جوزف طربيه
د. الياس ميشال الشويري
لبنان في الخمسينات والستينات، كان يُعتبر أحد المراكز المالية والاقتصادية الأكثر حيوية في منطقة الشرق الأوسط. في تلك الفترة، لعبت جمعية المصارف، التي تأسست في عام 1959 بموجب علم وخبر رقم 1643 تاريخ 6/10/1959، دورًا كبيرًا في تعزيز موقع لبنان كمركز مالي إقليمي، وكان النظام المصرفي اللبناني يُعرف بقوته ومرونته. كانت الجمعية تُعنى بتطوير القطاع، وتعزيز ثقة المستثمرين والعملاء، والتفاوض مع السلطات لتحسين البيئة المصرفية، كما ساعدت الجمعية في إنشاء إطار قانوني وتنظيمي متين ساهم في استقرار ونمو القطاع المصرفي.
اليوم، يواجه لبنان واحدة من أسوأ الأزمات الاقتصادية في تاريخه. الأزمة النقدية، تدهور قيمة العملة الوطنية، وتراجع الثقة في القطاع المصرفي أدت إلى انهيار اقتصادي شامل. من دورها الريادي في دعم القطاع المصرفي خلال “العصر الذهبي”، تحولت جمعية المصارف إلى موضع انتقاد في ظل الأزمة الحالية لدورها في السياسات التي أدت إلى تفاقم الأوضاع.
في ما يلي نجري مقاربة بين فترتي رئاسة الدكتور جوزيف طربيه والدكتور سليم صفير لجمعية المصارف اللبنانية، مع التركيز على التحديات والقرارات الرئيسية التي أثرت على القطاع المصرفي خلال كل فترة:
فترة رئاسة د. جوزيف طربيه (عدة فترات رئاسية ما بين 2001 و 2019)
- الفترة: تولّى جوزيف طربيه رئاسة جمعية المصارف على مدار فترات عدّة ما بين 2001 و 2019، وكان له دور محوري في تطوير القطاع المصرفي اللبناني.
- الوضع الاقتصادي: خلال فترة رئاسته الأولى، كان لبنان يواجه تحديات اقتصادية متزايدة ولكن لم تصل إلى حد الأزمات المالية الكبرى. ومع ذلك، ظل طربيه حذراً في إدارة السياسات المصرفية، متجنباً الانخراط بشكل مفرط في تمويل الدولة اللبنانية، دون ضمانات كافية للإصلاحات.
- السياسات المصرفية: طربيه كان معروفاً بحذره في تسليف الدولة اللبنانية، الدولة التي يديرها رِعاع، حيث أدرك المخاطر المرتبطة بزيادة تعرض المصارف للدين العام. وحرص على الحفاظ على علاقة قوية مع المؤسسات المالية الدولية، مما ساعد في تعزيز الثقة بالقطاع المصرفي اللبناني.
- إدارة المخاطر: تميزت إدارته بحذر واضح فيما يتعلق بإدارة المخاطر، وكان هذا الحذر سببًا في تجنب المصارف اللبنانية لكثير من المشاكل المالية التي بدأت تظهر بشكل أوضح بعد انتهاء فترة رئاسته.
- التكنولوجيا والابتكار: خلال فترته، شهد القطاع المصرفي تطورات ملحوظة في مجال التكنولوجيا المصرفية، مما ساهم في تعزيز دور المصارف في الاقتصاد اللبناني وزيادة حجم الودائع من المغتربين.
فترة رئاسة د. سليم صفير: (2019 – لغاية تاريخه)
- الفترة: تولى سليم صفير رئاسة جمعية المصارف في فترة حرجة للغاية، مع بداية أزمة مالية واقتصادية غير مسبوقة في تاريخ لبنان.
- الوضع الاقتصادي: عند تولي صفير الرئاسة، كان لبنان يعاني من أزمة مالية حادة، مع انهيار الثقة في النظام المصرفي، وتراجع كبير في قيمة الليرة اللبنانية. الأوضاع الاقتصادية كانت في أسوأ حالاتها، مما وضع المصارف في موقف صعب للغاية.
- السياسات المصرفية: سليم صفير كان أكثر انفتاحاً على تسليف الدولة اللبنانية، الدولة التي يديرها رِعاع، ولكن هذا الانفتاح جاء في وقت لم تكن فيه الدولة قادرة على تنفيذ الإصلاحات الضرورية. هذا أدى إلى زيادة تعرض المصارف للمخاطر، خاصة مع تدهور الأوضاع الاقتصادية بشكل متسارع.
- إدارة الأزمة: صفير واجه انتقادات واسعة لإدارة الأزمة، خاصة فيما يتعلق بالقيود على السحب وتحويل الأموال، مما أدى إلى تآكل الثقة العامة في النظام المصرفي. وقد اعتُبرت سياسات الجمعية تحت قيادته أقل فعالية في مواجهة التحديات الكبرى التي واجهتها المصارف اللبنانية.
- تدهور الثقة: في عهده، تدهورت الثقة بالمصارف اللبنانية بشكل كبير، وشهد القطاع المصرفي تراجعاً حاداً، حيث أصبحت المصارف محور انتقادات شديدة من المواطنين بسبب القيود المالية المفروضة، إضافة إلى المشاكل المتعلقة بالسيولة.
الخلاصة:
د. جوزيف طربيه كان أكثر حذرًا في التعامل مع تسليف الدولة، وحافظ على استقرار القطاع المصرفي خلال فترات من التحديات الاقتصادية. لعب دوراً في تعزيز الثقة بالقطاع المصرفي وحماية المصارف من التعرض المفرط للمخاطر.
د. سليم صفير تولّى الرئاسة في فترة شديدة الصعوبة، واتخذ سياسات أكثر انفتاحًا على تمويل الدولة، لكن تلك السياسات جاءت في ظل أزمة اقتصادية متفاقمة، مما أدى إلى تدهور الثقة بالنظام المصرفي اللبناني وزيادة الانتقادات لإدارة الأزمة.
الفارق الرئيسي بين الاثنين يكمن في طبيعة التحديات التي واجهها كل منهما والنهج الذي تبناه في التعامل مع تلك التحديات، حيث يُنظر إلى طربيه على أنه كان أكثر حذرًا ونجح في تجنب العديد من المخاطر، بينما صفير واجه وضعًا اقتصاديًا كارثيًا أدى إلى تدهور الوضع المصرفي بشكل كبير.

القطاع المصرفي منذ التسعينات ولغاية الانهيار الاقتصادي الكبير
على الرغم من أن المصارف اللبنانية كانت تُعتبر لفترة طويلة من الزمن أحد أعمدة الاستقرار المالي في لبنان، إلا أنها تورطت في ممارسات مالية مشبوهة أدت إلى تفاقم الأزمة الاقتصادية وساهمت في انهيار الثقة بالنظام المصرفي. فيما يلي تحليل معمّق للممارسات التي اتبعتها المصارف اللبنانية والتي أدت إلى هذا الانهيار.
- الوعد الكاذب بالربحية الآمنة: استراتيجية اجتذاب الودائع
أ. فوائد مرتفعة كفخ للمودعين:
استراتيجية الاجتذاب: لسنوات عديدة، قدمت المصارف اللبنانية فوائد مرتفعة على الودائع بالدولار والليرة اللبنانية، مقارنة بمستويات الفائدة في الأسواق العالمية. كانت هذه الفوائد جذابة للغاية للمودعين اللبنانيين، وكذلك للمغتربين الذين كانوا يرون في المصارف اللبنانية فرصة لتحقيق عوائد مرتفعة على مدخراتهم. كانت هذه الفوائد تقدم كضمان للاستقرار والربحية، مما دفع الكثير من اللبنانيين إلى وضع كامل مدخراتهم في المصارف اللبنانية.
الواقع المخفي: خلف هذه الفوائد المرتفعة، كانت المصارف تدير نموذجًا ماليًا هشًا يقوم على الاستدانة المستمرة لتغطية فوائد الودائع. عمليًا، كانت هذه الفوائد العالية تغطي المخاطر المالية الكبيرة التي لم يتم الإفصاح عنها للمودعين، مثل الاعتماد الكبير على الدين العام اللبناني وتمويل العجز الحكومي.
النتيجة: عندما انهار النموذج المالي بفعل التدهور الاقتصادي وعدم قدرة الحكومة اللبنانية على تمويل العجز، انهارت الفوائد المرتفعة وتحولت من مصدر ربح إلى مصدر خسارة كبير للمودعين الذين فقدوا جزءًا كبيرًا من أموالهم أو أصبحت أموالهم غير قابلة للوصول.
ب. إخفاء المخاطر المالية الحقيقية:
التعتيم على المخاطر: المصارف اللبنانية، بالتعاون مع جمعية المصارف، عمدت إلى إخفاء المخاطر المالية الحقيقية عن المودعين. لم تكن هناك شفافية فيما يتعلق بكيفية استخدام الودائع. الكثير من هذه الأموال كان يُستخدم لشراء سندات الخزينة اللبنانية بفوائد مرتفعة أو لإقراض الحكومة، مما يعني أن استقرار الودائع كان يعتمد بشكل كبير على قدرة الحكومة على سداد ديونها.
تجاهل التحذيرات: على الرغم من وجود تحذيرات من المؤسسات الدولية وبعض الخبراء المحليين حول مخاطر هذا النموذج المالي، إلا أن المصارف استمرت في ممارساتها دون أي محاولة لتحذير المودعين من المخاطر. هذا التجاهل زاد من حدة الأزمة عندما ظهرت الخسائر الفعلية.
- الهندسات المالية والتواطؤ مع مصرف لبنان: لعبة خطيرة برهانات عالية
أ. الرهان على الهندسات المالية:
السياسة النقدية المركبة: تعاونت المصارف مع مصرف لبنان في تنفيذ “الهندسات المالية”، وهي سلسلة من الإجراءات النقدية المعقدة التي هدفت إلى الحفاظ على سعر صرف الليرة وجذب الودائع بالدولار. تضمنت هذه الهندسات منح فوائد مرتفعة للمصارف التي تودع أموالها بالدولار في مصرف لبنان، مما أدى إلى جذب المزيد من الودائع على المدى القصير.
الاعتماد على تدفق الدولار: اعتمدت هذه السياسات على استمرارية تدفق الدولار من المغتربين ومن المانحين الدوليين، لكن مع تراجع الثقة وتوقف هذا التدفق، انهار النظام بأكمله. هذا الانهيار أدى إلى فقدان المصارف للقدرة على الوفاء بالتزاماتها تجاه المودعين، مما أثار أزمة سيولة حادة.
النتيجة: فقدت المصارف قدرتها على تلبية طلبات السحب، وتم فرض قيود غير رسمية على عمليات السحب والتحويلات. هذا الانهيار المالي تسبب في خسائر ضخمة للمودعين الذين وجدوا أنفسهم عاجزين عن الوصول إلى أموالهم.
ب. المكاسب الشخصية على حساب الاستقرار:
الاستفادة القصوى للمصارف: على الرغم من المخاطر العالية المرتبطة بهذه الهندسات، استمرت المصارف في تنفيذها لتحقيق أرباح سريعة، مع العلم بأن هذا النظام غير مستدام على المدى الطويل. تحقيق هذه الأرباح كان يتم على حساب استقرار النظام المالي، حيث تم تحميل المخاطر المالية على عاتق المودعين والدولة.
الإفلات من المساءلة: عندما انهارت الهندسات المالية، لم تتعرض المصارف ولا مسؤولوها لأي نوع من المحاسبة الجدية. بدلاً من ذلك، تم تحميل المودعين الخسائر، بينما استمرت المصارف في العمل دون تقديم أي تعويض للمودعين الذين تضرروا.
- التلاعب بأسعار الصرف: استغلال الأزمة لمكاسب غير مشروعة
أ. الفرق بين السعر الرسمي والسوق السوداء:
ازدواجية سعر الصرف: مع تفاقم الأزمة، ظهر نظام سعر صرف مزدوج في لبنان: سعر صرف رسمي معتمد من مصرف لبنان، وسعر صرف في السوق السوداء. المصارف استغلت هذا الوضع عبر تطبيق السعر الرسمي على حسابات المودعين بالدولار (ما سُمي بـ “لولار”)، بينما كانت تتعامل مع الدولار النقدي على أساس سعر السوق السوداء، مما أدى إلى فروق شاسعة في القيمة الفعلية للودائع.
التلاعب بالمودعين: هذا النظام سمح للمصارف بتحقيق مكاسب غير مشروعة عن طريق شراء الدولار من السوق السوداء بأسعار منخفضة وبيعه بأسعار مرتفعة، بينما كان المودعون يحصلون على دولاراتهم وفق السعر الرسمي المنخفض. هذه الممارسات كانت بمثابة استغلال مباشر للمودعين الذين فقدوا جزءًا كبيرًا من قيمة ودائعهم.
النتيجة: أدى هذا التلاعب إلى زيادة الاحتقان الاجتماعي والغضب الشعبي تجاه المصارف، حيث شعر الناس بأنهم تعرضوا لسرقة ممنهجة من قبل المؤسسات التي كان من المفترض أن تحمي أموالهم.
ب. تفاقم الأزمة بسبب غياب الرقابة:
الفراغ الرقابي: غياب الرقابة الفعالة من الدولة على سياسات الصرف والممارسات المصرفية ساهم في تفاقم الأزمة. لم تكن هناك إجراءات حازمة لمراقبة التعاملات المصرفية أو منع التلاعب بأسعار الصرف، مما سمح للمصارف بالاستمرار في هذه الممارسات دون أي رادع.
زيادة الفجوة بين الأغنياء والفقراء: نتيجة لهذا التلاعب، زادت الفجوة الاقتصادية بين الأغنياء الذين تمكنوا من الاستفادة من السوق السوداء والفقراء الذين فقدوا قيمة مدخراتهم. هذا التفاوت الاجتماعي زاد من حدة الأزمة وأدى إلى تزايد عدم الاستقرار الاجتماعي والسياسي في البلاد.
- التهرب من المسؤولية: تصفية الخسائر على حساب المودعين
أ. تحميل المودعين عبء الانهيار:
التنصل من المسؤولية: عندما بدأت الخسائر المالية تتراكم بسبب التدهور الاقتصادي وانهيار قيمة الليرة، بدأت المصارف في التنصل من مسؤوليتها تجاه المودعين. على الرغم من أنها استفادت من الفوائد العالية والممارسات المصرفية غير الشفافة، إلا أنها رفضت تحمل أي جزء من الخسائر.
تقليص قيمة الودائع: المصارف بدأت في تطبيق إجراءات غير رسمية لتقليص قيمة الودائع عبر تحويلها من دولارات إلى ليرات بسعر صرف غير عادل، مما أدى إلى خسارة المودعين جزءًا كبيرًا من أموالهم. هذه الإجراءات كانت بمثابة تصفية غير قانونية للخسائر على حساب المودعين.
ب. غياب التعويض أو الضمانات:
رفض تعويض المتضررين: على الرغم من الخسائر الفادحة التي تكبدها المودعون، لم تقدم المصارف أي تعويضات للمتضررين. بل على العكس، استمرت في فرض القيود على السحب والتحويلات، مما جعل المودعين يشعرون بأنهم محتجزون رهائن في نظام مصرفي يرفض الاعتراف بمسؤوليته.
غياب الحماية القانونية: لم يكن هناك أي إطار قانوني يحمي حقوق المودعين أو يلزم المصارف بتعويضهم عن الخسائر. غياب هذه الحماية زاد من ضعف موقف المودعين وجعلهم عرضة لاستغلال المصارف دون أي قدرة على الدفاع عن حقوقهم.
- التواطؤ السياسي والتهرّب من المحاسبة:
أ. الحماية السياسية للمصارف:
التحالف مع المنظومة السياسية الفاسدة: المصارف كانت محمية بشكل كبير من قبل المنظومة السياسية الفاسدة في لبنان، التي كانت تعتمد على المصارف لتمويل الحملات الانتخابية والأنشطة السياسية. هذا التحالف بين المصارف والسياسيين جعل من المستحيل تقريبًا محاسبة المصارف أو إجبارها على تغيير سياساتها.
التواطؤ في القرارات الاقتصادية: الكثير من القرارات الاقتصادية التي ساهمت في تفاقم الأزمة كانت نتاجًا لتواطؤ بين المصارف والمنظومة السياسية الفاسدة. على سبيل المثال، السياسات المالية التي اعتمدتها الحكومات بتمويل من المصارف كانت تهدف إلى تحقيق مكاسب سياسية قصيرة الأمد دون النظر إلى العواقب الاقتصادية الطويلة الأمد.
ب. غياب المحاسبة والعدالة:
الافلات من العقاب: على الرغم من الانهيار الاقتصادي الذي تسبب في معاناة الملايين من اللبنانيين، لم يتم محاسبة أي من المسؤولين عن هذا الانهيار بشكل جدي. السياسيون والمصرفيون الذين ساهموا في خلق هذه الأزمة استمروا في ممارسة نفوذهم دون أي مساءلة قانونية.
تعزيز الفساد المستشري: هذا الإفلات من المحاسبة ساهم في تعزيز الفساد المستشري في النظام السياسي والاقتصادي اللبناني، مما جعل من الصعب تحقيق أي إصلاح جدي في المستقبل. بات اللبنانيون يشعرون بأن العدالة غير موجودة، وأن النظام بأكمله متواطئ ضدهم.
الملخّص:
المصارف اللبنانية، بتواطؤ مع جمعية المصارف ومصرف لبنان، لعبت دورًا مركزيًا في تفاقم الأزمة الاقتصادية من خلال سلسلة من الممارسات الخادعة والمضللة. من خلال تقديم فوائد مرتفعة لجذب الودائع، وتنفيذ هندسات مالية معقدة، والتلاعب بأسعار الصرف، والتهرب من المسؤولية عند حدوث الانهيار، ساهمت هذه المصارف في تدمير الاقتصاد اللبناني وتبديد مدخرات المودعين. التواطؤ السياسي وغياب المحاسبة زادا من تعقيد الأزمة وجعلا من الصعب تحقيق العدالة أو إصلاح النظام المصرفي. النتيجة كانت انهيار ثقة الناس في المصارف والنظام المالي ككل، وتفاقم حالة اليأس والإحباط بين المواطنين.
إعادة بناء هذا النظام تتطلب إصلاحات جذرية وشاملة، تشمل تعزيز الشفافية والمساءلة، وضمان حماية حقوق المودعين، وإعادة الثقة في مؤسسات الدولة والمصارف. كما أن محاسبة المسؤولين عن هذا الفساد المالي، الخونة بامتياز بحق الوطن والمواطنين الأبرياء الذين لم ينغمسوا بالفساد، تعتبر خطوة أساسية لتحقيق العدالة وإعادة بناء الثقة في النظام المالي والاقتصادي للبنان.
المنظومة السياسية الحقيرة والفساد المنهجي: جذر الأزمة المالية والاقتصادية في لبنان
- التحالف بين المصارف والسياسة: بناء نموذج فاسد
أ. المصالح المتبادلة بين المصارف والسياسيين:
الوصف: بعد الحرب الأهلية اللبنانية، انخرطت المصارف اللبنانية بشكل متزايد في تمويل الدولة اللبنانية. الحكومة، المثقلة بالديون والعجز المالي، كانت بحاجة إلى مصادر تمويل سريعة للحفاظ على استمراريتها. من ناحية أخرى، كانت المصارف تبحث عن أرباح سريعة وآمنة. هذا التقاطع في المصالح أدى إلى نشوء علاقة غير صحية بين المنظومة السياسية الفاسدة بامتياز والمصارف. السياسيون استغلوا هذا التحالف للحصول على تمويلات سخية لسياساتهم الشعبوية، بينما استفادت المصارف من عوائد مرتفعة بفوائد غير مسبوقة على سندات الخزينة.
النتيجة: خلق هذا التحالف دورة مفرغة من الديون حيث اعتمدت الدولة بشكل كامل على القروض من المصارف المحلية لسد عجزها المالي، مما زاد من عبء الدين العام وأدى إلى تفاقم الأوضاع الاقتصادية. مع استمرار الدولة في الاقتراض، أصبح الاقتصاد اللبناني رهينة لهذه العلاقة غير الصحية، مما جعل المصارف والسياسيين يحققون مكاسب شخصية على حساب الاستقرار المالي للدولة.
ب. الدور المزدوج لمصرف لبنان:
الوصف: مصرف لبنان، كحامي الاستقرار النقدي في البلاد، كان يجب أن يلعب دورًا رقابيًا صارمًا على المصارف والسياسات المالية. ولكن بدلاً من ذلك، تورط المصرف المركزي في سياسات نقدية معقدة تُعرف بـ “الهندسات المالية” التي كانت تخدم مصالح المصارف والسياسيين. هذه السياسات كانت تهدف إلى الحفاظ على استقرار الليرة على المدى القصير عبر جذب الودائع بالدولار، ولكنها في الحقيقة زادت من التعرض للمخاطر المالية على المدى الطويل.
النتيجة: مصرف لبنان كان جزءًا من المشكلة بدلاً من أن يكون جزءًا من الحل. عبر التورط في سياسات خطيرة، ساهم المصرف المركزي في تضخم الدين العام وأضعف احتياطياته من العملات الأجنبية. عندما انهارت هذه الهندسات، كان الضرر قد حدث بالفعل، مما دفع الاقتصاد اللبناني نحو الهاوية.
- غياب الرقابة والمساءلة: ترسيخ ثقافة الفساد
أ. ضعف الإطار القانوني والتنظيمي:
الوصف: لم يكن هناك إطار قانوني وتنظيمي فعال لمراقبة أداء المصارف أو ضمان الشفافية في السياسات المالية العامة. الهيئات الرقابية مثل هيئة الرقابة على المصارف كانت إما ضعيفة أو غير مستقلة، مما جعلها غير قادرة على فرض أي نوع من المساءلة على المصارف والسياسيين. هذا الضعف الرقابي سمح للمصارف بالتلاعب في حساباتها وإخفاء المخاطر المالية الحقيقية.
النتيجة: نتيجة لهذا الضعف في الرقابة، تفاقمت الممارسات الفاسدة، مثل تضخيم الأصول وتدوير الدين العام بطرق غير مستدامة. المصارف كانت تعمل وكأنها فوق القانون، مما أدى إلى زيادة التلاعب بأسعار الصرف وتفاقم أزمة السيولة.
ب. الإفلات من المحاسبة:
الوصف: في الأزمات المالية التي مرت بها دول مثل قبرص واليونان، كانت هناك محاولات جدية لمحاسبة المسؤولين عن الأزمات. في لبنان، كانت الأمور مختلفة. السياسيون والمصرفيون الذين كانوا مسؤولين عن القرارات الكارثية تمكنوا من الإفلات من أي محاسبة جدية. لم تكن هناك تحقيقات شفافة أو محاكمات قانونية بحق هؤلاء المسؤولين، بل استمرت المنظومة السياسية الفاسدة في تجنب المسؤولية وإلقاء اللوم على الظروف الخارجية.
النتيجة: هذا الإفلات من العقاب رسّخ ثقافة الإفلات من المسؤولية والفساد، مما أدى إلى تفاقم الغضب الشعبي وانعدام الثقة في المؤسسات. الناس شعروا بأنهم في مواجهة سلطة لا تهتم سوى بمصالحها الشخصية، مما أدى إلى تصاعد الاحتجاجات والمطالبة بتغييرات جذرية في النظام.
- استغلال السلطة لتحقيق مكاسب شخصية: الفساد كمؤسسة
أ. استغلال المناصب الحكومية:
الوصف: السياسيون في لبنان لم يكونوا مجرد منفذين لسياسات شعبوية، بل كانوا يستخدمون مناصبهم الحكومية لتحقيق مكاسب شخصية ضخمة. من خلال السيطرة على المشاريع العامة والصفقات الحكومية، تمكن السياسيون من تحويل المال العام إلى جيوبهم الخاصة. المؤسسات العامة مثل مجلس الإنماء والإعمار، ومجلس الجنوب، ووزارة المهجرين أصبحت أدوات لتحقيق هذا الفساد.
النتيجة: استغلال المناصب الحكومية أدى إلى إفقار الخزينة العامة وزيادة الديون. هذه المؤسسات التي كان من المفترض أن تعمل على تحسين البنية التحتية ودعم التنمية، تحولت إلى مراكز للفساد والإثراء الشخصي على حساب الشعب اللبناني.
ب. توزيع المنافع على أساس طائفي:
الوصف: توزيع المنافع الاقتصادية والمشاريع الحكومية كان يتم على أساس طائفي، مما عمّق الانقسامات الاجتماعية والسياسية في البلاد. السياسيون كانوا يضمنون ولاء قواعدهم الشعبية من خلال توزيع المنافع والخدمات على الطوائف المختلفة، مما أدى إلى تكريس الفساد كممارسة مؤسسية.
النتيجة: هذا النظام الطائفي أدى إلى إضعاف مؤسسات الدولة وزيادة الفساد، حيث أصبحت كل طائفة تسعى لحماية مصالحها الخاصة بدلاً من العمل من أجل المصلحة الوطنية. هذا الوضع جعل من الصعب جدًا تنفيذ إصلاحات حقيقية، حيث كان كل تغيير يواجه مقاومة شديدة من الجهات المستفيدة من النظام القائم.

- السياسات الشعبوية والهروب من الإصلاحات:
أ. الإنفاق العام غير المبرر:
الوصف: السياسات الشعبوية التي اتبعتها الحكومات المتعاقبة ركزت على الإنفاق العام لتحقيق مكاسب سياسية قصيرة الأمد دون النظر إلى العواقب المالية. تمويل هذا الإنفاق كان يتم عبر زيادة الدين العام، مع العلم بأن الدولة ليست قادرة على سداد هذه الديون على المدى الطويل. كان هذا الإنفاق يشمل مشاريع غير ضرورية وتوظيف غير مستدام في القطاع العام، مما أدى إلى تضخم فاتورة الأجور وزيادة العجز المالي.
النتيجة: هذه السياسات الشعبوية أدت إلى استنزاف موارد الدولة وتفاقم الدين العام بشكل خطير. بدلاً من الاستثمار في مشاريع إنتاجية تعزز الاقتصاد، تم إهدار الموارد على سياسات تهدف فقط إلى تعزيز الشعبية السياسية دون تحقيق أي فوائد اقتصادية مستدامة.
ب. تجنّب الإصلاحات الضرورية:
الوصف: على الرغم من التحذيرات المستمرة من المؤسسات الدولية والمحلية بشأن ضرورة إجراء إصلاحات هيكلية في الاقتصاد اللبناني، إلا أن الحكومات المتعاقبة فضلت تجنب هذه الإصلاحات خشية فقدان الدعم الشعبي والسياسي. الإصلاحات التي تم اقتراحها كانت تشمل تحسين النظام الضريبي، مكافحة الفساد، وإصلاح القطاع العام، ولكن لم يتم تنفيذ أي من هذه الإصلاحات بشكل جدي.
النتيجة: هذا التهرب من الإصلاحات أدى إلى تراكم المشاكل الاقتصادية حتى وصلت إلى نقطة الانهيار. عدم القيام بالإصلاحات الضرورية جعل الاقتصاد اللبناني أكثر هشاشة وعرضة للأزمات، وهو ما ظهر بوضوح في الأزمة المالية الأخيرة.
الملخّص:
المنظومة السياسية الفاسدة والمفسدة في لبنان كانت العامل الرئيسي في خلق ومفاقمة الأزمة المالية والاقتصادية التي عصفت وتعصف بلبنان. عبر تحالفها مع المصارف واعتمادها على سياسات شعبوية وفساد ممنهج، ساهمت هذه المنظومة الحقيرة في إفقار الدولة وتدمير ثقة المواطنين في المؤسسات. استغلال السلطة لتحقيق مكاسب شخصية، توزيع المنافع على أساس طائفي، والتهرّب من الإصلاحات الضرورية، كلها عوامل ساهمت … في انهيار لبنان!
في الختام، يحّق في هذه المنظومة الفاسدة والمفسدة، وفي جمعية المصارف والمصارف اللبنانية، ما جاء من حِكم على لسان الكاتب علي إبراهيم الموسوي:
لولا تغلّب جُبن الغنم على إرادتها
لما إستطاعت عصا الراعي ونباح كلبه السيطرة عليها رغم كثرتها،
وهذه هي حال الشعوب المتخاذلة ومن يحكمها من رِعاع!
*****
الشعب الذي يُقنع نفسه بأن الخدعة التي إنطلت عليه أكثر من مرة هي حقيقة وليست خداعاً،
هو شعب ميؤوس من صحوته!
في النهاية، الف تحية للشعوب المناضلة بحّق، الف تحية للذين ينفضون غبار الذلّ والمهانة عنهم، الف تحية للذين يقتلعون — بشتّى الوسائل المتاحة — حكومات الفساد التي تخلّف وراءها الجوع والذل والمهانة … لشعوبها! وإذا كان الشاعر محمد الماغوط قد قال: إن وطناً لا يكرّمني جدير بأن يخان … فإنني سأقول: إن وطناً بلا مشانق — للسياسييين والمصرفيين والعملاء والفاسدين والمفسدين الذين خانوا الأمانة — جدير بأن يخان!