المعاصر، وجدنا أنه لا يصف فقط واقعًا اجتماعيًا أو نفسيًا، بل يلخص تجربة شعب كاملة تحوّلت حياته إلى رحلة انتظار طويلة لوعود إصلاحية وسياسية واقتصادية لم تتحقق منذ عقود.
لقد أصبح هذا المثل في لبنان اليوم أكثر من مجرد حكمة شعبية، بل تحوّل إلى إطار عام لفهم الواقع. فاللبنانيون ينتظرون إصلاح الكهرباء منذ أكثر من ثلاثين عامًا، وينتظرون محاسبة الفاسدين منذ نهاية الحرب الأهلية، وينتظرون استعادة ودائعهم منذ انفجار الأزمة المصرفية، لكن شيئًا من ذلك لم يتحقق. هم يعيشون يومهم على أمل أن الغد سيكون أفضل، لكن الغد يأتي دائمًا محمّلًا بالمزيد من الخيبات. كأن الزمن في لبنان متوقف عند لحظة عبثية واحدة، حيث الوعود تتجدد باستمرار لكن الواقع يزداد سوءًا. من هنا، يصبح المثل توصيفًا صادقًا لبلد يعيش بين الأمل المجهض والانتظار اللامتناهي.

1. المعنى الفلسفي والرمزي للمثل الشعبي “عيش يا كديش لينبت الحشيش“
يحمل المثل في بنيته معنى فلسفيًا عميقًا، يتجاوز حدود التجربة اليومية ليدخل في مجال التفكير الوجودي. فالكديش، وهو حيوان يعمل بصمت تحت وطأة الحمل، ينتظر نبتة الحشيش التي قد لا تنبت أبدًا. الزمن هنا يتحول من وسيلة لتحقيق الأهداف إلى عبء يثقل الحياة. فانتظار ما لن يأتي يضع الإنسان في دائرة من العدم، حيث يعيش لكن من دون جدوى، كأن الحياة نفسها فقدت معناها.
هذا المثل يعكس أيضًا جدلية العلاقة بين الوعد والواقع. فالإنسان قد يُمنّى بوعود تجعله يعيش على أمل مستقبلي، لكنه يكتشف مع مرور الوقت أن هذا المستقبل مؤجل إلى ما لا نهاية. إن الزمن هنا ليس محايدًا، بل هو سلاح بيد من يملك السلطة ويستعمله لإدامة سيطرته. فالسلطة تعد الناس بالتغيير والإصلاح، لكنها في الحقيقة تشتري الوقت وتحوّل الزمن إلى قيد يربط المواطن بمصير لم يختره.
إلى جانب ذلك، للمثل أبعاد نفسية عميقة. الانتظار الطويل يخلق نوعًا من الخضوع الجماعي للقدر، حيث يتبنى الناس ثقافة الاستسلام بدلًا من ثقافة الفعل. فبدلًا من الثورة على واقع الظلم، يُقال للناس: اصبروا وانتظروا، وكأن الصبر بحد ذاته فضيلة مطلقة حتى لو كان بلا جدوى. ومع تكرار التجارب، تتحول هذه الثقافة إلى نمط عيش يومي، حيث يعيش الناس حياتهم كلها على أمل وعود لا تتحقق، فيفقدون الحافز للتغيير الفعلي. وهذا ما يجعل المثل خطيرًا، ليس فقط لأنه يصف الواقع، بل لأنه يشرعنه ويجعله مألوفًا في الوعي الجمعي.
2. الوعود السياسية في لبنان: انتظار بلا نهاية
منذ عقود، والطبقة السياسية اللبنانية تتقن لعبة إطلاق الوعود. فبعد انتهاء الحرب الأهلية، بشّر الزعماء اللبنانيون بعصر جديد من الدولة الحديثة والمؤسسات الفاعلة، لكن الواقع جاء معاكسًا تمامًا. وعود بإصلاح الكهرباء تحولت إلى مسرحية هزلية تتكرر في كل حكومة، وعود ببناء قضاء مستقل ذهبت أدراج الرياح، وعود باستعادة السيادة لم تتجسد إلا في الخطابات. الشعب اللبناني وجد نفسه أسير وعود كالحشيش الذي لن ينبت أبدًا.
إن المعضلة تكمن في أن هذه الوعود ليست مجرد خطابات سياسية، بل جزء من استراتيجية ممنهجة لإبقاء الشعب في حالة انتظار دائم. السياسيون يطلقون الوعود في كل انتخابات أو أزمة، ليمنحوا الناس أملًا زائفًا يشتري لهم المزيد من الوقت. لكن الزمن لا يعمل لصالح الشعب، بل يتحول إلى دائرة من التكرار والخيبة. المثل هنا يكشف عن عبقرية السلطة في استخدام الوهم كأداة للسيطرة: “عيشوا وانتظروا، لكن لا شيء سيتغير“.
النتيجة أن الشعب بدأ يفقد حساسيته تجاه هذه الوعود، حتى صار يتلقاها بسخرية مريرة. اللبنانيون يقولون عند كل خطاب سياسي “عيش يا كديش لينبت الحشيش“، وكأنهم يعلنون استسلامهم لفكرة أن التغيير الحقيقي لن يأتي من هذه الطبقة. وهكذا تحولت السخرية الشعبية إلى رد فعل طبيعي على الخيبة المتكررة، لكنها في الوقت نفسه تكشف عن عجز جماعي في تجاوز ثقافة الانتظار نحو ثقافة الفعل.
3. الأزمة الاقتصادية والاجتماعية بين الوهم والواقع
لا يقتصر المثل على السياسة وحدها، بل ينطبق تمامًا على الوضع الاقتصادي والاجتماعي في لبنان. فمنذ عقود، يعيش اللبنانيون على وعود متكررة بإصلاح البنية الاقتصادية، لكن الانهيار مستمر بلا توقف. أزمة الكهرباء التي بدأت منذ التسعينيات لا تزال قائمة، وأزمة النفايات عادت لتذكّر اللبنانيين بأن الدولة عاجزة حتى عن إدارة أبسط الملفات. أما الأزمة المصرفية الأخيرة، فقد شكلت ذروة هذا المثل، حيث وعدت الحكومة والمصارف بإعادة أموال المودعين، لكن الناس يدركون أن هذه الوعود قد لا تتحقق في حياتهم أبدًا.
على الصعيد الاجتماعي، تحولت هذه الأزمات إلى عامل تفكك خطير. فالشباب الذين كانوا يحلمون بمستقبل أفضل في وطنهم، وجدوا أنفسهم أمام جدار مسدود، فاختار كثيرون الهجرة. الانتظار الطويل حوّل لبنان إلى بلد طارد لأبنائه، حيث أصبح المستقبل مرهونًا بالرحيل. وهنا يظهر المثل بأشد صوره قسوة: المواطن يعيش حياته كلها منتظرًا تحسينًا في ظروفه، لكنه يموت أو يهاجر قبل أن يرى أي تغيير.
حتى في القطاعات الإنتاجية، يعيش المستثمرون والعمال في دائرة الانتظار نفسها. وعود بإصلاح القوانين وتشجيع الاستثمار لا تتحقق، ما يجعل الاقتصاد رهينة الكلام بدل الفعل. لقد أصبح لبنان مثالًا حيًا على اقتصاد مبني على الوهم، حيث الخطط مكتوبة على الورق لكن الواقع يتجه نحو الانهيار. المثل هنا لا يصف فقط أزمة، بل يختصر فلسفة إدارة كاملة قائمة على إدامة الانتظار بدلًا من صنع الحلول.

4. المواطن اللبناني في دوامة الانتظار اليومي
المثل يتجسد يوميًا في حياة اللبناني. المواطن ينتظر ساعات طويلة للحصول على الكهرباء، أو يقف في طوابير أمام محطات الوقود، أو يبحث بلا جدوى عن دواء مفقود. هذه التفاصيل اليومية تعكس كيف أن الانتظار أصبح أسلوب حياة في لبنان. كأن الزمن لم يعد وسيلة للإنجاز، بل أصبح جدارًا يفصل الناس عن أبسط حقوقهم.
الانتظار لا يقتصر على الحاجات المعيشية، بل يمتد إلى العدالة نفسها. فالمواطن ينتظر منذ عقود محاسبة الفاسدين، لكنه لا يرى سوى المزيد من الحصانات السياسية والقضائية. ينتظر أن تغيّر الانتخابات واقعه، لكنه يعود دائمًا إلى النقطة نفسها. وهكذا يتحول الزمن إلى دائرة مغلقة، حيث الأمل يتكرر لكنه لا يتحقق.
هذا الواقع يولد أثرًا نفسيًا خطيرًا. فالناس يطورون نوعًا من السخرية السوداء، إذ يضحكون على مأساتهم بقولهم “عيش يا كديش“. لكن هذا الضحك يخفي يأسًا عميقًا وشعورًا باللاجدوى. والمفارقة أن السخرية نفسها قد تتحول إلى آلية دفاعية تمنع الناس من التحرك الفعلي. فيعيش اللبناني حياته بين الضحك والبكاء، لكنه يظل في النهاية أسير الانتظار العقيم.

5. الدلالات الحضارية للمثل في السياق اللبناني المعاصر
المثل لا يصف فقط أزمة سياسية أو اقتصادية، بل يكشف عن أزمة حضارية شاملة يعيشها لبنان. فالبلد عالق بين الماضي والمستقبل، عاجز عن الدخول في زمن الإصلاح والحداثة. الشعارات الكبرى مثل “محاربة الفساد” أو “بناء الدولة” أو “تحقيق السيادة” تحولت إلى مجرد أصوات فارغة، أشبه بوعد الحشيش الذي قد لا ينبت أبدًا. هنا يصبح المثل شهادة على فشل مشروع الدولة اللبنانية في صيغتها الحالية.
الدلالة الأعمق هي أن الانتظار الطويل أدى إلى تعطيل قدرة المجتمع على الفعل. فالشعب لم يعد يؤمن بإمكانية التغيير الداخلي، بل صار يراهن على حلول خارجية: دعم دولي، تدخل إقليمي، أو معجزات غيبية. هذا يكرّس عقلية الاعتماد على الخارج بدلًا من المبادرة الذاتية. وفي هذا السياق، يصبح المثل رمزًا لعجز حضاري، حيث يتوقف التاريخ عند حدود الانتظار.
إن أخطر ما في المثل أنه يختصر مصيرًا كاملًا: شعب يعيش بلا خطة واضحة للمستقبل، ودولة عالقة في دوامة الأزمات، وسلطة تتقن صناعة الأوهام. لكن المثل أيضًا قد يحمل في طياته دعوة غير مباشرة إلى الثورة على هذا الواقع، لأن إدراك عبثية الانتظار قد يكون الشرارة الأولى للتحرك. وهنا تكمن المفارقة: المثل الذي يصف العجز قد يتحول إلى حافز للتغيير إذا وعاه الناس بعمق.
6. الخاتمة
لقد أظهر المثل الشعبي “عيش يا كديش لينبت الحشيش” أنه أكثر من مجرد عبارة شعبية، بل هو مفتاح لفهم المأساة اللبنانية في أبعادها كافة. فهو يصف بدقة الانتظار الطويل لوعود سياسية لم تتحقق، وانهيارًا اقتصاديًا قائمًا على الكلام لا على الفعل، ومواطنًا مسحوقًا يعيش حياته في طوابير الانتظار بلا أفق. كما يكشف المثل عن أزمة حضارية شاملة، حيث يعيش لبنان في زمن الوهم بدل زمن الفعل.
العبرة الكبرى أن الانتظار لا يصنع التغيير، وأن الشعوب التي تكتفي بالصبر على وعود كاذبة تظل أسيرة أوهامها. تجاوز هذا المثل لا يكون إلا بالفعل: فعل سياسي يفرض الإصلاح، وفعل اجتماعي يطالب بالحقوق، وفعل حضاري يعيد للبنان دوره ومكانته. أما إذا استمر الشعب في ثقافة الانتظار، فسيظل يعيش كالكديش، منتظرًا حشيشًا لن ينبت أبدًا.