د. الياس ميشال الشويري
لطالما كانت الجامعة المؤسسة الأهم في بناء العقول وإعداد الأجيال القادرة على قيادة المجتمع نحو مستقبل أكثر إشراقًا. لكن في لبنان، حيث تتداخل السياسة بالمحسوبيات، تتحول بعض الجامعات إلى مؤسسات تجارية تهتم بالمردود المالي أكثر من رسالتها الأكاديمية. تبتعد هذه المؤسسات عن دورها التثقيفي، وتشجع على الغش والنفاق، بل وتضطهد الأساتذة الذين يحاولون غرس القيم العلمية الحقيقية في طلابهم. في هذا البحث، سنناقش ثلاث إشكاليات رئيسية: تغييب الثقافة في التعليم الجامعي، دور هذه المؤسسات في نشر الغش والنفاق، وكيفية تعاملها مع الأساتذة أصحاب الضمير.
- تغييب الثقافة ودورها في تدهور التعليم
في ظل الأزمة الاقتصادية التي تعصف بلبنان، أصبحت العديد من الجامعات الخاصة أقرب إلى مؤسسات تجارية تهدف إلى الربح على حساب الجودة التعليمية. يتّم قبول الطلاب بغض النظر عن مستواهم الأكاديمي، وتُخفَّض المعايير التعليمية بهدف استقطاب أكبر عدد ممكن من الدارسين، ممّا يؤدي إلى تراجع المستوى الثقافي والفكري للطلاب.
تعتمد هذه الجامعات على مناهج تقليدية غير متجددة تفتقر إلى التشجيع على التفكير النقدي والإبداعي. يتّم تلقين المعلومات للطلاب دون تحفيزهم على البحث والاستنتاج، ممّا يحوّل العملية التعليمية إلى مجرّد عملية حفظ دون فهم حقيقي.
في كثير من الحالات، تتحكّم التيارات السياسية والطائفية في القرارات الأكاديمية، ما يؤدي إلى طمس المواضيع التي تتعارض مع المصالح السياسية. وبدل أن تكون الجامعة منارة للحرية الفكرية، تصبح أداة لتكريس الجهل والتبعية، ممّا يحرم الطلاب من التثقيف الحقيقي.
- تشجيع الغش والنفاق وتأثيره على الأجيال القادمة
لم يعد الغش في الامتحانات مجرّد استثناء، بل أصبح ممارسة شبه مشروعة في بعض الجامعات. يتواطأ بعض الإداريين والأساتذة مع الطلاب عبر تسهيل الغش أو التغاضي عنه لضمان نجاح أكبر عدد ممكن منهم، ممّا يجعل الشهادة الجامعية مجرّد ورقة بلا قيمة حقيقية.
مع مرور الوقت، يتحوّل الغش إلى سلوك مقبول، ويصبح النجاح مرهونًا بالتحايل بدلًا من الجهد الحقيقي. هذا ينعكس على سوق العمل، حيث يدخل الخريجون إلى الوظائف دون الكفاءة اللازمة، مما يؤدي إلى تدهور جودة العمل في القطاعات المختلفة.
في بعض الحالات، تُمنح الدرجات بناءً على الاعتبارات الشخصية أو الطائفية، وليس بناءً على الأداء الأكاديمي. يتّم تكريم الطلاب المتملقين وأصحاب العلاقات بدلاً من المتفوقين، مما يكرّس ثقافة الواسطة والمحسوبية في المجتمع اللبناني.
- محاربة الأساتذة أصحاب الضمير الأكاديمي
في بيئة أكاديمية فاسدة، يصبح الأستاذ صاحب الضمير عدواً للنظام القائم. يواجه هؤلاء الأساتذة ضغوطًا هائلة لتغيير علاماتهم أو التساهل مع الغش، وعندما يرفضون، يتعرضون لمضايقات تصل إلى حد تهديد وظائفهم أو منع ترقياتهم.
الجامعات الحقيقية تعتمد على البحث العلمي لتطوير المجتمع، لكن في الجامعات التجارية، يتّم تهميش البحث لصالح المناهج السطحية التي تخدم مصالح الإدارة. الأساتذة الباحثون الذين يحاولون الارتقاء بمستوى التعليم يُعتبرون مصدر إزعاج، وغالبًا ما يُستبعدون من المراكز الإدارية أو يتّم التضييق عليهم ماديًا ومعنويًا.
عندما يصبح الغش والنفاق معيار النجاح، يفقد الطلاب الثقة بأساتذتهم. فبدلاً من رؤية الأستاذ كقدوة علمية، يصبح البعض ينظر إليه كعائق يجب تجاوزه بأي وسيلة، ممّا يؤدي إلى شرخ في العلاقة التعليمية وإضعاف الدور التوجيهي للأستاذ الجامعي.
- الخاتمة
باتت بعض الجامعات اللبنانية أقرب إلى مشاريع تجارية تهدف إلى تحقيق الأرباح على حساب التعليم الحقيقي. فبدلاً من أن تكون منارة للثقافة والعلم، أصبحت مرتعًا للغش والنفاق، حيث يتم تكريم الفاسدين وإقصاء أصحاب الضمير الأكاديمي. إن مستقبل لبنان يتطلّب ثورة في التعليم، تبدأ بإصلاح جذري لمؤسساته الجامعية، وتعزيز دور الأساتذة النزيهين، وإعادة الاعتبار للقيم الأكاديمية التي تقوم على النزاهة والمعرفة الحقيقية. فبدون تعليم صادق، لن يكون هناك أمل في بناء مستقبل أفضل للأجيال القادمة.