حمار فوق كرسي
د. الياس ميشال الشويري
في زمن اختلطت فيه المعايير، وضاعت فيه الحدود بين الجدارة والجهالة، أصبحت المفارقات الساخرة أصدق تعبير عن الواقع من كل تقارير المؤسسات الرسمية. من بين تلك العبارات التي تحوّلت إلى شعار نقدي لاذع، تبرز مقولة: “كرسي فوق حمار أنفع وأحسن وأفضل من حمار فوق كرسي“. هذه العبارة الشعبية، رغم بساطتها الشكلية، تحمل في طيّاتها نقدًا عميقًا لواقع سياسي وإداري تُختزل فيه السلطة بالمنصب، لا بالكفاءة، وتُمنح الكراسي لمن لا يستحّق، بينما يُقصى أصحاب العقول والرؤى.
في لبنان، تتجلّى هذه المفارقة بوضوح فاضح، حيث تحتل الطائفية والمحسوبية والصفقات مكان العقل والمؤسسات. الكرسي هنا لا يرتفع بصاحبه، بل يُبتذل إذا جلس عليه من لا يفقه معناه. في هذا البحث، سنفكّك هذه العبارة رمزيًا وواقعيًا، ونسقطها على الحالة اللبنانية الراهنة، لنكشف كيف تحوّل الكرسي من أداة حكم عادل إلى مقعد لتدمير الدولة، وكيف باتت النهايات المأساوية نتيجة حتمية لجلوس “الحمير” على عروش القرار.
1. المعنى الرمزي للعبارة: المفارقة بين الشكل والمضمون
تشير العبارة إلى مفارقة ساخرة تسخر من أولئك الذين يتبوؤون المناصب (الكرسي) دون امتلاك المؤهلات العقلية أو الأخلاقية المناسبة، فالكرسي لا يمنح صاحبه القيمة ما لم يكن مؤهلاً لها. حين يوضع “الحمار” – في رمزيته للجهل والعناد – على الكرسي، لا يترقّى بل يُشوّه الكرسي ذاته. أما حين يُستخدم الكرسي لخدمة الحمار، كرمز للفائدة العملية، يصبح المشهد أكثر منطقية. هذه المفارقة تفتح النقاش حول التمييز بين الجوهر والمظهر في الحكم والإدارة.
في المجتمعات التي تُقاس فيها المناصب بالولاء لا بالكفاءة، يصبح الكرسي أداة تدمير لا إصلاح. فحين يتصدر الجهل المشهد، تختل القيم، ويُرفع من لا يستحق، فيما يُقصى العقلاء. الرمزية هنا تتجاوز مجرد “جلوس” الحمار على الكرسي، بل ترمز إلى سلطة تُمارس من موقع لا يستحقه صاحبه، ما يؤدي إلى قرارات عشوائية وفساد مؤسسي. هذه الترقية الشكلية تعيدنا إلى مفهوم “الدولة الفاشلة” حيث يُكافأ الجهل ويُعاقب الإبداع.
حين يحتل غير الأكفاء مراكز القرار، لا يعود للمؤسسات أي معنى وظيفي. تتحول الإدارات إلى مسارح للمحاباة والطائفية والتبعية، وينهار مبدأ الجدارة. وهذا ما يجعل فكرة “الحمار على الكرسي” مأساة حقيقية تعيشها المجتمعات، حيث يغيب التخطيط وتنهار السياسات العامة، لأن من يُفترض بهم أن يفكروا لا يجيدون إلا تنفيذ الأوامر أو خدمة مصالحهم. وهكذا تصبح المؤسسات عبئاً لا رافعةً للنهضة.

2. إسقاط العبارة على الواقع اللبناني: الكرسي أداة للزعامات لا خدمة الوطن
في لبنان، الكرسي لا يُعطى للأكفأ بل يُوزّع على أساس طائفي ومصلحي. تُدار المناصب كما تُوزّع الغنائم، وكل طرف يسعى ليضع “حماره” على الكرسي لضمان الولاء لا الجودة. تصبح الوزارات والإدارات والمؤسسات مقاطعات خاصة، لا همّ لها إلا خدمة زعيمها، حتى لو كان المسؤول لا يملك أدنى فهم لدور المؤسسة. وهكذا، يتجسد المعنى الحقيقي للعبارة في كل حكومة، مجلس، أو إدارة/مؤسسة عامة لبنانية.
حين يُعيَّن الوزراء والمدراء بناءً على صفقة سياسية لا على سجل مهني، تصبح النتيجة كارثية. تظهر آثار “الحمار على الكرسي” في أزمة الكهرباء، في انهيار الليرة، في غياب التخطيط، في المدارس الرسمية المهترئة، وفي المستشفيات الحكومية المترنحة. كل حمار يُنصَّب يُضيف فصلاً جديدًا في رواية الانهيار الوطني. فالكرسي لم يُصنع للركوب، بل للإدارة، لكنه في لبنان غدا مركباً للجهل.
بات الكرسي في لبنان إرثاً يُورَّث من الآباء للأبناء، كأنه عرش في مملكة لا وطن. أبناء الزعماء يتسلّمون المناصب قبل أن يفهموا معناها، لأنهم ببساطة “من العائلة“. وهذا ما يجعل “الحمار” يتكاثر على الكراسي. من يفشل في وزارة يُعاد توزيره في وزارة أخرى، دون محاسبة، بل بكثير من التهليل والتصفيق. الشعب بدوره يعاني، ويُساق إلى الانتخابات لاختيار “الحمار نفسه بل بثياب جديدة“.
3. النتائج الكارثية لسيطرة الجهلاء على القرار
وجود غير الأكفاء في السلطة يخلق فساداً بنيوياً لا تحله إصلاحات سطحية. فكيف يمكن إحداث تغيير حين تكون الأدوات نفسها فاسدة؟ حتى لو طُبّقت خطط إنقاذ، فإن من ينفّذها لا يملك فهماً أو نية، بل يستخدم الخطط كفرص للنهب. إذن، ليست الأزمة أزمة أفكار، بل أزمة نُفّذَة. الكرسي في يد الحمار يصبح مشروع دمار لا مشروع بناء.
حين يرى المواطن أن كل مؤسسة يُديرها جاهل أو تابع، يفقد إيمانه بالدولة. تتحول الدولة إلى مجرد وهم على الورق، وتنتشر ثقافة “دبّر حالك“. يصبح القانون ضعيفًا، والعدالة شكلية، والتعليم تجارة، والطبابة خدمة انتقائية. كل ذلك نتيجة تراكم عقود من الجلوس الخاطئ على الكراسي. والشعب، بدلاً من التغيير، يكتفي بالشتائم أو الهجرة.
الأخطر من كل ذلك، أن النظام اللبناني غير قادر على الإصلاح الذاتي. من يملكون القرار هم أنفسهم “الحمير على الكراسي“، ولا يمكن لمن جنى الامتيازات أن يتخلى عنها طوعًا. الإصلاح في لبنان لا يمكن أن يبدأ من الداخل، لأنه محكوم بمن لا يفقهون معنى الإصلاح، بل يرونه تهديدًا. وهنا تظهر أهمية الوعي الشعبي، لأن التغيير يبدأ من الكرسي الذي نضعه نحن تحت من يستحق، لا من يركبه من تلقاء نفسه.

4. أمل التغيير: نحو وعي يجعل الكرسي وسيلة لا غاية
الخروج من هذه الدوامة يتطلب ثقافة جديدة تُعلي الكفاءة على الولاء، والعقل على الطائفة. يجب أن يتحوّل الكرسي إلى أداة لخدمة الناس، لا لخدمة الزعيم أو الطائفة أو العائلة. ويتطلب ذلك ثورة في التعليم، والإعلام، والتربية السياسية. يجب أن تُزرع فكرة أن من يجلس على الكرسي يجب أن يكون “كرسيًا فوق عقل” لا عقلًا تحت كعب.
الشعب هو من يعطي الشرعية، ويملك القدرة على تغيير المعادلة عبر الانتخابات والمحاسبة والمقاطعة الواعية. يجب أن يدرك أن كل صوت يُعطى لحمار هو سهم في نعش الوطن. الوعي الجمعي يجب أن يتحرّر من سحر الشعارات والانتماءات، ويبدأ بتقييم الإنسان بناءً على سلوكه وإنجازه، لا على صورته ولا لهجته ولا عشيرته.
حين يتحوّل الكرسي إلى موقع مسؤولية لا إلى منصة استعراض، يبدأ لبنان بالتعافي. لا يحتاج البلد إلى معجزات، بل إلى بشر عاديين لكن نزيهين، يفهمون قيمة الكرسي ويحترمونه. فكرسي فوق عقل راجح يرفع وطنًا، أما حمار فوق كرسي فسيقوده نحو الهاوية. المطلوب ليس إلغاء الكراسي، بل تطهيرها من الحمير.
5. الخاتمة
ليست الأزمة في لبنان أزمة قوانين ناقصة أو موارد شحيحة، بل أزمة كراسي يُجلس عليها من لا يفقهون ولا يستحقون. فالكرسي ليس مجرد مقعد خشبي أو جلدي، بل رمز للثقة الشعبية، والأمانة العامة، والإرادة الوطنية. وإذا ما تربع عليه الجاهل، تحول إلى أداة قمع وفساد وتخريب.
لقد آن الأوان لنُعيد النظر في من نصعدهم إلى مواقع السلطة، وننتقل من منطق التبعية إلى منطق الجدارة، ومن عقلية الزعامة إلى ثقافة الدولة. فكرسيٌ يوضع فوق حمار ليست خدمة للحمار، بل تكريس لانحدار الوطن، أما عقلٌ ناضجٌ يحمل الكرسي، فهو أمل في النهوض. بين المعنيين، اذا جاز التعبير، تقف هوية لبنان على المحك، فإما أن نعيد ترتيب العلاقة بين الكرسي ومن يجلس عليه، أو نبقى أسرى للمهزلة حتى السقوط الكامل.