شوشو في إحدى مسرحياته
د. الياس ميشال الشويري
يُعدّ المسرح الرحباني من أهم الظواهر الثقافية والفنية التي أثرت في لبنان والعالم العربي، حيث نجح الأخوان عاصي ومنصور الرحباني في تقديم نموذج فريد يمزج بين الفولكلور، التاريخ، الموسيقى، الشعر، مما جعلهما يُحدثان ثورة في المسرح العربي. وقد استطاع المسرح الرحباني أن يكون صلة وصل بين مختلف الأذواق والشرائح الاجتماعية، محّققًا نجاحًا غير مسبوق في العالم العربي. في هذا البحث، سنناقش نشأة المسرح في لبنان، ونحلل المسرح الرحباني من حيث بنيته الفنية ومضمونه، ونستعرض تأثيره العميق في المشهد الثقافي والفني اللبناني والعربي.
1. نشأة المسرح في لبنان وتطوره
بدأ المسرح اللبناني في أواخر القرن التاسع عشر، حيث تأسست أولى الصالات المسرحية مثل “زهرة سوريا” في بيروت عام 1887، والتي تحوّلت لاحقًا إلى “مسرح فاروق” ثم “مسرح التحرير”. وكان هذا المسرح شاهدًا على تحولات سياسية وثقافية كبيرة، لكن المسرح اللبناني ظلّ يعاني ضعف الهوية وغياب الجمهور العريض، نظرًا لاعتماده بشكل كبير على الأعمال المقتبسة من المسرح الأوروبي.
مع مرور الوقت، بدأ المسرح الشعبي يأخذ مكانة مهمة، خاصة مع الفنان حسن علاء الدين، المعروف بـ”شوشو”، الذي قدّم مسرحًا كوميديًا جماهيريًا استطاع من خلاله تناول القضايا الاجتماعية والسياسية بأسلوب ساخر. كما نافسته فرقة “أبو سليم الطبل”، التي جذبت جمهورًا مختلفًا من الفئات الشعبية، لكن دون أن تحظى بنفس التقدير الثقافي الذي حصل عليه شوشو.
شهد المسرح اللبناني محاولات جادة لإرساء هوية مسرحية لبنانية أصيلة، قادها مخرجون ومؤلفون مثل ريمون جبارة، روجيه عساف، جلال خوري، وأنطوان ملتقى. لكن هذه المحاولات لم تتمكن من الوصول إلى جمهور واسع، حيث غلب عليها الطابع النخبوي والتجريبي، مما جعل المسرح الرحباني يشكل البديل الأكثر نجاحًا وشعبية، إذ استطاع الجمع بين الجودة الفنية والوصول الجماهيري.

2. المسرح الرحباني – الهوية والأسلوب
استطاع الأخوان الرحباني تطوير مسرح فريد من نوعه، يمزج بين الشعر والغناء والدراما، ويعتمد على نصوص موسيقية وغنائية محكمة، مما جعله أقرب إلى “المغناة الشعرية”. وقد اعتمد المسرح الرحباني على بساطة اللغة، وقوة الأداء التمثيلي، وحضور الموسيقى كعنصر جوهري، ما ساعد في وصوله إلى كافة طبقات المجتمع اللبناني والعربي.
تميزت مسرحيات الرحابنة بالاعتماد على التاريخ والتراث كعناصر أساسية في السرد الدرامي، كما هو الحال في أعمال مثل “جبال الصوان“ و”فخر الدين” و”بترا”، حيث تم تجسيد شخصيات تاريخية وإعادة إحياء قصص تراثية بأسلوب حديث. وقد ساعد هذا النهج في ترسيخ الهوية اللبنانية ضمن السياق المسرحي العربي.
على الرغم من عدم مواجهة المسرح الرحباني للسلطة بشكل مباشر، كما في المسرح السياسي الصريح، إلا أنه تضمن رسائل سياسية واجتماعية قوية، مستخدمًا الرمزية والإسقاطات الذكية. فقد قدم انتقادات مبطنة للواقع السياسي والاجتماعي اللبناني من خلال شخصيات وحوارات تستحضر الماضي لتعكس الحاضر، كما تجلى ذلك في “الشخص“ و”لولو”.

3. تأثير المسرح الرحباني واستمراريته
لم يقتصر نجاح المسرح الرحباني على لبنان، بل امتد تأثيره إلى مختلف الدول العربية، حيث قُدّمت أعماله في دمشق، القاهرة، عمان، وبغداد، وأصبحت فيروز رمزًا فنيًا مرتبطًا ارتباطًا وثيقًا بهذا المسرح. وقد ساهمت هذه العروض في نقل الأغنية والموسيقى اللبنانية إلى مستوى عالمي، ما جعل الرحابنة أحد أهم رموز النهضة الثقافية العربية.
ساهم المسرح الرحباني في تخريج عدد كبير من الفنانين الذين أصبحوا رموزًا في المسرح والموسيقى، مثل أنطوان كرباج، عبد الحليم كركلا، وليد عقل، وغيرهم. كما ألهمت أعمال الرحابنة العديد من المسرحيين العرب لتقديم تجارب فنية مستوحاة من هذا النموذج، مما ساعد في الحفاظ على الإرث الرحباني في المسرح العربي.
بعد رحيل الأخوين الرحباني، استمرت العائلة في تقديم أعمال جديدة، حيث حمل زياد الرحباني الراية بأسلوب مختلف، أكثر نقدًا وتجريبًا، كما واصلت السيدة فيروز تقديم المسرحيات الغنائية، مما حافظ على استمرارية هذا المسرح، وإن كان بأسلوب متجدد.

4. الخاتمة
يُعتبر المسرح الرحباني علامة فارقة في تاريخ الفن اللبناني والعربي، حيث نجح في تحقيق معادلة نادرة تمزج بين الأصالة والحداثة، وبين الفن الراقي والجماهيرية الواسعة. ورغم اختلاف الآراء حوله بين مؤيد يرى فيه قمة الإبداع المسرحي، ومعارض يعتبره بعيدًا عن المسرح الجاد، إلا أنه بلا شك أسس لهوية فنية مستقلة، وما زال حتى اليوم يشكل مصدر إلهام للأجيال الجديدة من الفنانين والمسرحيين. إن المسرح الرحباني ليس مجرد تجربة مسرحية، بل هو مدرسة ثقافية متكاملة، رسّخت مفهوم المسرح الغنائي كجزء من التراث اللبناني والعربي.