الجيش اللبناني يحمي العودة
د. الياس ميشال الشويري
منذ استقلاله، شهد لبنان تحوّلات متسارعة جعلت من الدولة والسيادة مطلبًا دائمًا وحلمًا بعيد المنال. في خضّم الأزمات السياسية والاقتصادية المتعاقبة، برزت قوى متشابكة ومصالح متضاربة، جعلت من مفهوم الدولة والسيادة شعارات تُرفع في الخطابات السياسية دون تطبيق عملي. الحقيقة المرّة هي أن الثنائي الوحيد المطلوب لبناء لبنان هو الدولة القوية ذات المؤسسات الفاعلة، والسيادة التي تحمي الوطن من التدخلات الخارجية والداخلية على حد سواء. بعيدًا عن أي ثنائية حزبية أو طائفية، فإن إعادة بناء الدولة على أسس السيادة الكاملة هو السبيل الوحيد لإنقاذ لبنان من أزماته المتراكمة.
- مفهوم الدولة والسيادة
الدولة ليست مجرّد إطار قانوني أو جغرافي، بل هي كيان جامع يضّم مؤسسات تمثّل الشعب وتعمل لتحقيق المصلحة العامة. يتجلّى مفهوم الدولة في ثلاث ركائز رئيسية: السلطة السياسية، المؤسسات العامة، والشرعية التي تستمدها من إرادة الشعب. فالدولة هي العقد الاجتماعي الذي يُنظّم علاقة الأفراد بعضهم ببعض وعلاقتهم بالسلطة، وهي الإطار الذي يُوفّر الأمن والخدمات ويضمن الحقوق والواجبات.
أما السيادة، فهي روح الدولة وجوهر استقلالها؛ تعني قدرة الدولة على اتخاذ قراراتها وإدارة شؤونها الداخلية والخارجية دون أي تدخّل خارجي. تشمل السيادة أبعادًا عدة، منها السياسية والاقتصادية والعسكرية والثقافية. عندما تتمتّع دولة بالسيادة، تكون قادرة على حماية مصالحها، صون حدودها، وفرض قوانينها بشكل عادل على الجميع.
في الحالة اللبنانية، تبدو الدولة كيانًا هشًا، تفتقر إلى القوة في فرض القانون وتطبيقه على الجميع بشكل متساوٍ. المؤسسات العامة تُعاني من فساد مستشرٍ، والقرارات السيادية غالبًا ما تكون رهينة التجاذبات الداخلية أو الإملاءات الخارجية. هذا الوضع يجعل لبنان ساحة مفتوحة للصراعات الإقليمية والدولية، بدلاً من أن يكون نموذجًا للدولة المستقلة ذات السيادة الحقيقية.
- تحديات الدولة والسيادة في لبنان
أ-التوازن الطائفي. يشكل النظام الطائفي عائقًا أمام بناء دولة مركزية قوية، حيث يتّم توزيع السلطة والمناصب وفق الانتماءات الطائفية بدلاً من الكفاءة. هذا النظام يُضعف المؤسسات ويحوّلها إلى أدوات لخدمة بعض الزعامات الطائفية المرهونة للخارج والفاسدة بامتياز.
ب-التدخلات الخارجية. تتعرّض السيادة اللبنانية لتحديات كبيرة بسبب التدخلات الإقليمية والدولية. بعض القوى السياسية الداخلية ترتبط بمحاور خارجية، ممّا يجعل القرارات الوطنية مرهونة بمصالح هذه القوى.
ج-الفساد المؤسسي.يُعتبر الفساد أحد أبرز التحديات التي تواجه الدولة اللبنانية. عندما تصبح مؤسسات الدولة وسيلة للإثراء الشخصي بدلاً من خدمة المواطن، تفقد الدولة شرعيتها في نظر الشعب.
د-غياب الرؤية الوطنية.يفتقر لبنان إلى رؤية وطنية جامعة تُوحّد المواطنين حول هدف مشترك. بدلاً من ذلك، تسود الانقسامات الأيديولوجية والسياسية، ممّا يعمّق الشرخ بين مكونات المجتمع.

- أهمية تكامل الدولة والسيادة
عندما تتكامل الدولة والسيادة، يتحقّق الاستقرار الوطني والتنمية الشاملة. الدولة القوية ذات السيادة الكاملة قادرة على:
–حماية حقوق المواطنين: من خلال فرض القانون بشكل عادل وضمان الحريات الأساسية.
–تعزيز الاقتصاد: بتوفير بيئة مستقرّة وجاذبة للاستثمار.
–تحقيق الأمن: من خلال جيش قوي وأجهزة أمنية تعمل لخدمة الوطن.
–إعادة الثقة بالمؤسسات: عبر مكافحة الفساد وتفعيل دور القضاء (النزيه) المستقّل.
لبنان بحاجة ماسة إلى استعادة هذَيْن الركيزتَيْن الأساسيتَيْن. بدون دولة قوية وسيادة حقيقية، سيظلّ الوطن عرضة للتفكك والصراعات.
- تحليل الواقع اللبناني
واقع لبنان اليوم يعكس ضعف الدولة وغياب السيادة. فمنذ الحرب الأهلية، تعمقت الانقسامات الطائفية والمذهبية، وأصبحت السلطة موزعة بين أطراف متعددة تسعى إلى تحقيق مصالحها على حساب الوطن. هذه الانقسامات جعلت من المستحيل بناء دولة مركزية قوية قادرة على فرض القانون وإدارة شؤون البلاد بشكل مستقل.
إضافة إلى ذلك، فإن التدخلات الخارجية أصبحت جزءًا من المشهد السياسي اللبناني. بعض القوى الداخلية تربط نفسها بمحاور إقليمية ودولية، ممّا يجعل القرارات الوطنية رهينة لهذه التحالفات. هذه الحالة تقوّض مفهوم السيادة وتزيد من تآكل مؤسسات الدولة.
- دروس من التاريخ
تاريخيًا، هناك دول عانت من أزمات مشابهة للبنان، لكنها استطاعت النهوض من خلال التركيز على بناء الدولة وتعزيز السيادة. على سبيل المثال:
–ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية: خرجت ألمانيا من الحرب مدمرة بالكامل، لكنها استطاعت بناء دولة قوية من خلال تعزيز سيادة القانون وإعادة بناء مؤسساتها.
–سنغافورة: رغم صغر مساحتها وقلّة مواردها، ركزت سنغافورة على بناء دولة قوية ومستقلة تعتمد على الكفاءات الوطنية.
–رواندا: بعد الإبادة الجماعية، تمكنت رواندا من بناء دولة قائمة على المصالحة الوطنية وسيادة القانون، ما جعلها نموذجًا للتنمية في إفريقيا.
هذه التجارب تثبت أن بناء الدولة والسيادة ليس مستحيلاً حتى في أصعب الظروف، لكنه يتطلّب إرادة سياسية (وطنية) وشعبية لتحقيقه.
- خارطة طريق للبنان
لإنقاذ لبنان من أزماته الحالية، يجب التركيز على بناء الدولة والسيادة كهدفين رئيسيين. يمكن تحقيق ذلك من خلال الخطوات التالية:
–تعزيز مؤسسات الدولة: يجب تقوية الجيش والقضاء (النزيه) والأجهزة الرقابية، لتكون قادرة على فرض القانون ومحاسبة الفاسدين.
–إصلاح النظام السياسي: يجب التخلّص من نظام المحاصصة الطائفية الذي يشكّل عائقًا أمام بناء الدولة الحديثة.
–تحقيق استقلال القرار الوطني: يجب أن تكون القرارات اللبنانية خاضعة للمصلحة الوطنية فقط، بعيدًا عن أي تدخلات خارجية.
–تعزيز الوعي الشعبي: يحتاج اللبنانيون إلى إدراك أن الحل يكمن في بناء الدولة والسيادة، وليس في الولاء للطوائف أو الأحزاب.
–إعادة الثقة بالمؤسسات: من خلال الشفافية ومحاسبة الفاسدين، يمكن للدولة أن تعيد بناء ثقة المواطن بها.

- الخاتمة
لبنان اليوم يقف عند مفترق طرق تاريخي، حيث باتت الخيارات أكثر وضوحًا من أي وقت مضى، وأصبحت المسؤولية الملقاة على عاتق الجميع أعظم من مجرّد شعارات أو خطابات. الخيار الأول هو السير في درب بناء الدولة الحقيقية، الدولة التي تقوم على أسس القانون والعدالة، الدولة التي لا يُختزل فيها الوطن بأفراد أو أحزاب أو طوائف، بل تسود فيها المساواة وسيادة القرار الوطني، بعيدًا عن التدخلات الخارجية التي أضعفت النسيج الوطني لعقود طويلة. الخيار الآخر، وهو الخيار الأسوأ، هو الاستمرار في دوامة الفوضى والانقسامات، حيث تبقى المصالح الضيقة فوق كل اعتبار، وحيث يبقى لبنان رهينة لصراعات لا تنتهي، ممّا يضع شعبه أمام المزيد من المعاناة والتراجع على كافة المستويات.
إن الثنائيات الحزبية والتحالفات الطائفية التي حكمت لبنان لعقود لم تكن سوى قيد ثقيل كبّل الوطن ومنعه من النهوض. فهذه التجارب أثبتت فشلها في بناء دولة المواطنة، وحوّلت الوطن إلى ساحة صراعات مفتوحة بين القوى الداخلية والخارجية. لذلك، لا يمكن إنقاذ لبنان إلا من خلال بناء دولة القانون التي تحترم حقوق جميع مواطنيها، وتجعل من المصلحة الوطنية العليا فوق كل اعتبار.
المسؤولية اليوم تقع على عاتق كل لبناني شريف، كل لبناني يحمل الوطن في قلبه ويؤمن بقدرته على النهوض رغم كل التحديات. ليس كافيًا أن تكون حاملًا لبطاقة هوية لبنانية؛ بل يجب أن تكون حاملًا لهوية الوطن بمعناها العميق، هوية الالتزام والعمل من أجل بناء مستقبل أفضل. إن مستقبل لبنان يبدأ من إيمان كل فرد بمسؤوليته تجاه وطنه، ومن الإصرار على تحرير هذا الوطن من قيود الماضي المظلم، والسير بخطى ثابتة نحو مستقبل ينعم فيه لبنان بالاستقرار والازدهار.
الخيار واضح، ولكنه ليس سهلًا. هو خيار يستلزم شجاعة كبيرة وإرادة صلبة لتجاوز المصاعب والتضحيات. ولكن، في نهاية المطاف، هو الخيار الوحيد الذي يمكن أن يعيد للبنان مكانته، ويمنحه فرصة جديدة ليكون نموذجًا في التعايش والاستقرار في منطقة عانت طويلًا من الاضطرابات. القرار بيد اللبنانيين، فإما أن ينتصروا لوطنهم، أو يتركوه منهوبًا من قبل حثالة فاسدة (عميلة للخارج)، نهبته وأوصلته الى الحضيض بسياساتها الهدّامة.