المشهد العار…المشهد المؤلم
د. الياس ميشال الشويري
شهدت منطقة “الدويلعة” في سوريا مؤخرًا جريمة إرهابية استهدفت كنيسة مار الياس للروم الأرثوذكس، ما أعاد فتح الجراح الطائفية، وأثار جملة من التساؤلات حول الدين الذي يُستعمل لتبرير قتل الأبرياء. الحادث ليس معزولًا عن سياق تاريخي دامٍ استُخدم فيه الدين كوسيلة للتحريض والتعبئة، ولإعطاء القداسة لأفعال تنتهك أبسط القيم الإنسانية. أمام هذه المشاهد السوداء، تبرز ديانات، مثل المسيحية، كصوت صارخ للمحبة والسلام في عالم بات تائهًا في متاهات التطرف. في هذا البحث، نضيء على خلفيات الإرهاب الديني، ونفكك المنطق المغلوط الذي يحوّل النصوص المقدسة إلى أدوات قتل، ونناقش كيف يمكن للأديان أن تكون جسرًا لا وقودًا للحرب.
- الإرهاب باسم الدين – جذور ثقافية وعقائدية
يتمكّن الخطاب الإرهابي من غرس الكراهية في العقول عبر تأويلات منحرفة للنصوص الدينية. حيث يُعاد إنتاج النصوص خارج سياقها الزماني والمكاني لتُخدم أجندات دموية. في بعض المذاهب المتطرفة، تُقدَّم الجنة كمكافأة على القتل، ويتم تصوير الآخر كعدو أبدي. هذا التشويه يجعل من المجرم “شهيدًا” بنظر أتباعه، ومن الضحية “كافرًا” مستباح الدم، ما يحوّل الدين من رسالة رحمة إلى خطاب ذبح.
الإرهاب ليس فعلًا فرديًا أو لحظة جنون. إنه صناعة قائمة على تمويل أيديولوجي وتعليمي، تبدأ في المساجد والمدارس التي تروّج لمفاهيم “الولاء والبراء”، و”الجهاد ضد أهل الذمة”. تنمو هذه العقائد في مناخات الفقر والانقسام، وتجد دعمًا ضمنيًا من بعض الأنظمة التي تستثمر في التطرّف لضمان بقائها. إن استهداف الكنائس في سوريا أو مصر أو العراق ليس طارئًا، بل هو مخرَج منطقي لهذا البناء العقائدي المتراكم.
شهداء كنيسة مار الياس ليسوا فقط أبناء طائفة، بل شهداء سوريا بأسرها. هم ضحايا كراهية عابرة للأديان والجغرافيا. إن دماء الأطفال والكهنة والمصلين، تسقط دون أن تسأل عن الهوية الدينية، وتصرخ في وجه قاتلهم الذي تجرّد من إنسانيته. هذا الإرهاب لا يستهدف طائفة، بل يضرب روح التعايش، ويهدف لتفجير النسيج المجتمعي وتكريس منطق الطائفية كأمر واقع.
- المسيحية كرسالة للسلام في وجه سيف الإرهاب
في قلب تعاليم المسيح نجد دعوة راديكالية ضد الانتقام، وضد قتل الآخر، مهما يكن معتديًا. حين يقول المسيح “أحبوا أعداءكم وباركوا لاعنيكم”، فهو لا يدعو للخضوع، بل يقدّم ثورة روحية تقوم على نزع الحقد من الجذور. هذه الدعوة، في زمن يتكلم فيه الإرهابي عن “القصاص”، هي إعلان لحياة مختلفة، تجعل من الإنسان صورة الله، لا أداة للقتل.
في المسيحية، الشهادة لا تعني تفجير الذات وقتل الآخرين، بل تقديم الذات حبًا حتى الموت. من الحسين إلى المسيح إلى شهداء الكنيسة في الدويلعة، الشهادة هي التزام بالحقيقة، لا بالدم. لهذا السبب، حملت الكنيسة في تاريخها شهداء لا يحملون السيف، بل الصليب، وشهاداتهم تحوّلت إلى بذور إيمان لا إلى وقود كراهية.
رغم المجازر التي طالتها، بقيت الكنيسة صرحًا مفتوحًا للغفران. من مذابح الأرمن، إلى حرق الكنائس في نيجيريا، إلى استهداف المسيحيين في الموصل، لم نرَ دعوة للثأر أو حمل السلاح من فوق المذبح. هذا ما يجعل من الكنيسة قوة سلام في عالم غارق في الانتقام، ويعطيها سلطة معنوية تفوق كثيرًا سلطات الدول.
- مواجهة الإرهاب بالثقافة والعدالة لا بالكراهية المضادة
صحيح أن الإرهاب يولّد الغضب، لكن الرد عليه بكراهية عامة تجاه دين أو قومية هو انتصار للإرهاب نفسه. لا يجوز إدانة الإسلام ككل بسبب أفعال متطرّفين، كما لا يجوز اتهام كل المسيحيين بمآسي الاستعمار. التعميم هو بذرة الإلغاء، وهو ما يريده الإرهابيون: أن يكرّسوا منطق الانقسام والتخندق المذهبي.
لا يكفي أن ندين الإرهابي في الإعلام، بل يجب محاكمته ضمن قضاء عادل يُظهر أنه مجرم لا “مؤمن”. كذلك، لا بد من تجفيف منابع التطرف: المدارس، الخطب، الإعلام، والتمويل الأجنبي. إن مواجهة الإرهاب تكون بإرساء ثقافة العدالة، وإبراز صورة الدين كعامل بناء لا هدم.
يعيش لبنان وسوريا واقعًا متشابكًا من المعاناة تحت وطأة الإرهاب والتفجيرات والتطرف. استهداف الكنائس والأماكن الدينية هو رسالة لمنع التعايش، لكنّ الواقع يثبت أن شعوبنا أقوى من هذا القبح. من الضاحية إلى الدويلعة، ومن طرابلس إلى حمص، الصلوات تعلو فوق أصوات الانفجارات، والمحبّة تبقى أقوى من الرصاص.

- جنة القتلة؟ حين يُستعمل الدين لشرعنة المذبحة
من المروّع أن نرى بعض التنظيمات الإرهابية تبني عقيدتها على وعدٍ بجنّة خرافية، مشروطة بسفك دماء الأبرياء. يتحوّل القتل إلى وسيلة روحية، ويُصبح الانتحاري بطلًا لا مجرمًا. في هذا المنطق المعكوس، يُعد القاتل “ضحية”، والمذبوح “كافرًا”، وبدل أن يكون الدين رسالة حياة، يتحوّل إلى مشروع قبر. الجنة التي تُبنى على جثث الأطفال والنساء والمصلين، ليست من عند الله، بل من خيالٍ سقيم شيطاني صنعه تجار الفتوى. الأديان كلها، حين تكون صادقة، تكرّم الإنسان، لا تبيح دمه. وإن كان الله يعد القاتل بالجنة، فأي إله هذا؟ وأي دين ذاك؟
الخلل لا يكمن فقط في عقل الإرهابي، بل في منظومة دينية كاملة أنتجته. هناك فقهاء، على المنابر أو في الكهوف، يقدّمون تفسيرًا مروّعًا للنصوص الدينية، يبرّرون به تفجير الكنائس، وقتل المسلم المخالف، واستباحة غير المؤمن. يستدلّون بآيات الجهاد دون سياق، ويحوّلون الأحاديث إلى صكوك غفران جاهزة للذبح. هؤلاء ليسوا مجرد متطرفين، بل هم “مشرّعو الموت”، الذين باعوا الله لأغراض سلطوية أو طائفية. كل نص ديني يُقرأ بدون عدالة ورحمة، يتحوّل إلى أداة قتل، ولو كان نازلًا من السماء. المشكلة ليست في الدين، بل في من يحتكره ويحرّفه.
القول بأن الله يرضى عن قاتل الأبرياء هو تجديف، لا إيمان. الإله، في جوهر الأديان السماوية، هو محبة، لا مدبر مذابح. هو خالق الحياة، لا محرّض على إنهائها. من يعدّ المجرم بالجنة، ويجعل من سفك الدم قربانًا، هو يتّهم الله ظلمًا وعدوانًا. هؤلاء لا يعبدون الله، بل يعبدون وثنًا صنعوه على صورتهم: وثنًا غاضبًا، متعطّشًا للدم، يفرح بالمآسي. في المسيحية، الله يموت من أجل الإنسان؛ وفي الأديان الأخرى، هو الرحيم العادل الذي لا يقبل الظلم. أما الدين الذي يُستخدم ليبرّر مجازر الدويلعة، أو سواها، فهو دين زائف، وإلهه ليس الله، بل الكراهية نفسها.
- الخاتمة
ما جرى في كنيسة مار الياس ليس حادثة عابرة ولا نتيجة خلل أمني فقط، بل هو نتاج عقيدة منحرفة بُنيت على وعود بجنّة لا تُفتح إلا على أنقاض المذابح. هوية القاتل ليست فقط في انتمائه لجماعة متطرفة، بل في الفكرة التي تُلبسه القداسة وتعده بمكافأة إلهية على قتله. هنا تطرح المأساة سؤالًا صارخًا: هل حقًا هناك دين يَعِد قاتل الأبرياء بالجنة؟ وإن كان هناك من يدّعي ذلك، فهل هذا الدين هو من عند الله، أم من صنع من يريد تحويل العالم إلى مقبرة؟
الله بريء من كل قطرة دم تسيل باسم “الجهاد”، ومن كل كنيسة تُفجّر باسم “النصرة”، ومن كل أمّ تُبتر أحلامها تحت عباءة “الولاء والبراء”. الله الحقيقي، في جوهر كل رسالة سماوية، هو الحياة، والرحمة، والعدالة، لا آلة للموت. الجنة التي تُبنى على الجثث ليست جنة الله، بل خرافة يختبئ وراءها الجبان والمأجور والمضلَّل.
في المقابل، تقف المسيحية – ومعها كل دينٍ صادق – كصرخة ضمير في وجه هذا الجهل المقدّس. تُواجه الذبح بالمحبة، والحقد بالغفران، والموت بالحياة. شهداء الدويلعة لا يطلبون الثأر، بل يرفعون صليب الألم في وجه كل من حوّل الإيمان إلى قنبلة. لبنان وسوريا والعالم العربي لا يحتاجون مزيدًا من الشهداء، بل ثورة عقلية تُسقِط قداسة الكهنوت المتطرف، وتُعيد للدين دوره كجسر لقاء، لا ساحة حرب.
الاختبار اليوم ليس فقط في مواجهة القتلة، بل في مساءلة النصوص والتفاسير والأنظمة التي تبرّر القتل. لأننا إذا سكتنا، سنكون شهود زور على دينٍ لا يُشبه الله، وعلى بشرٍ يُعبدون صنم الكراهية وهم يحسبون أنهم يعبدون الله.