شغب الضيوف
في عالم تتقاذفه الأزمات وتتنازعه السياسات المتناقضة، يبرز بعض القادة ممن يتمسكون برؤية قومية صلبة وموقف مستقل لا يخضع للابتزازات الغربية أو الإملاءات الليبرالية المعولمة. من بين هؤلاء يبرز اسم فيكتور أوربان، رئيس وزراء هنغاريا، الذي جعل من بلاده مثالًا لممانعة الانقياد الأعمى للاتحاد الأوروبي، ورفضًا لموجات الهجرة التي غمرت أوروبا تحت غطاء “حقوق الإنسان”. رسم الرئيس أوربان لنفسه خطًا سياديًا يضع مصلحة المجر أولاً، مثيرًا جدلًا واسعًا بين مؤيد يعتبره حاميًا للهوية، ومعارض يراه رمزًا للتشدد القومي. هذا المقال يعرض مواقف الرئيس أوربان، خاصة في قضايا الهجرة والصراع الروسي-الأوكراني، وسجاله مع الحكام الأوروبيين الذين وصفهم بـ”التافهين“.
- أوربان والهجرة غير المشروعة – السيادة فوق العاطفة
حين اجتاحت موجات اللجوء أراضي الاتحاد الأوروبي عام 2015، كانت هنغاريا بقيادة الرئيس أوربان من أوائل الدول التي أغلقت حدودها، وشرعت ببناء سياج حدودي عازل. رأى أوربان أن أوروبا تُستباح ديموغرافيًا وثقافيًا، وأن فتح الأبواب تحت شعارات إنسانية هو انتحار قومي. فالحفاظ على الهوية الوطنية والثقافية في نظره أهم من الانخراط في مشاريع الاندماج القسري التي لم تنجح حتى الآن.
لم يتردد أوربان في الربط الصريح بين اللاجئين القادمين من الشرق الأوسط وإفريقيا، وبين الخطر الديني والثقافي الذي يهدد “أوروبا المسيحية”. أعلنها صراحة أن المجر لا تريد أن تصبح دولة متعددة الثقافات، معتبرًا أن الإسلام، رغم احترامه له، ليس جزءًا من الإرث المجري. هذا الموقف أثار غضب قادة الاتحاد، لكنه أكسب أوربان شعبية كبرى في الداخل.
سنّت حكومة أوربان قوانين متشددة ضد دخول اللاجئين غير الشرعيين، وسعت لتقليص تمويل المنظمات غير الحكومية التي تساعد على الهجرة. كما ركّز خطابه السياسي على ربط الأمن الوطني بالحفاظ على النسيج الثقافي. رفض الانصياع لمحكمة العدل الأوروبية التي أدانت سياسات هنغاريا، بل اعتبر ذلك تدخلاً سافرًا في شؤونها السيادية.

- أوربان والصراع الروسي – الأوكراني
منذ اندلاع الحرب في أوكرانيا، تمايز الرئيس أوربان عن باقي القادة الأوروبيين بموقفه المتريّث والرافض لتوريط بلاده في دعم غير محسوب لكييف. بينما تدفقت الأسلحة من الغرب، آثرت بودابست الاحتفاظ بعلاقات تجارية مع موسكو، خاصة في مجال الطاقة. انتقد أوربان المقاربة العدوانية التي اعتمدها الاتحاد الأوروبي ضد روسيا، ورأى فيها انتحارًا اقتصاديًا.
وضع أوربان مصلحة بلاده الاقتصادية فوق اصطفافات الناتو، فرفض تمرير مساعدات عسكرية عبر أراضيه، ووقف ضد بعض حزم العقوبات الأوروبية على روسيا. هذا الموقف لم يكن ناتجًا عن تأييد مباشر للرئيس بوتين، بل عن قراءة استراتيجية لمحدودية إمكانيات المجر وخطورة الانجرار نحو حرب استنزاف طويلة.
لم يوفر أوربان فرصة إلا وهاجم “الغباء السياسي” الذي يدير به الاتحاد الأوروبي الصراع مع روسيا. شبّه العقوبات الاقتصادية بالطلقات التي تُطلقها أوروبا على قدميها. رأى أن أوروبا تفتقر إلى قادة يمتلكون الشجاعة لاتخاذ قرارات عقلانية بدلًا من الانجرار وراء الإعلام الغربي والخطابات العاطفية.
- أوربان بين القومية والتهجم الأوروبي
روّج الرئيس أوربان لنموذج سياسي أطلق عليه اسم “الديمقراطية غير الليبرالية”، وهي رؤية ترفض تغوّل الحقوق الفردية على حساب القيم الجماعية، وتركّز على سلطة الدولة والنظام. هذا النموذج الذي يستلهمه من تركيا وروسيا وسنغافورة، أثار حفيظة النخب الأوروبية التي رأت فيه انحرافًا عن المبادئ الغربية.
لم يتردد أوربان في وصف بعض قادة أوروبا بـ”الضعفاء” و”التافهين”، معتبرًا أنهم يقودون القارة نحو التفكك والضعف. هاجم مواقف ألمانيا وفرنسا تجاه المهاجرين وروسيا، واعتبر أنهم يعيشون في فقاعة أخلاقية مزيّفة لا تتطابق مع مصالح شعوبهم. ووجد دعمًا ضمن “محور بودابست – وارسو – روما” المناهض للهيمنة الليبرالية الغربية.
رغم الانتقادات، استطاع أوربان أن يحافظ على تأييد واسع في الداخل، عبر خطاب قومي محافظ، وعداء صريح لما يراه “النخب المعزولة” في بروكسل. استغل المشاعر الشعبية الرافضة للهجرة والانخراط بالحروب العبثية، ليبني لنفسه زعامة قارّية كصوت معارض لـ”نظام عالمي مختل القيم”. مثّلت هنغاريا تحت حكمه نواة تمرد ضد التبعية الأوروبية العمياء.

- الخاتمة
لا يمكن اختزال الرئيس فيكتور أوربان في صورة الزعيم المتشدّد أو اليميني المتطرف، كما تروّج له وسائل الإعلام الغربية. هو نتاج قلق أوروبي من ضياع الهوية، ورد فعل سياسي على سياسات هجرة غير مدروسة. أوربان، بشخصيته الجدلية ومواقفه الجريئة، مثّل صوتًا مختلفًا في أوروبا، صوتًا يرفض التفاهة السياسية ويعيد تعريف الوطنية في زمن الانهيارات القيمية.